يظل الإنسان هو الأصل فى كل ما يحدث فى الدنيا، فهو البانى والزارع والمعلم، وهو الهادم والمعتدى والمخالف، فكما أثرى الإنسانية وأفادها علماء سخروا عبقريتهم لخدمة البشرية فى مختلف المجالات، هناك من دمروا حياة الملايين بالأسلحة النووية وباستغلال الدين فى تبرير جرائمهم، ومن أحط تلك الجرائم جريمة الرشوة، وهو ما يعنينى اليوم، وتحديدا بصدد مخالفات البناء التى شوهت وجه مصر وشكلت تهديدا لأقوات أبنائها، وقد كتبت- منذ سنوات- مقالا بعنوان «من أين لك كل هذا؟!» وليس فقط «من أين لك هذا»، القانون الذى تم إلغاؤه فى سبعينيات القرن الماضى، وتناولت فى المقال مسؤولية موظفى المحليات والمحافظات والحكومات، فاستشهدت بقانون فى فرنسا، عنوانه «المظاهر الخارجية للثراء»، بمعنى أنه لو موظف مثلا يتقاضى خمسة آلاف جنيه فى الشهر، فكيف له امتلاك شقة بمئات الآلاف وسيارة باهظة الثمن... إلخ هذه المظاهر التى تناقض تماما قدرات دخله؟! ومن هنا توصلت الأجهزة المسؤولة إلى أن مصادر الثروة غير شرعية، والسؤال هنا، ماذا عن مسؤولية أعضاء المجلس المحلى الذين يتجاهلون البناء المخالف على الأراضى الزراعية؟ وهل من سبب للتجاهل والتعامى عن المبانى التى تخرق العين- كما يقال- سوى اقتضاء رشاوى بالملايين؟ وكيف لم نسمع- طوال العقود الخمسة الماضية- عن احتجاج أى مسؤول على الانتهاك المزرى للأرض الزراعية وعدم الاقتراب من الصحراء الشاسعة وكأنها مساحات مقدسة؟! هل تصدى أى وزير إسكان أو وزير زراعة أو رئيس حكومة لهذه المخالفات المدمرة؟ كان الوضع يفضح تواطؤا مشينا بين المسؤولين من أول سلم المحليات، إلى أعلى سلطة فى الدولة، والعمارات الشاهقة تحجب النيل عن عيون المصريين، وتضيق المساحات بينها، بحيث يستحيل أن تمر بها سيارة إسعاف لو استدعت الضرورة ذلك، وقد أشيع أن أصحاب هذه المبانى المخالفة يسرقون التيار الكهربائى برشوة المسؤولين فى المحليات، ناهيك عن كارثة تراكم القمامة والتخلص من الصرف الصحى بجرائم مكتملة الأركان، أكثرها بشاعة بإلقائه فى النيل، لقد عانت مصر طوال عقود من انسحاب الدولة انسحابا مزريا، وتركت الحبل على الغارب للصوص والمرتشين، وعندما قرر الرئيس السيسى عودة الدولة وهيبتها، وإجراء مصالحات تضع مصلحة الوطن، والأجيال القادمة، فى المقام الأول، تسللت أصوات- بحسن نية أو بسوء نية- ترفع شعار «معلهش»، مطالبة بالرأفة مع من بذلوا كل ما فى وسعهم من جهد لتخريب الوطن، وإفقار أبنائه بحرمانهم من الرقعة الزراعية الصغيرة نسبيا، حتى يأتى يوم يعانون فيه من مجاعة، خاصة مع الانفجار السكانى الذى يحتاج بدوره بشدة لحملات توعية بمخاطره وسوء عواقبه، وأتذكر أن الكاتب الفرنسى الشهير، جان كوكتو، ألف كتابا بعد زيارته لمصر بعنوان «بلد معلهش»، بما يعنى التساهل فى أمور جوهرية بدعوى الشفقة والرحمة، وإن كانت الشفقة- وكذلك الرحمة- تعنيان تحديدا الاهتمام بالوطن الحضن والملاذ كما يراه الرئيس السيسى. ونحن معه.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
الموضوعات المتعلقة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة