ناهد صلاح

خمسة أبواب للدخول إلى فيلم وش القفص

الإثنين، 11 أكتوبر 2021 09:45 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

إنه من الصعب حقًا النظر إلى عمل ما من زاوية واحدة، لأنه غير أن هذه النظرة ستكون ضيقة وغير شاملة، فإنها أيضًا ستبدو غير مجدية بمفردها في تقييم أو تفسير العمل، كلامي هذا ينطبق إلى حد كبير على فيلم "وش القفص" قصة وإخراج دينا عبد السلام، الروائي الطويل الذي مثّل مصر مؤخرًا في مهرجان الإسكندرية لسينما دول البحر المتوسط، فرؤيته فيلمًا بميزانية منخفضة كمدخل وحيد للتعرف عليه، غير كافِ، وربما يتسبب في بعض العتمة أكثر من التنوير صوب تجربة لها أكثر من باب للدخول.

 أول هذه الأبواب أنه فيلم سكندري بامتياز،  فأغلب طاقم العمل فيه من "الاسكندرانية"، ومكان الأحداث هي مدينة الإسكندرية، وإن كان الموضوع ليس محليًا يخص المجتمع السكندري وحده، لكنه خرج من خصوصية هذا المجتمع ليطرح قضية إنسانية عامة بتشعباتها المختلفة، ومن هذه الزاوية يعد أحد أفلام الإنتاج السكندري القليلة، في مقابل الإنتاج القاهري الوافر والذي قدّم الإسكندرية كموضوع أو كموقع تصوير، والمسألة هنا ليست "خناقة" بين القاهرة والإسكندرية كما يبدو للبعض، بدليل أن دينا عبد السلام في فيلمها هذا اعتمدت أيضًا على بعض الأسماء القاهرية، لكنه نوع من الاحتفاء بمدينة لها تفردها التاريخي والجغرافي وحتى السينمائي، فلا أحد ينكر أن أول عرض سينمائي في تاريخ مصر، كان في بورصة طوسون بشارع فؤاد - مركز الإسكندرية للإبداع حاليًا-، وكذلك هو نوع من التوثيق للإنتاج السكندري الذي يتطلع إلى أفق أرحب وفرصة لحركة سينمائية نشطة في المدينة، تتواصل مع القاهرة ومع فضاءات السينما عمومًا.

  الباب الثاني منه ندلف إلى دينا عبد السلام كامرأة مثابرة، دؤوبة، تسعى كي تنضم إلى أسماء نسائية تزخر بها السينما المصرية حاليًا، ما يعيدنا إلى أن السينما المصرية في الأصل امرأة، وإن رآها البعض تجاوزًا لغويًا، فلابد من العودة إلى نقطة البداية، حيث قامت هذه السينما على أكتاف نساء، استطعن إقتناص مساحة شديدة الخصوصية تحركن فيها بجرأة: بهيجة حافظ، عزيزة أمير، فاطمة رشدي، آسيا، كُن في طليعة سينمائيين، نساء ورجال، هيأوا حياتهم وأحلامهم كلها للسينما.

 هنا تظهر دينا كصانعة أفلام طموحة، لا تتعثر في فخ الإنتاج القاسي، بل تجتهد في تقديم أعمالها، لا يعيبها قلة الإمكانيات المادية أو الميزانية المحدودة، وإنما تحاول في حدود المتاح أن تشبع إلى حد كبير شغفها بالسينما، وأهم ما يميزها هو هذا المنحى الإنساني الحاضر في أفلامها بأشكال متفاوتة، لكن الأسلوب واحد يؤسس لمشروع ينحاز إلى البشر العاديين، البسطاء: أحاسيسهم، أحلامهم، سلوكياتهم اليومية.. مشروع يبدو كاشتغال سينمائي استعارة من عالم الحواديت الكلاسيكية، بكل ما تحتويه من بساطة وتوق لمعرفة التفاصيل والأحداث، إضافة إلى نهج درامي يمتزج فيه الواقعي بالكوميدي، وهذا ما نلحظه في أفلامها السابقة، سواء روائية قصيرة أو تسجيلية مثل "ألف رحمة ونور"  (2014)،  كان وأخواتها  (2016)، أو فيلمها الروائي الطويل الأول "مستكة وريحان" (2017).

 المنحى الإنساني إذن هو الباب الثالث الذي يُفضي إلى فيلم "وش القفص"، والدخول إلى عالمه الذي لا يتسم بصرامة سردية، وإنما يسير وفق هذه الغلالة الفاصلة بين الحلم والواقع، وبناءً على ذلك ربما يصير ممكنًا فهم رغبة المخرجة وهي المؤلفة أيضًا في الحكاية السهلة، التي تعتمد تسلسل الأحداث، إنطلاقًا من رؤية حميمة، ألزمتها بدورها أن تتبع أنواع القص البصري المألوف، لتحقق مرادها في جعل التعبيرات تأخذ بعدًا متصاعدًا، وصولاً إلى الذروة، هذا الوصول  هو في الحقيقة تأكيد على حقيقة لم تفارق الفيلم، وهي حقيقة صادمة ومؤلمة في آن واحد، مردها قسوة الواقع التي تجعل الناس يتخلون عن صورتهم الإنسانية.

