سين حاء راء.. اسمى سحر .. لا لا نعم ينتهي بحرف الراء وتتوسطه الحاء ولكن طول حياتى أصحح حرف السين، لم يعد اسمى ينطق كما اعتادت مسامعكم، تعلمت نطقه بإتقان منذ اليوم الأول من المدرسة، كانت أمى كل صباح تنطق مخارج حروفه بطلاقة وهي تجدل خصلات شعري الكستنائية، تعلمت أن أنطق الحرف الأول متكأة على الكسرة كى لا تهرب منى السين، أنطق الحروف الساكنة والمتحركة بتأنٍ متقن، ومن هنا شعرت بالمسئولية اللغوية، أصحح حروف اسمى كل يوم عشرات المرات، حتى اعتدت التدقيق في اللغة، فالخطأ في وضع الفاصلة أو تشكيل الحرف يغير القصد ومن ثم يفسد المعنى، التحذلق ليس عادة من عاداتى، كما يظنها ميمى، يعلم جيدا أننى أقرأ كل كلماته عبر برامج الدردشة بعناية وأضحك على أخطائه النحوية وتداخل الباء في الياء، بسبب كتابته السريعة أو نظره الضعيف، يعلم أننى أفعل ذلك وأنا أجدد طلاء أظافري، باللون الذي يحبه أو أحببناه معا، أو وأنا أنظر لقصة شعري الجديدة فى المرآة، التى اختارها معي بعناية، بينما هو منهمك في كتاباته وإرسال وروده اليانعة كل صباح، سأحدثكم عن ميمي بعد قليل.
تمت تسميتى بهذا الاسم العجيب في معناه والغريب في طريقة نطقه، بأمر من جدتي لأبي، علمت من أمي أنها كانت قوية الشخصية، صعيدية الهوى، رقيقة الملامح، ترتدى ملابس الرجال وتركب الخيل وتبارز الفرسان في الموالد، ماذا لو تعلمون أن اسمها حسن، أظنكم تمزحون وتتعالى ضحكاتكم ولكنها كانت تصحح اسمها مثلى بضم الحاء، وهى تشير إلى شامة صغيرة أسفل شفتها القرمزية، مرددة بكل فخر أنا ست الحسن، آخر زهرة في شجرة أنساب الغجر، نعم كانت جدتي عجرية أذكر ملامحها جيدا بشعرها الكستنائى المجعد، ماتت جدتي محتفظة بسر لم تبوحه لأحد، يؤرقنى دائما ويؤلمنى أحيانا، عندما اشتد عودى بدأ شغفي بالقراءة، وزاد فضولي، عندما علمت أن جدتي كانت متقنة إفساد ما يصنعه السحرة، ماهرة في استخدام أدوات السحر، كنت أغتنم إجازتي الصيفية لأنبش في كنوزها بمنزلها الصغير الذى لا تفتح أبوابه إلا أيام معدودات كل سنة، في صندوقها الخشبي المزين بالنجوم النحاسية الدقيقة وجدت أوراقا متهالكة تكاد تقسو عليها الأصابع الرقيقة بمجرد اللمس، جمعت كل أوراقها وذهبت بهم لخبير ترميم ومن ثم حاولت فك الطلاسم ولكن دون جدوى، احتفظت بهم كما احتفظت بكل حليها وإكسسواراتها وإن كانت غريبة إلا أنها فريدة مميزة، نسيت أن أخبركم أننى الحفيدة الوحيدة لحسن، لذلك كانت تولينى اهتماما بالغا حتى فارقت عالمنا وأنا في سن السادسة عشرة من عمرى.
كانت أمى دائما ما تطلب منها الدعاء لى بفارس أحلام ولكنها كانت تردد : "دا قدر ومكتوب فارسها روح، روح مربوطة بروحها.. لا بالجمال ولا بالمال.. روح حبتها قبل ما تشوفها.. عشقتها من غير ما تعرفها" كلماتها لا تثير اهتمامى ولكنها رنانة كصدى الصوت، كلما اقترب قطار المشاعر من محطاته، أجده يسير بسرعة وكأن كلمات جدتي أجراس المحطة، سنوات الجامعة تتلوها سنوات ولم ترفرف أجنحة فؤادى مرة واحدة، كنت أعشق مسجد السيدة زينب منذ ريعان الصبا أقف أتوسل وأدعو لله وأنا موقنة بالإجابة هكذا علمتنى جدتى عندما كانت تأتى عندنا بالقاهرة بداية الدراسة من كل عام تعطينى المصروف وتغدقنى بالهدايا وتزور السيدة زينب وتركب القطار مغادرة إلى الصعيد.
ذات يوم وجدت سيدة تجلس في خلوة خارج المسجد تلبس من الحلى ما يطابق ميراثى من جدتي، حاولت أن أقترب منها خطوة بخطوة، قصصت عليها حكايتى فتمتمت بكلمات جدتي تماما، وكأنها صياح ديكة في فجر جديد قائلة : "الروح مربوطة بروحك لا بالجمال ولا بالمال" نظرت إلى عينيها الغائرتان ولم أستطع الانتظار حتى تكمل عبارة جدتى التى أحفظها جيدا، انتابتني قشعريرة وارتجف جسدى وكاد أن يغشى علي، عزمت على مغادرة السيدة العجوز بل والمكان أجمع، في الوقت نفسه كانت طلبات أساتذتى تطاردنى، أبحاث نقدية وأخرى لغوية، كيف لى أن أنول درجة الدكتوراه وأنا لم أنتهِ من كتابة أبحاثي، ظللت أطوف في صفحات الإنترنت أحلق في المواقع المتخصصة، أغوص في عالم اللغويات وأتسلق جبال النقد الشاهقة، هنا عرفت ميمي ذلك الشاب الذى خالط لحيته المشيب، يعرفنى جيدا دون أن يرانى، أكاد أعرفه منذ زمن بعيد دون أن أنظر في عينيه مرة واحدة، تربطنا شبكة عنكبوتية تظهر فيها ملامحه خلف الكيبورد بينما أختفي أنا خلف صورة كرتونية مبهمة الملامح، تجذبنا الأحايث سنوات دون أن نتقابل، يشعر من ناحيتى بأريحية مفرطة، سر سعادته، وكأنه يعرفنى من زمان بعيد، هكذا قال ميمي عندما قابلته بعد أربعة أعوام من التعارف دون أن يرى صورتي مرة واحدة، فنظر في عيناي مرددا: "روحي مربوطة بروحك لا بالجمال ولا بالمال روح حبتها قبل ما أشوفها.. عشقتها من غير ما اعرفها".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة