لا شىء يحقق مصالح نتنياهو من غزة وفيها، أكثر من بقاء الوضع القائم على حاله المعلقة. أى صيغة لا حرب ولا سلم، إذ أخطر ما يتهدد القطاع لا ينحصر فى العودة إلى القتال، بل تجميد الميدان على قاعدة يتقدم فيها الاحتلال، وتتأخر خيارات التسوية بما يضمن شمولية التعافى وإعادة الإعمار.
تشابهات كثيرة، واختلافات أكثر، وثقة لم يمنحها الرجل المتشكك بطبعه لأحد سواه؛ إذا استثنينا زوجته سارة.
يُعيد التاريخ نفسه؛ إنما كمهزلة فى المرة الثانية، كما قال كارل ماركس. وحكاية فلسطين مع الاحتلال الصهيونى سلسلة من المآسى والمهازل، لا تتوارى حلقة منها إلا لتُطلّ على فواصل مُتقطّعة، فيما تنوب عنها فى الغياب صورة لا تقل وقاحة من السابقة؛ وإن اتّخذت سَمتًا مُغايرًا فى الشكل لا المضمون.
تشيع عن رجل الدولة الفرنسى البارز جورج كليمنصو مقولة أن «الحرب أخطر من أن تُترَك للجنرالات»، وقد جرى تحريفها على صور شتّى، لعل أبرزها أن «الاقتصاد أخطر من أن يُترَك الاقتصاديين وحدهم».
ما الأسد إلا مجموعة خراف مهضومة؛ بحسب العبارة المنسوبة للشاعر الفرنسى بول فاليرى. التاريخ طبقات فوق بعضها، ومن التراكم تتسع الجغرافيا لتفيض على حدودها التقليدية الصارمة،
ربح نتنياهو نقطة جديدة على الجنرالات، عندما اضطرهم لإجبار المدعية العسكرية على الاستقالة، فى ضوء ما تكشف عن دورها فى تسريب مقطع فيديو لوقائع تعذيب سجناء فلسطينيين فى معتقل «سدى تيمان» عقب أحداث طوفان الأقصى قبل سنتين.
ما زالت أصداء الحدث تتردد فى أنحاء العالم، وسيظل أثره المباشر لفترة طويلة، وعوائده الإيجابية فى المقبل من السنوات.
الاحتفالية أكبر وأضخم من أن تحدّها ساعتان، أو يُحيط إطار واحد فى كل ثانية منها بالتفاصيل العديدة،
تبرُد غزّة نسبيًّا؛ فيتأجج السودان، وبينهما لبنان على حرفٍ من القلق. كأن يدًا خفيّة تُسيّر الإقليم وتتلاعب فى مفاتيحه؛ لكى لا يطفو ولا يغرق، ويظل على حال رتيبة بين اليأس والأمل.
لا يمكن أن يختلف اثنان، عاقلان وموضوعيان طبعا، على الأولويات المُعجلة بشأن غزة. وفى حكم البديهية المطلقة أنه لا شىء يتقدم على تثبيت الاتفاق الموقع فى شرم الشيخ، لجهة إنهاء الحرب وبدء مسار التعافى وإعادة الإعمار.
النار مطمورة تحت الرماد؛ لكنها على الأرجح لن تتأجج مجددا، أقله بالصورة التى كانت عليها طيلة الشهور الماضية. وليس الافتراض هنا عن نزعة حمائمية تُستشَف لا سمح الله من سلوك نتنياهو وحكومته.
لا تتأكد القيم إلا عندما تُختبَر. الكلام بطبعه قليل التكلفة، ويُبدده الهواء بأسرع مما ينطقه اللسان. أما المحك فأن يُطابق الخطاب مقتضى الحال، ويُدَلّل عليه بالأفعال.
انتُزعت غزة جزئيًّا من مخالب الضباع؛ لكنها ما تزال مُعلَّقةً فى فراغ مفتوح على كل الاحتمالات. وأخطرها أن تفقد زخم الحرب، ولا تلتحق بموكب السلام. إذ على أهمية إسكات البنادق وإعفاء المدنيين من دوّامة الدم المجانية؛ فإن عدم الانتقال بها إلى السياسة يخدم الجناة ولا ينهى مُعاناة الضحايا.
الواقعية شرط أساسى لتجاوز الواقع، ولا تتنافى بالضرورة مع الآمال والأحلام. وبشكل شخصى أميل دوما إلى التفاؤل، وأرى الفرصة الإيجابية فى أقل فعل مادى، ولا أعتبر التحديات عائقا وجوديا؛ بقدر ما أراها حافزا على الإبداع فى التفكير والتغيير.
قبل شهر فقط كانت الخيوط معقدة، ومنذ عدة أشهر تقدمت أسوأ الاحتمالات إلى الواجهة، وطوال سنتين عاشت المنطقة على فوهة بركان كادت تطيح بالتوازنات الجيوسياسية دفعة واحدة.
اليوم يُمكن القول بقدرٍ من الثقة إنَّ الحرب على غزة قد وضعت أوزارها، وصار نَقضُ اتفاق شرم الشيخ أو الانقلاب عليه أصعب من تحدِّيات تطبيق بقية البنود فى خطة ترامب.
لا أحد يُدانى أهل غزة فى فرحتهم بوقف الحرب إلا مصر وشعبها؛ ليس لأنهم كانوا رعاة الاتفاق بعد شهور طويلة من المماطلة فحسب، ولكن للوجيعة الحقيقية التى مسّت شغاف القلوب هنا.
الأمل معقود على طاولة شرم الشيخ، أن تُنجز المهمة المتعثرة منذ شهور طوال لإنهاء الحرب فى غزة. كل الاحتمالات واردة بالدرجة نفسها، وقد علمتنا سوابق المحاولات أن الإفراط فى التفاؤل لا يكفى وحده.
ما تزال الدائرة مغلقة منذ ثمانية عقود. كأن الزمن لا يتحرك؛ وإن فعل فبالالتفاف على الذات. لا جديد على الإطلاق فى الفضاء الفلسطينى؛ لأن كل ما يجرى اليوم سبق أن وقع وتكرر،
طازجة تحل الذكرى، كما كانت فى يومها الأول. لا ينطفئ وهجها ولا تتقادم؛ بل يُضاف إليها الجديد فى عامها الثانى والخمسين، وقد سيجت الإرادة المصرية حدود سيناء بالقوة الصلبة والناعمة.