 هذه الصورة التي قدمها الفيلم على مقربة جغرافية ونفسية من بشر يتداولون أيامهم بثقل، يحاولون أن يتحايلوا عليه، بينما يصبح الفيلم في حد ذاته  مساحة لطرح الأسئلة الإنسانية، تتسلل من الوجوه وأركان البيوت الصغيرة والشوارع والكيانات الصغيرة التي تتوارى في ظل كيانات أكبر، إضافة إلى ثباتها عند نقطة معينة لا تسعى إلى مغادرتها وتطوير أحوالها، كما "شركة الإحسان للمربى" التي تنطلق منها حكاية الفيلم ويخرج من أركانها أشخاصه، تلك الشركة التي نشأت مبشرة بعالم جديد مبهج، ثم تحولت بمرور السنوات وتحولاتها إلى أطلال تحوي مجموعة من الموظفين، يعانون شظف العيش، يلتزمون بالطريقة القديمة في الإنتاج، حتى أنهم لا يتناولون ما ينتجونه من مربى، مثلما يفعل مدير المصنع الذي يُفضل تناول العسل الأسود.

  يستهل الفيلم حكايته بتقديم شخصياته واحدة تلو الأخرى، يقدمها الراوي بما يصنع من أجواء حميمية كما في عالم الحواديت، ذلك العالم الذي يباشره الفيلم بأجواء الأبيض والأسود، ثم يتغير تدريجيًا إلى عالم جديد بألوان أخرى تناسبه، وتناسب إيقاعه الأسرع في التغيير الذي نلمسه من اسم المصنع "نسائم البستان" إلى جديده "مربى الإحسان"، ومن مالك المصنع المنشرح، المتفائل بالقادم، إلى عائلته التي لم يتبق منها غير ابنته التي تعافر مع حفيدتها المتغطرسة، المشغولة بالمظاهر، ومن هنا يقودنا الفيلم في رحلة تثبت لنا أن الألوان ليست دليلًا كافيًا على الجمال، فثمة تحول حدث وشوه الحياة، نلمسه في مباشرة الفيلم بتقديم ناسه كيف كانوا وكيف أصبحوا، من الوحدة إلى عقوق الأبناء، العنوسة إلى البخل إلى الظلم، إلى السرقة إلى الغرور وخلف كل ذلك الحاجة إلى المال: سيدة عجوز تحلم بأداء الحج، سباك مطرود من عمله بتهمة سرقة حنفية، عانس نظرها ضعيف ترغب في الزواج وفي إجراء جراحة لتحسين نظرها، عجوز يريد أن يسافر لابنه في أمريكا، وأخر يحتاج تصليح سيارته القديمة، شاعر يحلم بإصدار ديون شعر، أرمل يجدد شقته ويبحث عن عروس تكون ونيسه، وشبلول أو موظف يبتكر أنواعًا من المربى؛ محاولًا أن يطور الأداء في مصنعه، وزوجته التي تعمل في الخياطة والأزياء وتستأجر جزءً من شقة الزوجية كمقر لعملها الخاص، لذا يسعى الجميع إلى تكوين جمعية، علها تساعدهم على قضاء حوائجهم، وتعمل على تكوين هذه الجمعية "بطة"، عاملة البوفيه في مصنع مربى الإحسان.

 مع بطة نصل إلى الباب االرابع وهو باب الممثلين، فالمخرجة اعتادت في أفلامها السابقة الاعتماد على ممثلي المسرح السكندري، ومنهم في فيلمنا هذا نجد مثلًا: أمين حجازي، ماجد عبد الرازق، أنسي الجندي، سمير قنديل، مدحت العتال.. أو تقديم وجوه جديدة مثل دعاء الزيني التي قامت بدور بطة، وهي ليست ممثلة بالأساس، هذا غير شخصيات أخرى في الفيلم المليء بأسماء عدة مثل أشرف مهدي، شريف أبو هميلة، سيد عبد الخالق، وغيرهم شاركوا كجزء محوري أو ثانوي، تكتمل به لوحة الفيلم كما خططت له دينا عبد السلام، حسب مفهومها في تقديم سينما لا تخضع لمقاييس السوق التقليدية ولا لسطوة النجوم.

 قد يكون هذا المفهوم هو بوصلة الباب الخامس الذي باشرت به كلامي، والمتعلق بالسينما منخفضة التكاليف أو الميزانية، حيث يعاني صانعو الأفلام كثيرًا، في ظل صعوبة التمويل والإنتاج، ثم نوافذ العرض فيما بعد، وعلى الرغم من ذلك يناضلون لاستكمال أعمالهم، في اختبار سينمائي يخوضونه كل مرة للتحرر من ثقل الإنتاج، كما حدث في "وش القفص"؛ الفيلم الذي وقف عند الحد الفاصل بين الذاكرة والحاضر، وروى فصولًا من المتاهة الإنسانية في عمل بصري سلس، في إيقاع هاديء حاول أن يحافظ على حيويته الدرامية في إعادة رسم الملامح المختلفة للبشر وأدوارهم الاجتماعية وحالاتهم النفسية ومدينتهم ومناخاتها الإنسانية، ويقدم سينما بسيطة وعميقة في آن واحد، سينما تنفتح على الواقع الصعب.







مشاركة



الموضوعات المتعلقة


لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة