عزيزي القارئ:
عنوان هذا المقال هو من جوامع الكلم النبوية الخالدة، ونظرًا لغزارة دلالاته وإمكانيات سحب تأويلاته لمعانٍ متعددة فقد عمدتُ إلى أن ألفت نظر القاريء مباشرةً إلى أحد هذه المعاني بشكل سريع في العبارة التحتية التي تمثل الهدف من هذه السطور، ومعناه باختصارٍ أن الماء النظيف الطاهر إذا بلغ حدًّا معينًا (قُلَّتين)، ثم وقع فيه كدرٌ أو قذارةٌ أو نجاسةٌ فإنها لا تنفي عنه نظافته وطهارته، ومن ثم يجوز استخدامه ما لم يتغير طعمه أو لونه.
وعليه فإن القبول بأوضاعٍ معينةٍ في مجالٍ من المجالات يمكن رده إلى هذه القاعدة الثمينة لسببين:
أولهما: عدم جدوى جلد الذات تحت وطأة ظروفٍ وسياقاتٍ قاسيةٍ في هذا المجال أو ذاك خشية أن يؤدي ذلك إلى اليأس من النهوض للمواجهة وإيجاد الحلول الممكنة.
وثانيهما: ضرورة أن ندق ناقوس الخطر إذا قلًّ مؤشر القبول بتلك الأوضاع عن (القُلَّتين) في وقتٍ مناسبٍ خشية أن تصير الأمور إلى وضعٍ لا تجدي معه الحلول والجهود، ونضطر أن نتعايش مع عبارات من قبيل (لقد فات الأوان)، (ليس لها من دون الله كاشفة)، (انتهت حلول الأرض وننتظر حلول السماء)... إلخ.
فعلى سبيل المثال يمكننا أن نتفهم أشكالًا قبيحةً من الفساد الإداري لفترةٍ من الزمن في دولةٍ تعاني من التضخم العنيف والدئم طوال عقودٍ كثيرةٍ، لكن لا يجوز أن يصل هذا التفهم إلى حدِّ تقنين هذا الفساد والاعتياد عليه والتكيف معه.
وكذلك يمكننا أن نتقبل سطوة التقنيات الوافدة بدافعٍ من فوائدها الظاهرية في التواصل بين أفراد المجتمع وتوفير بعض مظاهر الرفاهية لهم، لكن في الوقت ذاته فإنه يجب التضحية بهذه التقنيات - كلها أو بعضها - إذا صارت سببًا لتفكيك المجتمع أو وسيلة لتخريب هوية أطفاله وشبابه.
كما يمكننا أيضًا أن نتفهَّم ظهور أشكالٍ فنيةٍ، دراميةٍ أو سينمائية، خاوية المضمون تحت ذريعة ترهُّل الوضع الثقافي العام وعدم قدرتنا على التنقيب عن كتاب مرموقين من طبقة توفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ويحيى حقي، فضلًا عن نجيب محفوظ وطه حسين، ولكن ما لا ينبغي أن نتقبله هو أن تصير هذه الأعمال عبئًا على المدرِّس في فصله، والجامعي في جامعته، والشرطي في دائرته، والقاضي في محكمته... إلخ، وإلا فمتى يبلغُ البنيانُ يومًا تمامَهُ، إذا كنتَ تبني وغيـرُكَ يَهدم.
وسأحاول استنطاق المراد من خلال الإجابات عن تلك الأسئلة البسيطة:
1- ألم يقرر المشتغلون بالعلوم الإنسانية والاجتماعية بأن اللغة هي التي تحمل الحضارة لأي أمة من الأمم، وفي بعض الأحيان هي التي تصنعها وتُبقي على ألقها وتوهجها؟
2- ألم يؤسس الفرنسيون قوميتهم من خلال لغتهم وحضارتهم الفرنكفونية في القارات الثلاثة؟! أليس الإنجليز يحكمون نصف الأرض ظاهريًّا أو ضمنيًّا في العصر الحديث من خلال الحضارة الأنجلوأميركان الحالية.
3- هل يمكننا أن نسحب هذه القاعدة الموجودة في عنوان المقال ونطبقها على حال اللغة العربية في مؤسساتنا التعليمية وواقعنا الأدبي والثقافي وإنتاجنا العلمي والإعلامي بصدقٍ وشفافيةٍ؟
4- وأخيرًا: هل يستطيع صانعو القرار في المشهد الحضاري الراهن الجزم بأن مساحة استخدام اللغة العربية في مجمل الواقع العربي عمومًا، والمصري خصوصًا (أكثر من القُلَّتَين) أم أنه دون ذلك؟
ويمكنني أن أشير بشكلٍ عام بأنه صار واضحًا للعيان أن جميع الأمم في عصرنا الحالي باتت بحاجة ماسة إلى البحث في ذاتها عن مقومات وجودها ووهجها وتألقها إنسانيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا إزاء الأزمات المعاصرة المتلاحقة التي تتعلق بقضايا وجودية شائكة ومتشابكة، لها عديد من الظواهر التي باتت مرتبطة بمصطلحات وأفكار وتساؤلات شهيرة مثل:
مصطلح الإسلاموفوبيا، ومفهوم الصراع بين الأصالة والمعاصرة، وحقيقة الدعوات إلى إعادة النظر في الموروث الديني، وحدود دور الإعلام والفن في معالجة مفاهيم دينية وقيمية خاصة وتصحيحها، وكيف تتعاطي المؤسسات الدينية الكبرى في العالم مع كل هذه الأزمات... كل هذا وأكثر، مما يُطرح على الساحة الفكرية والثقافية على مستوى العالم. أقول بملء الفم: لن يكون ذلك إلا من خلال نظام تعليمي وإعلامي يجعل إحياء لغة التفكير الأم (اللغة العربية) مهمة قومية وحضارية طويلة الأمد.
وسوف أسوق في هذا السياق مثالين فقط، أود أن أبرز من خلالهما قدرتنا - بشيءٍ من التنسيق والإرادة – المساهمة في تعزيز فكرة (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) في إحياء اللغة العربية في واقعنا والنهوض بها في طرائق تفكيرنا، ومن ثم نشعر وأبناؤنا بأننا كتلة صلبة في جدار واقعنا الحضاري المأزوم.
المثال الأول: الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي قال يومًا في بيتٍ رائع من أبيات الفخر والعزة والاعتداد بالنفس، كنا ندرسه في فصول الدراسة قديمًا، يقول فيه:
الخيل والليل والبيداء تعرفنى *** والسيف والرمح والقرطاس والقلم.
يعترف الشاعر فيه لنفسه بمكانتها، فهو الفارس المقدام الذي يمتطي صهوة جواده، ويتنقل في دولته ليلا ونهارا دونما خوف أو وجل، كما يمتدح نفسه بأنه لا يضن بالدفاع عن وطنه وقت الحرب حاملًا سيفه ورمحه، وأما قلمه وقرطاسه فيشهدان له بالشاعرية والفصاحة.
هذا البيت الشعري فيه من العظمة ما فيه، رأيناه في أحد الأفلام السينمائية، عندما يطلب مدرس اللغة العربية (الفنان محمد هنيدي) عقب قراءته للبيت داخل أحد الفصول المدرسية، يأمر الطلاب بشرح هذا البيت فلا يستطيعون، فيأمرهم في مشهدٍ كوميديٍّ مشينٍ بأن يقوم كل طالبٍ في الفصل بصفع زميله على وجهه وقفاه قائلًا: (اللي مش هيطرقع ميتحسبش)، ويتحول الفصل الدراسي إلى ملطشة.
وبدلًا من اقتناص جماهيرية محمد هنيدي في تمرير معانٍ عظيمةٍ ارتبطت في تراثنا بأحد أعظم أبيات الفخر والعزة والكرامة، إذ بنا ينتهي المطاف لنشتكي ونمصمص الشفاه دومًا عند وقع كلِّ كارثةٍ قائلين: يجب أن نحافظ على تراثنا ولغتنا ورموزنا وقيمنا وأخلاقنا وتقاليدنا؟ كيف إذًا والحال تلك؟!! لا أحد يجيب.
المثال الثاني: يتكرر نفس المشهد مع فيسلوف الشعراء أبي العلاء المعري، الذي يُروَى أنه عندما مات وقف على قبره 84 شاعرًا لرثائه تقديرًا له ولما خلَّفه من تراثٍ وحكمةٍ باقية، وهو الذي أبدع في إثارة الحماسة وبث الأمل في القدرة الإنسانية على الابتكار والإبداع دائمًا عندما يقول:
وإنـى وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُـه *** لآتٍ بما لم يستطعهُ الأوائلُ.
فنجد أنفسنا مرة أخرى مع الفنان محمد هنيدي داخل فصل مدرسي، وطالبٌ معلقٌ بالأحبال يتدلى وسط الفصل، وهذا الطالب هو ابن وزير التربية والتعليم، في رمزيةٍ واضحةٍ للضحالة والاضمحلال وسط صخب متسارع للأحداث بعيدًا عن ما يقتضيه المعنى التحفيزي في قول أبي العلاء المعري.
فلا نحن تركنا للقيمة الأخلاقية في البيت الشعري متسعًا للفهم والتقدير والاحترام، ولا نحن تركنا البيت ذاتَه راقيًا صافيًا حتى تمتدَّ إليه أيادٍ جديدةٍ وتعالجه معالجةً دراميةً راقيةً، مع ضرورة التنويه بأن هذين المثالين ليسا تقييمًا للعمل الفني أو لصنَّاعه، وإنما مجرد إشارةٍ خفيفةٌ إلى الفرص الضائعة أو المهدرة بسبب عدم تكامل الرؤى والجهود اصطفافًا لتحقيق هدفٍ واحدٍ: سامٍ ومنشودٍ، فقط لا نحتاج إلا إلى قدرٍ قليلٍ من الاتساق والتكامل والتنسيق لإحياء اللغة العربية في واقعنا، ومساعدة الحكومات المهتمة بصناعة حضارة الإنسان.
وأخيرًا فإنه من حسن الطالع أن أعلنت الدولة المصرية المبادرة الرئاسية الكبرى (بداية جديدة لبناء الإنسان المصري)، لعلها توفر الأرضية الملائمة لصياغة حضارية تقوم على الاعتزاز بهويتنا العربية، راجيًا أن لا نضطر إلى ترديد رثاء اللغة العربية نفسها على لسان شاعر النيل حافظ إبراهيم منذ قرن من الزمان عندما قالت:
وَلَدْتُ وَلَمَّا لَمْ أَجِدْ لِعَرَائِسِي *** رِجَالاً وَأَكْفَاءً وَأَدْتُ بَنَاتِي.
فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني *** أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحينَ وَفاتي.
إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ *** بَسَطتُ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي.
فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المــَيتَ في البِلى *** وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي.
وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ *** مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ.
وللحديث بقية بإذن الله تعالى.