يبدو أن العلاقة بين الألم المستمر وضغط الدم المرتفع أكثر عمقًا مما كان يُعتقد سابقًا، فبينما طالما عُدّ كلٌّ منهما مرضًا منفصلًا، تكشف الأبحاث الحديثة أن الرابط بينهما قد يكون متبادلاً ومترابطًا على مستوى الأعصاب والهرمونات والوظائف الحيوية للجسم.
وفقًا لتقرير نشره موقع Medscape Medical News، فإن دراسة حديثة نُشرت في مجلة ارتفاع ضغط الدم أظهرت أن الأفراد الذين يعانون من آلام مزمنة في مناطق متعددة من الجسم أكثر عرضة للإصابة بارتفاع ضغط الدم مقارنة بمن لا يعانون من الألم المزمن، حتى بعد استبعاد تأثيرات العوامل التقليدية مثل العمر، والنظام الغذائي، ومستوى النشاط البدني، والحالة النفسية.
الألم المزمن كعامل خطر خفي
تشير نتائج الدراسة إلى أن الألم المستمر لا يقتصر على كونه عرضًا مزعجًا، بل يمثل حالة فسيولوجية معقدة تؤثر على الجهاز العصبي الذاتي، وتدفع الجسم إلى حالة من “الاستنفار الدائم”، ما يؤدي إلى تنشيط متواصل للجهاز العصبي الودي (Sympathetic Nervous System). هذه الحالة تشبه استجابة الجسم أثناء الخطر، حين يفرز هرمونات التوتر مثل الأدرينالين والنورأدرينالين، التي ترفع معدل ضربات القلب وتُضيّق الأوعية الدموية، مؤدية في النهاية إلى زيادة ضغط الدم بشكل مزمن.
وقد بيّنت الدراسة أن المصابين بألم مزمن موضعي — مثل آلام المفاصل أو الظهر — يواجهون خطرًا أعلى قليلًا للإصابة بارتفاع ضغط الدم مقارنة بالأشخاص الخالين من الألم، بينما يرتفع هذا الخطر بشكل أكبر لدى من يعانون من آلام منتشرة تشمل مناطق متعددة من الجسم، ما يوحي بوجود علاقة تتناسب طرديًا مع شدة وانتشار الألم.
آلية معقّدة تجمع بين الألم والضغط
الألم المزمن لا يُنهك الجسد فقط، بل يُربك توازن الجسم الهرموني والعصبي. فالتعرّض الطويل للألم يؤدي إلى زيادة إفراز الكورتيزول، وهو هرمون التوتر الأساسي، الذي بدوره يرفع مستويات الجلوكوز ويُحدث تغيرات في الأوعية الدموية تسهم في تصلّبها وفقدان مرونتها. هذا التغير البنيوي يجعل الأوعية أكثر قابلية لارتفاع الضغط عند التعرض لأي إجهاد.
ويرى باحثو الدراسة أن هذه الآليات التفاعلية قد تُفسّر سبب فشل بعض مرضى الضغط في السيطرة على معدلاته رغم الالتزام بالعلاج الدوائي، ما لم يُعالج الألم المزمن المصاحب لهم في الوقت نفسه.
الجانب النفسي... عامل لا يقل أهمية
الألم المزمن يرتبط أيضًا بالاكتئاب واضطرابات النوم، وهما حالتان شائعتان لدى المصابين بارتفاع ضغط الدم، فوفقًا للنتائج، ظهر أن نسبة كبيرة من تأثير الألم على ضغط الدم يُعزى إلى تدهور الحالة النفسية المصاحبة، خصوصًا الاكتئاب السريري الذي يصيب ما يقارب 40% من مرضى الألم المزمن.
توضح الدراسة أن هذه الاضطرابات النفسية تؤدي إلى تغيّر في إفراز النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين، مما يخلق حلقة مفرغة: الألم يزيد القلق والاكتئاب، والحالة النفسية المتوترة ترفع ضغط الدم وتُفاقم الإحساس بالألم.
هل يُسبّب الألم ارتفاع الضغط أم العكس؟
هذا السؤال يثير جدلًا طويلًا في الأوساط الطبية، فبعض الخبراء يرون أن الألم المزمن هو الذي يهيئ الجسم للإصابة بارتفاع الضغط عبر تنشيط الجهاز العصبي المستمر، في حين يرى آخرون أن ارتفاع الضغط نفسه قد يؤدي إلى نقص التروية في الأنسجة، مما يسبب آلامًا عضلية وعصبية.
ويشير الأطباء المشاركون في الدراسة إلى أن العلاقة على الأرجح ثنائية الاتجاه: فكل من الحالتين يمكن أن يكون سببًا ونتيجةً للأخرى، لذلك، يُوصى بالتعامل مع الألم المزمن باعتباره عاملًا خطرًا أساسيًا يجب رصده ومعالجته إلى جانب مراقبة ضغط الدم.
فحص الألم ضرورة طبية جديدة
يرى الخبراء أن على الأطباء اعتبار تقييم الألم "علامة حيوية خامسة" تُقاس بشكل روتيني مثل الضغط والنبض والتنفس، لكن التحدي يكمن في أن قياس الألم يعتمد حتى الآن على تقدير المريض الذاتي، وهو معيار غير دقيق.
لذلك، تتجه الأبحاث الحديثة — بدعم من وكالات بحثية كبرى — إلى تطوير مؤشرات حيوية موضوعية لقياس الألم عبر تحليل استجابات الجسم، مثل معدلات نبض القلب وتغيرات الجلد ومؤشرات الالتهاب في السوائل الحيوية. وقد يفتح هذا المجال بابًا لتشخيص أدق وربطٍ أوضح بين شدة الألم وتطور ارتفاع ضغط الدم لدى المرضى.
ما الذي تعنيه هذه النتائج للأطباء والمرضى؟
تؤكد هذه المعطيات أهمية تبني نهج شامل في التعامل مع ارتفاع ضغط الدم، لا يقتصر على الأدوية وخفض الملح، بل يشمل علاج الألم المزمن، وتحسين النوم، والحد من التوتر النفسي. فالجسد والعقل يعملان كوحدة واحدة، وأي اضطراب في أحدهما ينعكس على الآخر.
ويشير الباحثون إلى أن إدخال برامج إدارة الألم والعلاج السلوكي ضمن بروتوكولات علاج ارتفاع الضغط قد يسهم في تحسين النتائج على المدى الطويل، ويقلل من معدلات الإصابة بالمضاعفات القلبية.