<< جميل المصري ينتظر ابنه منذ عامين.. أمل لا يموت تحت ركام غزة
<< 9500 مفقود في غزة.. أرقام بلا أسماء وأمهات لا تنام
<< قلوب معلقة بالأمل.. عائلات غزة تبحث عن ملامح أحبّتها بين الجثث
<< متحدث الدفاع المدني: مواطن سألنى عن شقيقه المفقود منذ نوفمبر 2023 ولا نعرف مصيره
<< محمود بصل لـ"المنظمات الدولية": تخيلوا أن لكم أخ أو ابن اختفى منذ سنتين ماذا سيكون شعوركم؟
<< مركز فلسطيني: وثقنا أكثر من 1400 حالة مفقود منذ فبراير 2025
<< الاحتلال يسيطر على 58% من القطاع ويمنع الوصول إلى المقابر الجماعية
<< مطالبات بإدخال المعدات الثقيلة فورًا وانتشال رفات الشهداء
<< مدير المركز الفلسطيني للمفقودين: المفقود هو من لا يُعلم مصيره.. والمخفي قسرًا مسؤولية الاحتلال
بين ركام البيوت المنهارة وصمت المستشفيات المكتظة، تتردد أسماء لا تُحصى على ألسنة العائلات في غزة، أسماء غابت بلا أثر، لا يُعرف إن كانت ما تزال تحت الأنقاض، أم اختُطفت إلى المجهول، أم ابتلعتها الفوضى التي خلّفها القصف، ففي كل حي هناك أمّ تبحث عن ابنها، وأب ينتظر خبرا من مستشفى أو مشرحة، وأخ يعلّق صورة على جدارٍ لم يبقَ منه سوى غبار، هؤلاء هم "المفقودون"؛ الشريحة الأكثر غموضًا في الحرب، لا يُصنفون شهداء ولا أحياء، ويتركون عالقين بين الحياة والموت، يتتبع هذا التحقيق خيوط المأساة التي تتسع كل يوم، من السجلات الغائبة في المستشفيات، إلى المقابر الجماعية المجهولة، مرورا بالأسر التي تحفر بأيديها بحثًا عن أثر لصوت كان هنا، هي حكاية الألم الذي لا يُرى، والموت الذي لم يُعلن بعد.
جراح المفقودين تحت الركام في غزة.. قلوب معلقة بالأمل
وفي أحد مراكز الإيواء المؤقتة بغزة، تعيش عائلة جميل المصري وسط وجعٍ لا ينتهي، فمنذ نحو عامين، فقد الرجل ابنه هيثم، ولا يزال حتى اليوم لا يعرف إن كان حيا أم من بين آلاف المفقودين الذين طمرهم الركام أو غيّبتهم السجون الإسرائيلية، حيث يقول الأب بصوت يختلط فيه الأمل بالحسرة:"إن شاء الله بنروح نتعرّف، نشوف يمكن ابننا مفقود إله سنتين، نسأل الله عز وجل إنه يكون موجود معهم."
يستيقظ جميل وزوجته كل صباح على روتين الانتظار ذاته؛ أخبار عن جثامين تصل من مناطق الاشتباكات أو من إسرائيل، وقوائم طويلة لا تحمل اسم هيثم، ومع كل دفعة من الجثث التي تُعرض للتشخيص، يرافق جميل فرق الفحص أملاً في العثور على أثرٍ لابنه، رغم أن كثيرًا من الجثامين بلا ملامح واضحة نتيجة التحلّل أو التعذيب.
ويقول جميل المصري: "حتى لو ابني شهيد، بدي أشوفه بعيني، أريح نفسي، أنا تعبت وأنا بدوّر صار لي سنتين.، ولا يزال مؤمنًا بأن ابنه على قيد الحياة، مستندًا إلى رؤيا تكررت معه بعد صلاة الاستخارة: "شفت ابني راكب جيب وجاي، أنا بحضنه وبقول له وين كنت؟ بيقول لي كنت محبوس عند اليهود، أنا محبوس"، مضيفا :"أنا إحساسي وقلبي وعقلي بيقولوا لي إنه عايش، إن شاء الله يا رب يكون إحساسي صح."
قصة جميل ليست استثناء في غزة، بل هي مرآة لمعاناة مئات الأسر التي تعيش على أملٍ ضئيل بمعرفة مصير أحبائها، فوسط فوضى الحرب ودمار الأحياء، لا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد المفقودين أو من أخفتهم إسرائيل قسريًا منذ بداية الحرب، لكن منظمات حقوقية تشير إلى أن العدد قد يصل إلى الآلاف، بينهم من أُعدم ميدانيًا أو نُقل قسرًا دون أثر.
وفي الوقت الذي تتواصل فيه المناشدات، يوجه جميل نداءً إلى العالم: "ولا مؤسسة، ولا صليب، ولا إعلام، ولا العالم قادر يحلّنا. نطلب من العالم كله يخلّص موضوع المفقودين، يحصوا الأسرى، الناس الطيبة، الناس اللي عايشة، الناس اللي ميتة داخل السجون. وين الضمير الحي؟"
وفي أماكن تشخيص الضحايا، تؤكد المصادر أن نحو ثلث الأسر فقط تتعرّف على جثامين ذويها، بينما يُدفن الآخرون في مقابر جماعية لا تُعرف أسماؤهم، بل تُستبدل بأرقام، في مشهدٍ يختصر مأساة غزة الممتدة بين الحياة والموت والانتظار.
الدفاع المدني في غزة: إمكاناتنا شبه معدومة لانتشال الجثامين
وفي 11 أكتوبر، أكدت طواقم الإنقاذ في غزة أن 9500 مواطن لا يزالون في عداد المفقودين بعد 735 يومًا من حرب الإبادة، وفي تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، يكشف محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة، عن حجم الكارثة الإنسانية المتفاقمة جراء استمرار العدوان، مشيرًا إلى أن نحو عشرة آلاف جثمان لا تزال عالقة تحت أنقاض البنايات المدمرة في مختلف مناطق القطاع.
ويوضح بصل أن قوات الاحتلال الإسرائيلي ترفض، منذ بداية الحرب، السماح بإدخال المعدات الثقيلة اللازمة لعمليات الإنقاذ ورفع الركام، وهو ما يجعل من الصعب جدًا انتشال الضحايا أو حتى تحديد مصيرهم.
ويقول :"فيما يخص موضوع الجثامين تحت الأنقاض، نحن نتحدث عن نحو عشرة آلاف جثمان متواجدين تحت أنقاض البنايات المدمرة في قطاع غزة، والاحتلال منذ بداية الحرب حتى الآن يرفض إدخال المعدات الثقيلة إلى طواقم الدفاع المدني بشكلٍ قطعي، وهذا بالطبع سيبقي هذه الجثامين تحت الأنقاض إلى أن تدخل هذه المعدات ويصدر قرار سياسي بذلك."
ويضيف المتحدث باسم الدفاع المدني أن العديد من العائلات في غزة تعتقد أن ذويها ما زالوا تحت الأنقاض، لكن الواقع الميداني يشير إلى أن بعض الجثامين قد تحللت بالكامل أو تبخرت نتيجة شدة الانفجارات والصواريخ المستخدمة، مؤكدًا أن "بعض الصواريخ تؤدي إلى عمليات تقطيع أو تبخر للجثامين، وهو ما يجعل عمليات الكشف الدقيقة مستحيلة في الوقت الراهن."
ويؤكد أن ملف الجثامين العالقة تحت الركام لن يُحسم إلا ببدء عمليات الإعمار ودخول المعدات اللازمة، مشددًا على أن هذه القضية ذات أبعاد إنسانية وأخلاقية قبل أن تكون سياسية، وأن طواقم الدفاع المدني تعمل في ظروف شبه مستحيلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وسط الدمار الهائل ونقص الإمكانات.
ويوضح أن "المنازل ما زالت مدمّرة، والجثامين ما زالت تحت الأنقاض، والطرق مغلقة بالركام، فيما تعمل طواقم الدفاع المدني بإمكانات شبه معدومة وسط دمار هائل يغطي كل مكان"، مبينًا أن استمرار غياب الدعم الدولي والإمدادات اللوجستية جعل عمل الطواقم أكثر صعوبة وتعقيدًا.
ويدعو بصل المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية والحقوقية إلى التحرك الفوري والفعّال لبدء عملية إعادة إعمار قطاع غزة وإزالة الركام الناتج عن الدمار الواسع، بالإضافة إلى إدخال المعدات والآليات الثقيلة اللازمة لفتح الطرق وانتشال جثامين المواطنين من تحت الأنقاض، لافتًا إلى أن استمرار منع إدخال المعدات الضرورية يُفاقم الكارثة الإنسانية ويُعيق عمل الطواقم الميدانية، ويُبقي آلاف العائلات تحت وطأة الألم والحرمان، في ظل ظروف معيشية وصحية بالغة الصعوبة.
ويشير إلى أن كوادر الدفاع المدني تعمل بإمكانات محدودة للغاية وسط دمار شمل معظم البنية التحتية والمناطق السكنية، مما يجعل الحاجة إلى تدخل دولي عاجل أمرًا إنسانيًا لا يحتمل التأجيل، مطالبًا بإدخال عاجل للمعدات الثقيلة والآليات الهندسية عبر المعابر دون قيود أو تأخير، وتأمين ممرات إنسانية آمنة لعمل فرق الإنقاذ والطواقم الطبية في المناطق المدمرة، وتوفير دعم لوجستي وتمويلي عاجل لعمليات إزالة الركام وانتشال الجثامين وإعادة تأهيل البنية التحتية، وضمان الحماية القانونية والإنسانية لطواقم الدفاع المدني وجميع العاملين في الميدان.
كما يكشف عن رسالة وصلت له من مواطن فلسطيني يسأل عن أخيه المفقود منذ نوفمبر 2023، لا يعرف إن كان حياً أم تحت الأنقاض أم أسيرا، مشيرا إلى أن هذا مشهد يختصر مأساة آلاف العائلات في غزة التي ما زالت تجهل مصير أحبتها بعد سنتين من الحرب على القطاع.

جثث لا يعرف أحد مصيرها داخل غزة
ويتساءل :"أليس من حق الإنسان أن يعرف أين من فقد؟ هل من الإنسانية أن تبقى الجثامين تحت الركام والمفقودون بلا أثر؟"، متابعا :"هذا الصمت الدولي وهذه اللامبالاة من المنظمات الدولية جريمة أخلاقية وإنسانية، فغزة لا تطلب المستحيل، بل تطلب فقط أن تُعامل كجزء من الإنسانية التي يتغنون بها".
وكذلك يوجه سؤالا إلى مسؤولي ومنتسبي منظمات حقوق الإنسان في هذا العالم: "تخيلوا أن يكون لكم أخ أو ابن، أو أب اختفى منذ سنتين، لا تعلمون إن كان حياً أم أسيراً أم جثماناً محتجزا في مكان مجهول، كيف سيكون شعوركم؟ هل ستنامون ليلًا وأنتم لا تعرفون مصير من تحبّون؟ وماذا كنتم ستفعلون لو بقيت الجهات المسؤولة صامتة سنتين كاملتين دون أن تخبركم بشيء؟"، موضحا أن هذا هو واقع آلاف العائلات في غزة، يعيشون كل يوم على أمل معلّق بين الحياة والموت، بين الرجاء واليأس، لأن إسرائيل ترفض أن تخبرهم أين أبناؤهم.
انتشال 472 جثمان خلال أول 16 يوما من الهدنة
وذكرت صحيفة الجارديان البريطانية، أن الفلسطينيين في غزة يخوضون أصعب مهمة إنسانية في تاريخ الحروب الحديثة، في إشارة إلى الجهود المتواصلة لانتشال آلاف الجثث العالقة تحت أنقاض المباني، لافتة إلى أن نحو 61 مليون طن من الركام تغطي أنحاء القطاع، بينما يعتقد أن ما لا يقل عن 10 آلاف شخص ما زالوا تحت الأنقاض، وقد يرتفع العدد إلى 14 ألفًا.
وأضافت الصحيفة، أن فرق الدفاع المدني والمتطوعون يعملون بأدوات بدائية كالمجارف والمعاول وأيديهم العارية، في ظل منع إسرائيل إدخال الجرافات والمعدات الثقيلة، و نتيجة لذلك، لم يتم انتشال سوى 472 جثمان خلال أول 16 يوما من الهدنة.
وكشفت أن 77% من شبكة الطرق في غزة مدمرة، وإزالة الركام بشكل كامل قد تستغرق سبع سنوات على الأقل، في ظل وجود كميات ضخمة من الذخائر غير المنفجرة التي تسببت منذ أكتوبر 2023 في 147 حادثًا أودى بحياة 52 شخصا.
رسالة سيدة تطالب باستخراج جثث أقاربها من الأنقاض
رسالة وجهتها سيدة فلسطينية إلى الدفاع المدني في غزة، حصل "اليوم السابع" على نسخة منها، تستغيث فيها بضرورة استخراج أقاربها من تحت الأنقاض بعد أن ظلوا شهورا عديدة دون استخراج أجسادهم، حيث تقول الرسالة :" أرجوك ساعدني في استخراج أهلي وأقاربي من تحت أنقاض المنزل فهناك أكثر من 60 شخصاً تحت الركام منذ ديسمبر 2023 وحتى الآن".
رسالة من سيدة فلسطينية لديها أقارب تحت الأنقاض
ويعلق محمود بصل على الرسالة قائلا :" سنتين مضت وما زالت أجساد الأبرياء حبيسة الركام لا أحد يقدر على الوصول إليهم، أي زمن هذا الذي يُترك فيه الإنسان تحت الأنقاض لأشهر طويلة دون أن يُنتشل؟ وأي ضمير يستطيع النوم وهناك عائلات كاملة لم يُعرف لها قبر ولا وداع؟ هذه ليست مجرد مأساة هذه وصمة عار في جبين الإنسانية جمعاء".
توفير فرق طبية لتحديد هوية الشهداء
وأكدت اللجنة الوطنية لشؤون المفقودين في حرب الإبادة بغزة، أن أكثر من 10 آلاف شهيد لا يزالون مدفونين تحت الأنقاض، مطالبة خلال بيان لها في 6 نوفمبر، العالم بإدخال فرق دولية لانتشال جثامين المفقودين، وتوفير فرق طبية لتحديد هوية الشهداء.
كما طالبت اللجنة الوطنية، العالم بإدخال المعدات اللازمة لانتشال الجثامين، مهيبة بالمجتمع الدولي تسريع إعادة البناء بدءا برفع الأنقاض، خاصة أن غزة تحولت إلى أكبر تجمع للمقابر في العالم.
دمار كامل في غزة بسبب الحرب
50 فلسطينيا تحت الأنقاض في حي الدرج منذ شهور
قصة أخرى يكشف عنها المواطن الفلسطيني "شريف أبو محمد"، والذي يعيش من حي الدرج، حيث أصيب في استهداف إسرائيل وكان الناجي الوحيد من عائلته وأصيب ببتر في ساقه، حيث يكشف أن منزله المكون من خمسة طوابق استهدف مع بداية الحرب في شهر ديسمبر، وكان يضم داخله 103 فلسطينيا، حيث يكشف أنه تم انتشال 53 شخصا، بينما لا يزال نحو 50 مواطنا تحت الأنقاض منذ قلك التاريخ، من بينهم 27 طفلا و7 سيدات.
سقوط مباني على رؤوس ساكنيها
وأعلن️ الدفاع المدني بالقطاع، في ذات اليوم، انهيار مبنى على سكانه في حي الدرج بمدينة غزة وعدد من السكان تحت الأنقاض، مشيرة إلى أنها لا تستطيع انتشال المواطنين.
واشار إلى أن آلاف المباني معرضة للانهيار والسقوط فوق رؤوس من فيها من المواطنين، خاصة بعد وفاة عدد من المواطنين جراء انهيار مبنى على من فيه من سكان في مدينة غزة، موضحا أن العائلات تضطر للعيش في هذه المباني نظرا لعدم وجود بديل لها، ولا نستطيع منعها من ذلك دون توفير الإيواء لهم.
مبادرات تطوعية لانتشال المفقودين
من جانبه، أكد مدير المركز الفلسطيني للمفقودين، أحمد مسعود، أن المركز بدأ عمله خلال حرب الإبادة في غزة، تحديدًا في شهر فبراير 2025، مشيرًا إلى أن التقديرات تفيد بوجود ما بين خمسة إلى ستة آلاف مفقود، وقد وثّق المركز بالفعل أكثر من 1400 حالة حتى الآن.
وأوضح مسعود أن ملف المفقودين يعد من أكبر وأبرز المشكلات التي تواجه غزة بعد الحرب، وقد تم إنشاء المركز كمبادرة فردية تطوعية لمساعدة الأهالي في البحث عن أبنائهم المفقودين، سواء كانوا تحت الأنقاض أو من المفقودين قسرًا لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي.

حجم الدمار في غزة
الفرق بين المفقود والمخفي قسرا
وفرق مسعود بين المفقود والمخفي قسرًا، حيث إن المفقود هو من لا يُعلم مصيره على وجه اليقين، سواء كان شهيدًا أم أسيرًا، أما المخفي قسرًا فهناك جهة معلومة قامت بإخفائه، وفي هذه الحالة فإن جيش الاحتلال هو المسؤول عن إخفاء عشرات الفلسطينيين دون تقديم أي معلومات عن مصيرهم لأهاليهم.
التحديات التي تواجه البحث عن المفقودين
وتواجه عمليات البحث عن المفقودين العديد من الصعوبات، من أبرزها نقص المعدات الثقيلة، إذ لم تدخل إلى غزة أي معدات ثقيلة كالجرافات أو الكباشات منذ إعلان وقف إطلاق النار، مما يعيق جهود انتشال رفات الشهداء من تحت الأنقاض، كما يعيق النزوح المتكرر للأهالي عمل فرق البحث الميدانية في الوصول إليهم وتوثيق حالات المفقودين، بالإضافة إلى سيطرة الاحتلال على نحو 58% من مساحة غزة، وهو ما يعرقل الوصول إلى العديد من المناطق للبحث عن المفقودين أو المقابر الجماعية.
مطالب المركز الفلسطيني للمفقودين
وطالب المركز الفلسطيني للمفقودين بضرورة تكاتف الجهود الدولية والإقليمية والمحلية لإدخال المعدات اللازمة لانتشال رفات الشهداء، والضغط على سلطات الاحتلال للكشف عن مصير المخفيين قسرًا، وتقديم معلومات حقيقية عنهم.
بطولات وسط الركام وإمكانات شبه معدومة
وفي قلب الدمار الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على غزة، يقف رجال الدفاع المدني في الخطوط الأمامية، يحملون على أكتافهم مسؤولية إنسانية تتجاوز طاقتهم. يقول أحد أفراد الطواقم الميدانية:"إذا كان هناك وصف أكثر من إبادة وكارثة يمكن أقدر أوصف لك، بسبب الذي نعيشه والمناظر التي شاهدناها ، والشهداء والدماء التى انتشلناها من هنا ومن هناك".
ويصف الرجل مشاهد لم تفارق ذاكرته، حيث أطفال تحت الأنقاض، وعائلات كاملة أُبيدت في لحظة، ومنازل تحولت إلى ركام بفعل القصف المتواصل، قائلا :"الواقع اللي عشناه، بسبب كمية الصواريخ التي ضُربت على مستوى القطاع بشكل عام، وعلى محافظة غزة بشكل خاص، كان فوق كل تصور".
ودفعت الحرب ثمنًا باهظًا من طواقم الدفاع المدني أنفسهم، إذ استشهد 140 عنصرًا من أفراد الطواقم، وأُصيب أكثر من 340 آخرين، بينهم من فقد أطرافه أثناء عمليات الإنقاذ. وبرغم ذلك، ما زالوا يواصلون مهامهم وسط الخراب، بحثًا عن حياةٍ بين الأنقاض، أو جثامين تستحق الوداع.
ويؤكد أحدهم أن ما بين 85 إلى 90% من المهمات التي ينفذونها تستهدف إنقاذ أو انتشال مدنيين بسطاء لا علاقة لهم بأي نشاط سياسي أو عسكري، مضيفًا بمرارة: "نحن نعلم أن هناك أكثر من عشرة آلاف مفقود تحت الأنقاض".
وما يزيد المشهد قسوة هو الغياب التام للإمكانات، حيث بحسب رجال الدفاع المدني، تدمرت أكثر من 85% من مركبات الطوارئ والإنقاذ والإطفاء والإسعاف، كما سويت جميع مقرات الدفاع المدني بالأرض، وبينما يحتاج العمل إلى آليات ثقيلة وجرافات، لا يملكون سوى أدوات بدائية، حيث يقول أحد رجال الدفاع المدني:"بمجرفة، بمطرقة، بكريك، بكوريه، بقادوم صغير، بمهدة، نعمل يدويًا نكسر الركام لننتشل الشهداء من تحت البيوت المدمّرة".
ورغم المخاطر اليومية وانعدام الموارد، يؤكد أفراد الدفاع المدني أنهم مستمرون في أداء واجبهم الإنساني:"على الرغم من الضغوطات اللي عشـناها، ظلّينا مستمرين، وما زلنا مستمرين بالمعدات البسيطة والإمكانات الضئيلة الموجودة".
وتتحول عمليات الإنقاذ في غزة إلى معركة صامتة بين الحياة والموت، يخوضها رجال الدفاع المدني بأيديهم العارية وقلوبهم المليئة بالإصرار، في مشهد يلخص صمود غزة في وجه واحدة من أعنف الحروب التي شهدها التاريخ الحديث.
جرح الحرب المفتوح
وما زالت لمأساة القتل اليومي في غزة وجوه خفية لم تتكشف بعد؛ فالكارثة لا تنتهي عند حدود الموت فقط، بل تمتد إلى فصول أخرى من الفقد، حيث رحل الآلاف بلا وداع ولا صلاة ولا جنازة، وهناك من غابوا دون أثر، ومن عُثر عليهم دون اسم أو هوية، مجرد جثامين شاهدة على حجم المأساة التي اجتاحت القطاع.
ومع كل قصف أو اجتياح إسرائيلي جديد، تُضاف أسماء جديدة إلى قوائم المفقودين ومجهولي الهوية، الذين وصلت أعدادهم – وفق تقديرات الأمم المتحدة – إلى نحو 11 ألف شخص. لكن السؤال المؤلم الذي يتردد على ألسنة الجميع: أين ذهب هؤلاء؟
المفقودون في غزة
وفُقد الآلاف في ظروف معقدة وغامضة؛ بعضهم اختفت آثارهم بعد عمليات اعتقال جماعي نفذها الجيش الإسرائيلي في مناطق بيت حانون وجباليا وخان يونس ومدينة غزة، دون توجيه لوائح اتهام أو محاكمات، فيما دُفن آخرون في مقابر جماعية بعد إعدامات ميدانية نُفذت خلال اقتحامات المدن، من دون أن تعرف عائلاتهم مصيرهم.
وهناك أيضا من لا يزالون تحت الأنقاض، بعد أن عجزت فرق الإنقاذ عن الوصول إليهم بسبب انعدام المعدات الثقيلة القادرة على رفع الأسقف الخرسانية التي طمرتهم أحياءً أو أمواتًا.
وفي مشهد آخر من الفاجعة، سلم الاحتلال 315 جثمانًا مجهول الهوية عبر الصليب الأحمر على أربع دفعات متفرقة، حيث وصلت الجثامين متحللة ودون أي بيانات أو توضيحات حول أماكن اختطافهم أو ظروف وفاتهم، مما جعل مهمة التعرف عليهم شبه مستحيلة في غياب فحوصات الحمض النووي (DNA).
وحتى اللحظة، ترفض إسرائيل تزويد المنظمات الدولية أو عائلات الأسرى بقوائم الأسماء والمعلومات، كما تمنع اللجنة الدولية للصليب الأحمر من زيارتهم أو التحقق من أوضاعهم.
وفي تقرير حديث، حذّرت منظمة "أنقذوا الأطفال" (Save the Children) من أن عدد الأطفال المفقودين يتراوح بين 17 و21 ألف طفل، أي ضعف الأرقام المعلنة رسميًا من الأمم المتحدة والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، مما يعكس فداحة الفقد وضبابية المشهد الإنساني.
ولا توجد حتى الآن أرقام نهائية أو دقيقة في ظل استمرار الحرب، وصعوبة التوثيق، وغياب آليات الرصد المستقلة، لكن ما هو مؤكد أن حجم المأساة يفوق التقديرات، خصوصا في المناطق التي عُزلت تمامًا عن العالم الخارجي لأسابيع متواصلة، تاركة خلفها قصصا من الفقد لا يعرف أحد كيف أو متى تنتهي.
في قلب مأساة تحت الركام نداءات لا تحتمل
في غزة، لا ينتهي الفقد عند لحظة القصف، بل يبدأ بعدها، ففي كل حي مدمر، وفي كل ركام تراكم فوق بيت أو حلم أو طفولة، ثمة أصوات لا يسمعها العالم، أصوات عائلات تبحث عن أحبتها الذين اختفوا تحت الأنقاض، بين الغبار والحديد والظلام، هنا، تتحول الدقائق إلى جحيم، ويصبح الانتظار وجها آخر للموت.
وسط هذا المشهد القاسي، يقف رجال الدفاع المدني بأدواتهم البسيطة وإرادتهم الثقيلة، يحاولون أن يمنحوا الناس شهيق أمل، وأن يلتقطوا ملامح حياة ما زالت عالقة تحت الخراب، وبين هذه النداءات اليومية، تتسلل قصص تمزق القلب، قصص لآباء فقدوا القدرة على النوم لأن أبناءهم ما زالوا هناك تحت الركام.
رسالة محمود بصل
ويقول محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة: "يوميا أتلقى عشرات الاتصالات من مواطنين يطلبون المساعدة لإخراج أبنائهم وذويهم من تحت الأنقاض، لكن ما سمعته اليوم كان أصعب مما تصورت، لم أستطع احتماله".
ويحكى "بصل" رسالة مواطن فلسطيني فقط أسرته تحت الأنقاض، قائلا :" مواطن قال لي بصوت يرتجف من القهر والخوف "بالله عليك يا أبو يحيى.. مش قادر أنام الليل وولادي تحت الردم، اعمل المستحيل عشان تطلعهم"، معلقا على رسالته :"هذا الشاب فقد أطفاله وزوجته ليلة إعلان وقف إطلاق النار، أي قهر هذا؟ أن يناشدك إنساناً أن تنتشل فلذات كبده، وهو يعلم أن ما بحوزتنا لا يتعدى حفارا واحدا وإمكانات شبه معدومة."
ويضيف بصل: "في كل دقيقة نكافح الموت والوقت، نحاول بكل ما أوتينا من قوة ومعدات متواضعة أن نمنح الأهالي بصيص أمل، لكن حجم الكارثة يفوق طاقتنا، وما نشهده يومياً هنا ليس مجرد عمل إنقاذ، بل صراع مع الألم والخسارة والفقدان."
جثث الفلسطينيين تنتشل من تحت الركام بعد الهدنة
ورغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في القطاع، فإن المشهد الإنساني ما زال قاتما ومؤلما، تواصل طواقم الدفاع المدني منذ الساعات الأولى للهدنة انتشال الجثث المتحللة التي ظلت مدفونة لأشهر طويلة تحت أنقاض المنازل والشوارع المدمّرة، في مشهد يلخص عمق المأساة التي خلّفتها الحرب.
هياكل عظمية بدل الجثث
المشهد في رفح وخان يونس مؤلم حد الفجيعة، إذ لم تعد فرق الإنقاذ تنتشل أجسادًا كاملة، بل هياكل عظمية ورفاتًا متناثرة لم يعد بالإمكان التعرف على هويتها.
الصحفي الفلسطيني معين شلولة من خان يونس وصف المشهد قائلاً: "هي ليست عمليات إنقاذ لجثامين، بل انتشال للهياكل العظمية، المشهد قاس حد الوجع، فكل شبر في رفح وخان يونس قد يخفي تحت ترابه قصة إنسان اختفى دون أثر."
ويؤكد شلولة أن مشكلة المفقودين في غزة تفاقمت بعد الهدنة، إذ بات من المرجح أن كثيرين من هؤلاء المفقودين هم أصحاب هذه الرفات، لكن غياب أي وسيلة للتعرف على الهويات يجعل من عملية المطابقة شبه مستحيلة، لتظل مئات العائلات معلّقة بين الأمل واليأس.

حجم الدمار في غزة
كارثة إنسانية وبيئية خطيرة
ويؤكد رائد النمس، المتحدث باسم الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة، أن مسألة وجود أعداد كبيرة من جثامين الشهداء تحت أنقاض المنازل المدمرة تمثل كارثة إنسانية وبيئية خطيرة، متابعا: "نتحدث عن منازل تم استهدافها بشكل مباشر، سواء كانت مبانٍ متعددة الطوابق أو مربعات سكنية كاملة قُصفت فوق رؤوس ساكنيها دون سابق إنذار، ما أدى إلى بقاء جثامين كثيرة عالقة تحت الركام".
ويشير النمس في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع" إلى أن طواقم الإنقاذ تواجه عجزًا كبيرًا في التعامل مع هذه المأساة، موضحًا: "عدم توفر الآليات الثقيلة والمعدات اللازمة يمنعنا من إزالة الأنقاض والوصول إلى الجثث، وهذا يؤدي إلى تحللها وظهور روائح كريهة وانتشار الأوبئة والأمراض. للأسف، الفئات الأكثر عرضة لهذا الخطر هم الأطفال وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة وضعيفو المناعة، ما يجعل الوضع البيئي والصحي بالغ الخطورة".
ويشدد على ضرورة تدخل دولي عاجل قائلًا: "نحن بحاجة إلى جهود أممية لدعم قطاع الإغاثة والدفاع المدني بما يلزم من معدات وأدوات تساعد على إزالة الركام وانتشال الجثامين قبل تفاقم الكارثة".
وعن دور جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، يقول النمس: "نحن نعمل بالتعاون مع الجهات المحلية لتقديم ما نستطيع من دعم في عمليات انتشال الشهداء، سواء في المناطق التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية أو تلك التي هدأ فيها القصف وأصبح بالإمكان الوصول إليها. لكن ما زالت الإمكانيات محدودة والحاجة ماسة للدعم الدولي".
بين ركام الحرب وضجيج "الزنانة"
ورغم توقف العمليات العسكرية رسميًا، فإن طائرات الاستطلاع الإسرائيلية المعروفة بـ"الزنانة" لم تغادر سماء القطاع، لتبقى مصدر خوف دائم للسكان، خصوصًا الأطفال الذين ما زالوا يعانون من آثار الصدمة.
تقول أم فلسطينية نازحة في إحدى خيام خان يونس:"أصوات الزنانة لا تفارقنا، الأطفال يستيقظون مذعورين كل ليلة، يظنون أن الحرب عادت من جديد."
هذا الضجيج المتواصل فوق رؤوس المدنيين، في وقت تُنتشل فيه رفات الضحايا من تحت الركام، يعمق الشعور بأن الهدنة لا تزال ناقصة، وأن السلام في غزة ما زال بعيد المنال.
وبين مشهد الهياكل العظمية المنتشلة من تحت الركام، وضجيج الطائرات الذي لا يغيب، وتكدّس المساعدات في المخازن، يعيش الغزيون مرحلة انتقالية مؤلمة بين الموت والحياة، بانتظار أن تتبدد رائحة الموت ويُفتح باب الأمل من جديد.
جثامين تحت الركام ودمار يعم الأحياء
وبدأ عدد من المواطنين الفلسطينيين بالعودة إلى مناطقهم المدمّرة في شمال وغرب مدينة غزة، بحثًا عن ذويهم المفقودين ومحاولة تفقد منازلهم التي تركوها تحت القصف.
شهادات مؤلمة يرويها العائدون من حيّ النصر ومخيم الشاطئ ومحور الجلاء، حيث وصفوا مشاهد الدمار التي شاهدوها بأنها تفوق الخيال، مؤكدين أن الاحتلال الإسرائيلي تعمّد تسوية البنايات بالأرض وترك الشوارع في حالة خراب شامل.
ويقول أحد المواطنين الذين تمكنوا من الوصول إلى حي النصر: "بعد إعلان انسحاب الجيش، توجهنا لتفقد بيوتنا، فوجدنا دمارًا كاملًا، لا مبانٍ ولا شوارع، فقط رماد وركام، والاحتلال فجّر الأبراج السكنية عمدًا، وشارع النصر أصبح رمادًا بمعنى الكلمة."
ويضيف أن بعض العائلات التي عادت إلى المنطقة لاحظت وجود جثامين متحللة ملقاة في الشوارع، خاصة في محيط برج بوسعرفات ومفترق العيون، لافتًا إلى أن رائحة الموت تملأ المكان، وأن الجثث متعفّنة منذ فترة طويلة.
كما تحدث أحد المواطنين عن مشاهد لا تقل مأساوية، قائلًا إن الوضع صعب للغاية، الأرض مليئة بالحجارة والجثث، شاهدت جثامين كثيرة مرمية على الأرض قبل منطقة الغفري، ولم أستطع الاقتراب أكثر بسبب الخوف من الدبابات والدمار الكبير."
وأوضح مجمع الشفاء الطبي أن فرق الإنقاذ تحركت إلى هذه المناطق لمحاولة انتشال الجثامين التي لا تزال ملقاة تحت الأنقاض أو على الطرقات، في ظل مخاوف من وجود عدد كبير من المفقودين لم يتم الوصول إليهم بعد.
هذه الشهادات تكشف جانبًا مأساويًا آخر من الحرب؛ فبعد توقف القصف، عاد الناجون ليكتشفوا أن الركام لا يخفي فقط دمار البيوت، بل قصصًا لإنسان غاب ولم يُعرف له أثر، في وقت تتواصل فيه جهود الدفاع المدني والفرق الطبية في محاولة لتوثيق أسماء الضحايا والمفقودين وسط دمار شامل وبنية تحتية مدمّرة.
تأثر التربة والبيئة وانتشار الأمراض
من جانبه، يؤكد الدكتور عائد ياغي، مدير جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية في غزة ومنسق القطاع الصحي في شبكة المنظمات الأهلية، أن بقاء جثامين الشهداء تحت أنقاض المنازل المدمرة يشكل خطرًا صحيًا وبيئيًا متصاعدًا. ويقول في تصريحات لـ"اليوم السابع": "معظم هذه الجثث تقع تحت الركام في مناطق سكنية مكتظة، وليس في مناطق زراعية، وهذا يعني أن تحللها قد يؤدي إلى تلوث مباشر للتربة والماء والهواء المحيط بها، كما يمكن أن تنتقل الملوثات إلى المياه الجوفية، ما يؤثر بشكل خطير على مصادر المياه المستخدمة من قبل السكان."
ويضيف: "تلوث التربة لا يقف عند هذا الحد، بل قد يتسبب أيضًا في تلوث المحاصيل الزراعية، وهو ما ينعكس سلبًا على صحة الإنسان عند تناول الخضروات والفاكهة المزروعة في هذه المناطق، كما يمكن أن تنتقل الملوثات إلى المنتجات الحيوانية مثل الحليب والبيض واللحوم." ويشير إلى أن بعض الدراسات أكدت أن تحلل الجثث يمكن أن يؤدي إلى تلوث التربة ومصادر المياه لمدة طويلة قد تصل إلى 40 عامًا.
ورغم أن الأبحاث العلمية لم تثبت بشكل قاطع أن الجثث المتحللة وحدها تسبب تفشي الأوبئة، إلا أن الدكتور ياغي يحذر من أن الظروف الحالية في غزة تجعل الخطر أكبر، موضحًا: "في ظل تلوث محتمل لمصادر المياه، ومع انهيار المنظومة الصحية ونقص الأدوية وتعطل المستشفيات والمراكز الصحية، يزداد احتمال انتشار الأمراض المعدية مثل الكوليرا والإسهال."
ويختتم بقوله: "ما نخشاه حقًا هو أن تتحول الكارثة الصحية إلى وباء يصعب السيطرة عليه، إذا استمر العجز في إزالة الركام وتأخر الدعم الطبي والبيئي المطلوب.
مدينة فوق الركام ومفقودون تحت الأنقاض
لم تعد الحرب مجرد مواجهة عسكرية، بل تحولت إلى استراتيجية ممنهجة لتفكيك الحياة من جذورها، فالتدمير الهائل للبنية التحتية لم يكن نتيجة جانبية للصراع، بل جزءًا من سياسة تهدف إلى شل مقومات الصمود وتجريد السكان من أدنى شروط البقاء، والرسالة التي تبعثها آلة الحرب الإسرائيلية واضحة "لا مكان للحياة هنا".
وتحولت مساحة صغيرة لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا إلى مشهد دمار شامل، أحرقت فيه النيران كل مظاهر الحياة، حيث وثق برنامج الأمم المتحدة للأقمار الصناعية حتى أبريل الماضي تدمير أكثر من 174 ألف مبنى، منها 70 ألفًا دُمرت بالكامل، و19 ألفًا تعرضت لأضرار جسيمة، فيما تضرر نحو 52 ألف مبنى بشكل متوسط.
وتصدرت محافظة غزة قائمة المناطق الأكثر تضررًا بتدمير نحو 47 ألف مبنى، تلتها خان يونس بأكثر من 24 ألفًا، ثم شمال غزة بنحو 39 ألف مبنى، ورفح التي شهدت تدمير 28 ألف مبنى، بينما جاءت دير البلح في المرتبة الأخيرة بـ 18 ألف مبنى مهدم.
الدمار لم يقتصر على المنازل، بل طال جميع أوجه الحياة؛ إذ تضرر نحو 27 ألف منشأة تجارية وأكثر من 2000 منشأة صناعية، إلى جانب قرابة 2000 مسجد وثلاث كنائس، كما شهد قطاعا التعليم والصحة دمارًا واسعًا، حيث تضرر أكثر من 2000 مدرسة وجامعة، إضافة إلى 500 منشأة طبية ما بين مستشفيات ومراكز صحية.
حتى السياحة والبنية التحتية لم تنجُ من القصف، إذ تضررت قرابة 500 منشأة سياحية، ودُمّرت خمس مرافق للصرف الصحي وست محطات لمعالجة المياه، ما تسبب في تفشي الأمراض والأوبئة بين السكان.
وسط هذا الركام الهائل، يبقى آلاف المفقودين مجهولي المصير؛ بعضهم دُفن تحت أنقاض الأبراج المهدمة، وآخرون لم يُعرف عنهم أي أثر منذ شهور، ووفقا تقديرات الأمم المتحدة، فإن ما دُمّر خلال أقل من عامين يحتاج إلى أكثر من 53 مليار دولار لإعادة الإعمار خلال السنوات العشر المقبلة.
وهكذا، تحولت غزة المطلة على شاطئ المتوسط إلى مدينة منكوبة، يحرسها صمت ثقيل يختبئ خلفه حزن على المفقودين، وركام يحكي قصة غياب وطن بأكمله.
إعادة إعمار غزة تبدأ بإصلاح البيئة
فيما يحذر الدكتور علاء سرحان، أستاذ البيئة بجامعة عين شمس، من أن حجم الدمار في غزة لا يقتصر على الكارثة الإنسانية فحسب، بل يمتد إلى كارثة بيئية معقدة قد تتفاقم آثارها ما لم تُتخذ إجراءات علمية دقيقة قبل البدء في عملية إعادة الإعمار.
ويقول سرحان في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع": إن موضوع الوفيات والجثث تحت الأنقاض مأساوي من الناحية الدينية والإنسانية والأخلاقية، فترك الجثامين تتحلل بهذا الشكل أمر بشع لا يليق بالكرامة الإنسانية."
لكنه أشار في الوقت نفسه إلى أن المسألة تحمل أيضًا أبعادًا بيئية خطيرة، إذ يمكن أن تُصنف هذه الجثامين ضمن النفايات الخطرة في بعض الحالات، موضحا أن السبب في ذلك يعود إلى عدم معرفة ظروف الوفاة أو نوعية الأسلحة المستخدمة، مضيفًا:"قد تكون بعض الوفيات ناتجة عن استخدام مواد كيماوية حارقة أو أسلحة تحتوي على إشعاعات أو مواد بيولوجية خطيرة، وهو ما يجعل التعامل مع الجثث والمخلفات في هذه المناطق أمرًا يتطلب دقة علمية وإجراءات وقائية مشددة."
ويؤكد على ضرورة أن تبدأ عملية إعادة إعمار غزة بمرحلة إصحاح بيئي شامل، تشمل تقييم التربة والمياه الجوفية والهواء والمخلفات الصلبة لتحديد مستوى التلوث ومدى الخطورة الكامنة في كل منطقة، قائلًا:"لا يمكن الشروع في الإعمار قبل معرفة طبيعة الملوثات الموجودة، سواء كانت نفايات إنشائية أو مخلفات بشرية أو جثثًا متحللة، لأن كل نوع من هذه المخلفات يحتاج إلى تعامل خاص وفق درجة خطورته."
ويُشدد سرحان على أن أي عملية إعادة إعمار دون دراسة بيئية دقيقة قد تؤدي إلى كوارث صحية وبيئية مستقبلية، نتيجة التعامل العشوائي مع مواد قد تحتوي على إشعاعات أو كيماويات أو ملوثات بيولوجية.
ودعا إلى تشكيل فرق بيئية متخصصة للنزول الميداني وأخذ عينات من التربة والمياه والهواء لتحليلها وتحديد مستوى التلوث بدقة، موضحا أن الإصلاح البيئي في غزة يجب أن يكون الخطوة الأولى نحو الإعمار الحقيقي، لأن إعادة البناء فوق أرض ملوثة أو بيئة غير مؤهلة لن تُعيد الحياة، بل قد تخلق مأساة جديدة على المدى الطويل.