بيشوى رمزى

إدارة الخوف أم استثماره.. المعركة الحقيقية ضد الإرهاب

الخميس، 18 ديسمبر 2025 11:00 ص


إذا كان الارهاب يعاد تدويره من قبل جماعات الظلام، في ضوء رغبتها في استنزاف الدول المستهدفة أمنيا واستخباراتيا وسياسيا واقتصاديا، فان البعد المجتمعي ليس ببعيد عن مخططاتها، عبر زرع حالة من الخوف لدى المواطنين، يترتب عليها تقويض الثقة بينهم وبين المؤسسات الحاكمة، وهو ما يعد بمثابة الركن الرئيسي في عملية متكاملة تهدف بالأساس إلى إضعاف الدولة عبر تحقيق تفكك بين عنصريها الرئيسيين (المؤسسة والمواطن)، وهو الأمر الذي يضع الدول أمام خيار في غاية الخطورة يدور حول إما إدارة حالة الخوف المجتمعي أم استثماره، والفارق بينهما في واقع الأمر عظيم، فإدارة الخوف المجتمعي من شبح الارهاب يعني خطوات متواترة ومتزامنة، دون تهوين أو تهويل، على مسارات متعددة، منها ما هو امني وتوعوي ناهيك عن توحيد الجبهة الداخلية، والهدف منها هو إنهاء أو على الأقل تخفيف حدة المخاوف التي تلاحق المواطنين جراء تفشي أعمال العنف، في حين يبقى الاستثمار قائما على استغلال الحالة الراهنة لتحقيق مكاسب سياسية أو حزبية.


ولعل المخاوف المجتمعية جراء تفشي الإرهاب، تصنع خصوما أخرى للدولة، من شأنهم تفريع الانقسام سالف الذكر، إلى انقسامات أخرى، ربما تبدو متوائمة مع طبيعة العمل السياسي للوهلة الأولى، منها تأجيج الصراع بين الأحزاب عبر تبادل الاتهامات بين أطراف المعادلة السياسية، وتعزيز الخطابات المتعارضة فيما بينهم، مع صعود تيارات ذات طبيعة شعبوية يمكنها العمل على تعزيز حالة الخوف، لتحقيق مكاسب ضيقة، فيصبح الشارع نفسه منقسم على العديد من المسارات، منها ما هو سياسي، بين يميني ويساري وليبرالي، تارة وعنصري بين أبيض ولاتيني وأفريقي، تارة أخرى وحتى بين المواطنين الأصليين والمهاجرين، تارة ثالثة فيصبح الانقسام الناجم عن إدارة المعركة ضد العنف، أشد وطأة من تلك الحالة الناجمة عن الإرهاب نفسه، وهو ما يحقق الهدف الذي تسعى إليه جماعات الظلام.


استثمار الخوف المجتمعي جراء تصاعد الإرهاب، يصنع تماهيا، غير مقصود، في أغلب الأحيان، بين العنف ونتائجه، من جانب والأجندات السياسية من جانب آخر، عبر استغلال مثل هذه الأحداث المتطرفة للترويج إلى رؤية معينة، أو برنامج سياسي بعينه، أو حتى في تقديم بعض أطراف المعادلة السياسية أنفسهم باعتبارهم القادرين على التصدي للخطر الداهم، وشيطنة الأطراف الأخرى، وبالتالي يمثل عجزا صريحا في المواجهة، أو حتى في الخروج من معادلات السياسة التقليدية، ذات الطبيعة التنافسية، ولو في إطار استثنائي في سبيل الانتصار في معركة وجودية، مما يساهم بصورة أكبر في استنزاف مقدرات الدولة، على رأسها البنية البشرية، والتي تمثل رأس المال الحقيقي لأي دولة.


فلو نظرنا إلى بداية القرن، نجد أن ثمة نماذج دولية واضحة، في الغرب، فيما يتعلق باستثمار الخوف، أبرزها الحملات الدعائية التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر، وما ترتب عليها من تداعيات دولية، في صورة حروب دامت لسنوات، بينما في الوقت نفسه تركت جرحا غائرا في الداخل، جراء الانقسام وبزوغ ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، فتزايد العنف وازداد الخوف، وصارت الأراضي مستهدفة من جماعات الإرهاب، التي وجدت لها ظهيرا، وإن كان ضمنيا، دون انتماء صريح لها، شكلته تلك الفئات المهمشة أو التي عانت اضطهادا، في تناقض صريح مع الخطابات الحقوقية التي طالما روجت لها الأنظمة والحكومات.


الأمر لا يقتصر على الغرب، فالواقع أن تلك الحالة شهدها الشرق الأوسط خلال العقود الماضية، مرت بالعديد من المراحل سالفة الذكر، بين محاولات استثمار المخاوف لتحقيق المصالح الضيقة لنظام بعينه، سواء في مواجهة الإرهاب، عبر تضييق أمني تارة، وإقصاء تارة أخرى، فانهارت بعضها، وانزلق البعض الآخر إلى مستنقع الفوضى، أو حتى في إدارة ملفات إقليمية حساسة، وهو ما يبدو في ملف العدوان على غزة، والاعتداءات الإسرائيلية الأخرى على دول الإقليم، في إطار استثمار الخوف، من إرهاب حقيقي أو مزعوم، بينما كانت النتيجة في نهاية المطاف هي تجريد المواطنين، أو فئة منهم، من الحماية المكفولة له، حتى أنهم باتوا يشعرون أنهم مستهدفون من قبل حكومتهم في الداخل، ومن خصومها في الخارج.


وأما النموذج الآخر، في النطاق الإقليمي، فهو مصري بامتياز، فالدولة المصرية بلغت ذروة معانتها مع الإرهاب في العقد الماضي، إلا أنها نجحت في الإدارة وليس والاستثمار، فتحركت مجتمعيا، عبر دمج الفئات المهمشة، في عملية تنموية ذات طبيعة مستدامة، وتوحيد الصف، واقتصاديا، عبر مشروعات عملاقة ساهمت في إنهاء حالة التهميش الجغرافي التي شهدتها أقاليم كاملة لعقود طويلة، وفكريا، عبر حملات توعوية، ثم سياسيا، من خلال حوار وطني، يضع كافة أطراف المعادلة السياسية على مسافة متساوية من المسؤولية تجاه الوطن وأمنه واستقراره، ناهيك عن البعد الأمني في إطار ملاحقة عناصر التطرف، وهو بعد محوري في معادلة الحرب على الإرهاب، ولا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال.


النماذج سالفة الذكر تعكس حقيقة مفادها أن التجارب السابقة، باستثناء النموذج المصري في صورته المستحدثة، كانت جماعات الظلام المستفيد الأكبر من سياسات رد الفعل الداخلي، فالعمل الإرهابي ينتهي بمجرد تنفيذه وملاحقة المتورطين به، وأما الإرهاب فأهدافه أبعد من ذلك، فهي تقوم في الأساس على تقويض دور الدولة الرئيسي والقائم على حماية مواطنيها، عبر تصدير صورة ضعيفة لها، وهو ما يخلف الهلع وانعدام الثقة في المؤسسات، وهو ما تعززه السياسات الداخلية، حال فشلها في إدارة الخوف، والتوجه نحو استثماره، حيث يتأجج الانقسام، ليتجاوز علاقة مواطن بحكومته، نحو علاقة مواطن بآخر، وهو ما يهدد بأعلى درجات الفوضى والانهيار في النطاق الزمني المتوسط أو الأطول نسبيا.


وهنا يمكننا القول بأن المعركة مع الإرهاب أبعد كثيرا من كونها مواجهة أمنية مع تنظيمات مسلحة، بقدر ما هي اختبار حقيقي لقدرة الدول والمجتمعات على التعامل مع الخوف الذي يخلفه العنف، فالإرهاب، مهما بلغت قسوته، يظل فعلًا محدود الزمن، بينما تبقى آثاره مرهونة بكيفية إدارتها داخليا، إما تفكيكا يرسخ الثقة ويحمي التماسك، أو استثمارا يوسع دوائر الشك والانقسام، وعند هذه النقطة تحديدا، يتحدد الرابح والخاسر في المعركة، ليس فقط على مستوى الأمن، بل على مستوى بقاء الدولة ذاتها بوصفها إطارا جامعا لمواطنيها، وقادرة على الصمود في وجه العنف دون أن تتحول هي نفسها إلى أحد ضحاياه.

 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة