ناهد صلاح

يوسف .. بيروت المريضة بالحرب

السبت، 16 أكتوبر 2021 08:57 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بيروت مؤخرًا، ليست كما في الشعر والأغاني والأفلام الكلاسيكية، لا هي جميلة ولا هي حرة، بل هي مدينة تشيكوفية فيها لوعة، مشتتة الفكر، مغمورة بالعوز والفقر وفوق الملمح التشيكوفي، مبهوتة من شدة الهوان والخوف والعنف والسلاح.
 
ربما يرى البعض أن ما يحدث ليس جديدًا على المدينة التي اعتادت من حين لأخر أن تلملم أشلاء أبنائها، ليس هناك أقسى من هذه الصورة عن بلد لا يندمل جرحه، لكن مع لعبة القتل المباغتة التي اشتعلت في شوارع بيروت، مع فزع أطفال المدارس، صراخهم واحتمائهم بالجدران من صوت الرصاص بالخارج، مع اصطياد القناصة فوق الأسطح للمارة، أو لأسرة في منزلها، يصبح المشهد السريالي هو الواقع تمامًا، عند الحد الفاصل بين ماض لا ينمحي وحاضر مثقل بالجرائم المفتوحة على الاحتمالات الصعبة، حاضر على خط التماس.
 
خط التماس، التعبير المرتبط بالحرب الأهلية في منتصف السبعينيات، صار يتردد الآن مجددًا بين أبناء وأحفاد الذين عاشوا أهوال الحرب الغابرة، كما لو كان كُتب على اللبنانيين أن يتعودوا على مصطلحات الحروب، يألفوا الموت والقنص والقتل في أزمنة متعاقبة، مُسيجة بطائفية وغموض يكتبان فصولًا من السيرة اللبنانية.
  
لحظة إندلاع المشهد الصادم والحاد، كنت قد انتهيت من إعادة مشاهدة الفيلم اللبناني "يوسف"، الفائز بجائزة  أحمد الحضري للعمل الأول في المسابقة العربية للدورة 37 من مهرجان الإسكندرية، بينما انتابني السؤال: إلى أي مدى يمكن أن تكون أثرت الحرب الأهلية اللبنانية القديمة على مخرج الفيلم كاظم فياض، وهو ينتمي إلى جيل مختلف (وُلد عام 1994)، إذ بي أستفيق على حرب صغيرة جديدة، تنقلها شاشات الأخبار، لأنتقل من الفيلم إلى واقع المتاهة وأتذكر زيارتي الأخيرة لبيروت منذ نحو ثلاث سنوات، كنت ضمن فريق فيلم وثائقي يُصور بعض مشاهده في شوارع بيروت، حين رأيت في مناطق مختلفة وفي وضح النهار شبابًا يتحركون بصورة عادية وهم يحملون مسدساتهم، دون أن يلتفت إليهم أحد أو يندهش كما فعلت أنا، فكما قلت إنهم صاروا جزء من الصورة اليومية العادية، من قبل كان من الممكن أن تصادف شخصًا أو اثنين، لكن على حظي هذه المرة صادفت كثيرين، ولما سألت عنهم، قالوا لي: "هؤلاء تبع جماعة فلان" و"هؤلاء تبع جماعة علان"، فتأكدت أن هيستيريا الطائفية كامنة، تنتظر لحظة تدحرج كرة النار.
 
وهو الأمر الذي تناوله عددًا من نتاج السينما اللبنانية، مشيرة إلى تحولات المجتمع اللبناني، إثر تنامي العنف الأهلي، أفلام تناولت أعوام الحرب ومناخها وتفاصيلها، وأفلام المشهد بعد الحرب وحاولت تقديم قراءة لما حدث، وما تركه من أثر، وهنا يأت فيلم "يوسف"، ليكون إضافة أخرى في سينما لا تقوم بالتنظير، بل انعكاس لانفعال ذاتي، ربما غضب نابض بقوة الوجع في مجتمع أعياه التمزق والجنون.
 
 "يوسف" هو النموذج اللبناني، الموزع بين أحلامه وواقعه القاسي، يقول جملته القاطعة:"عم بنخاف ننام، عشان ما نحلم فيها".. يوسف فعلًا لا ينام، ويعيش حياتين، حياة في واقعه وأخرى في أحلامه، لدرجة أنه يخلط بينهما، لنعرف أن بطل فيلم يعاني من مرض نفسي اسمه "خلط الواقع بالمنام"/ Dream Reality Confusion)، عدم التمييز بين الحلم والواقع، أيهما الحقيقة، لا يعرف يوسف الذي ينام أيامًا طويلة، ويستيقظ على أحداث يتأرجح معها ونعيشها معه في مضمون إنساني ملتبس الأبعاد الدرامية، حسب السيناريو الذي شارك كاظم فياض في كتابته مع حسين حيدر وعلي منصور، وقام ببطولته: حسين حيدر، فايز قزق، ختام اللحام، محمد فوعاني، إياد نور الدين، وسام صباغ وآخرون.
 
إختار فياض بعد عدة أفلام قصيرة، أن يكون موضوع فيلمه الطويل الأول، شديد الحساسية، من ناحية الكشف عن مدينته كسوق للسلاح، ومن ناحية الواقع الصعب الذي يعيشه أهل المدينة، إنها خلطة العنف والحالة النفسية الناجمة عنه، ومن هذه الخلطة يطالعنا يوسف طالب الجامعة العشريني، محور الحكاية التي يسردها الفيلم بعد أن يكتب على تيتر المقدمة "مستوحى من أحداث حقيقية"، لتتوغل الكاميرا في إطلالة بانورامية للمدينة من أعلى، كاشفة لأسطح البيوت الفقيرة، قبل أن تدخل هذه البيوت ونرى حالتها التعسة، الدالة على حال مجتمع مُبِتَلَى، لا يرى الأخرون عادة سوى صورة براقة أخرى، لا تعبر عن الأغلبية التي تعترك مع الحياة، ومنهم من يتعثر في مشاكل نفسية، وهو من قدم لهم الفيلم إهداء في تيتر النهاية " إلى كل من يعانون من اضطرابات نفسية وأمراض عقلية".
 
بين تيتير البداية وتيتر النهاية، تدور الحكاية التي تدعم الموجوعين، وتدعوهم للتعبير عن أوجاعهم، مثلما فعل يوسف الذي ذهب للعلاج النفسي، وشارك أستاذه بالجامعة في قصته الغريبة، حيث نراه في بداية الفيلم يحاول إنقاذ شقيقه "فراس" الذي تعرض لإطلاق الرصاص، لكن الشقيق يموت ويقوم بدفنه، ثم نرى بعد ذلك أن شقيقه حيًّا ما يزال، ويحاول أن يحميه من مافيا تجارة السلاح التي تعمل بضراوة في لبنان وسوريا، فيتأرجح المتفرج كما يوسف بين ضفتي الحكاية الملتبسة، أيهما الوهم وأيهما الحقيقة؟.. بين يوسف الذي يسعى لحماية فراس، ويوسف الذي يتاجر في السلاح، وندور معه في مواضيع أساسية في الحياة اللبنانية، منها الفقر، تجارة السلاح، سرقة أعمار الشباب، رحلة سينمائية تتماس مع اليومي الإنساني والاجتماعي والسياسي.
 كاظم فياض في هذا الفيلم، مسكون بذاكرة الحرب القديمة، حرب لم يعش تفاصيلها البغيضة، لكنه مثل رفاقه من أبناء جيله، ذاق مرارتها بشكل أو أخر، فآثارها متغلغلة بين الجدران والبشر، لم تنته بالنهاية المعلنة للحرب الأهلية.. كاظم يرتبط بمدينته العجيبة ويسعى جاهدًا لنسج حكايته معها، عن غضبه منها وحبه لها، لعبة المد والجزر بينهما، عن تفاصيل كثيرة لا تزال عالقة في شقاء الحاضر الطالع من أمس ملتبس، الشقاء اللبناني المصنوع من غياب الأجوبة في بلد عاجز عن الخروج من حرب كبيرة خاضها، أتلفت وجدانه وتسللت إلى مستقبله في صور أخرى، لتنل من شباب يحملون أجسادهم وأرواحهم، بحثًا عن هوامش العيش في هذا المجتمع الخانق والمدمر.
 
قدم فياض ما يملكه من حب وغضب وألم، ورسم مشهده السينمائي بمشاعر مؤثرة، متكئة على صورة خاصة تُعلي من الحكاية ونمطها المازج بين الواقع والخيال. هناك مشهد مؤثر، مباشر بوضوح قاسي بدا لي أنه الانعكاس الأقوى لفكرة الفيلم: يوسف يقف في مواجهة أستاذه الجامعي وهو يخبره أن الفرصة لا يمكن أن تأتي طبق من ذهب، قائلًا:" الفرصة بتخوف"، ليرد عليه يوسف بحدة وبلا توقف: بتخوف؟! ثم متسائلًا عن معنى للخوف بالنسبة له، هل هو أن يتأخر عن موعد عمله، أو ألا يسافر مع زوجته؟! ليسترسل في شرح الخوف الذي يتضمن عدم الأمان، خذلان الحياة المتمثل في كل شيء حتى في سقف البيت غير المضمون أن يبق لليوم الثاني، أو امتلاك المال للفحص الطبي، أو حتى لدفع ثمن ساندويتش قد يكلفه ثمن مواصلاته كي يعود إلى البيت.
 
ديالوج موجع، لكنه كاشف للحال التعس الذي يعيشه، والذي ينهيه بجملته المؤكدة:" نحنا الفقرا، خوفونا نطالب بحقوقنا اليوم، عشان ما نفوت بجهنم الحمرا بكرة".. هذا المشهد يتواصل لاحقًا مع الخاتمة التي جمعت صورة يوسف وأخيه ورفاقهما من الشباب في مركب داخل البحر، ومنها إلى صوت الأستاذ الجامعي كما لو كان يستكمل حديثًا سابقًا، يشرح فيه عن الفرص التي يضيعها البشر، بينما يوسف في الصف ينظر إليه نظرة زائغة. مشهدان اختزلا رؤية الفيلم وشكلا مفتاحًا له، مرة بالكلام ومرة بتعبير صامت يُخفي الغضب والرغبة في الانعتاق.








الموضوعات المتعلقة


مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة