كتبت قصيدة «يامنة» فى 10 دقائق على ترابيزة المطبخ بعد أن علمت بوفاتها!
بعد اعتقالى صادر الأمن قصيدة «جوابات حراجى القط» وقالوا لى «ده شعر شيوعى»!
«حراجى» شخصية حقيقية وكان يلعب معى
فى أبنود لكنه لم ير السد العالى طوال حياته!
لم يجد الخال كرسيًّا مناسبًا لمكتبه الصغير سوى كرسىّ القسيس!
فذهب إلى أحد معارض الموبيليا القديمة، وطلب منه مواصفات الكرسىّ الذى رآه فى الكنيسة، لكنّ صاحب المعرض أكد له صعوبة ذلك، لكن الأبنودى أصرّ على كرسىّ يشبه كرسىّ القسيس وأمام إصراره، قرر صاحب المعرض - المحبّ للخال - أن يساعده بصورة لم تخطر على باله، ولا يمكن أن تخطر على بال أحد!
قرر صاحب معرض الموبيليا أن يُرسل أخاه الصغير ليقفز فوق سور الكنيسة، ويتسلل إلى حديقة الكنيسة، ويسرق الكرسىّ الذى سرق عقل الأبنودى!
الأبنودى ما زال - حتى الآن - يضحك كلما تذكر هذه الواقعة، ويقول: «بس بصراحة الكرسى فيه بَركة القسيس وخير ومعطاء.. أقعد عليه فلا يخيب مقصدى».
لكن المدهش أن الكرسىّ الذى فعل الأبنودى بسببه هذه المغامرة الكبيرة لا تلحظ عين زائره أى فرق بينه وبين أى كرسىّ عادىّ، فهو بسيط فى كل شىء، لا زخرفة زائدة، ولا ضخامة، ولا فخامة، ولا شىء، سوى أن الأبنودى رآه بعين شاعر يرى فى الأشياء ما لا يراه سواه، فيكفى أنه قد رأى فى هذا الكرسىّ راحته.
ونفس الطريقة التى اختار بها الأبنودى الكرسىّ اختار بها مكتبه، فهو مجرد مكتب خشبى صغير، يشبه الأنتيكات، لا يزيد عرضه على نصف متر، ولا طوله على متر، اشتراه الأبنودى فى منتصف الستينيات من شارع هدى شعراوى، وتنقّل به بين أكثر من سكن، ولم يفرّط فيه أبدًا، رغم أن صديقه المهندس نبيل غالى أهداه مكتبًا فخمًا وضخمًا لا يوجد منه سوى نسخة واحدة فى قصر الملك حسين ملك الأردن، لكن الأبنودى رفض الجلوس عليه، ولم يتخلَّ عن مكتبه.
وكانت من أوائل القصائد التى كتبها عبدالرحمن الأبنودى على هذا المكتب ديوان «أحمد سماعين.. سيرة إنسان» وتحديدًا الجزء الأول والثالث منه حين كان يسكن الخال فى باب اللوق، أما الجزء الثانى فقد كتبه فى السجن.
والبطل الحقيقى لهذا الديوان هو «محمد مصطفى» - ابن عم الأبنودى - مات أبوه، وتزوجت أمه «نوارة» من عمه «موسى العبور»، فظل مع جدته يشاغبها وتدعو عليه بالطاعون، وبأن يعمى فلا يرى تحت رجليه.
وكان «محمد مصطفى» - أو أحمد سماعين - يصرخ كمن مات له عزيز ويصيح فى وجهها مطالبا إياها بأن تعدّد عليه وتلطم وتنوح وتبكى قائلًا: «ابكى يا ولية، قطّعى خدودك، وعددى على «مرمَّد».. «مرمَّد مات»!
و«مرمَّد» على وزن «محمد» كما ينطقها سكان أبنود، و«مرمَّد» فيها من الرماد والشؤم ما يفزع فكانت تبحث حولها عن أى شىء تضربه به فلا تجد، فتصيح فى عجز: أياكش تموت صُحّ صُحّ وما تلقى اللى يبكى عليك يا «قزين»، و«القزين» هى مزيج من حزين ويتيم ووش فقر.
لكن هذه السيدة الصلبة كان لها مكانة كبيرة فى قلب الخال، فكان يناديها بـ«مامتى عزيزة» ويصفها بأنها أقوى من الأصحّاء، فلم تَعُقْها «بَركتَها» على الأرض كسباطة النخلة - التى تسقط مقلوبة بعد قطعها فتفرش نفسها على مساحة كبيرة من الأرض - عن التمسك ببقايا العمر، ينقلونها من الظل إلى الشمس ومن الشمس إلى الظل، تعاند الفصول وتناطح الزمن، وتخجل من أن تصبح متواضعة بسبب فقدانها قدراتها الحسية؛ فلسانها كان أقوى من لسان أى امرأة فى الحى.
لكن لماذا اختار الأبنودى شخصية «محمد مصطفى» أو «أحمد سماعين» دون غيره لتخليده فى ديوان كامل؟
هكذا سألت الخال.
وأجاب: كان جدع، ومالوش حد فى الدنيا.
فقد كان يفعل كل شىء بنفسه، إذا أراد أن يأكل يذهب ليصطاد سمكته من النيل، وكان أمهر أبناء جيله فى صيد السمك، وعلمنى صعود النخل، وصيد الحمام الجبلى، فقد كنا نجلس معًا ننصب الفَخّ للحمام الجبلى لنصيده من خلف ساتر، وفى أثناء جلوسنا كان دائم الحكْى عن والده وأعمامه ويُتْمه فى سن صغيرة، فلقىَ كلامه صدًى فى نفسى.
المدهش أن الأبنودى روى سيرة «أحمد سماعين» وهو حى يُرزق، وحاول أن ينقله للعيش معه حين كان الخال يسكن فى السويس - حتى يرحمه من العمل فى مناجم الفوسفات التى كان يعمل بها معظم فقراء أبنود فى ذلك الوقت - فذهب إليه، وقطع خمسة كيلو مترات محنىّ الرأس تحت الأرض حتى وصل إليه وسط غبار كثيف يُعمى العيون، ويسد الأنوف، ويسبب كل الأمراض الصدرية، واصطحبه معه هو وأسرته إلى مزرعته، واستعادوا ذكريات الطفولة، لكنه أبى أن يكون عبئا على أحد، وترك الخال وعاد إلى منجمه، حيث يحسبه الجاهل غنيًّا من التعفف.
لكنه بعد سنوات قليلة مثلما عاش غريبًا مات فجأة!
ففى أثناء عمله فى «منجم حِميضات للفوسفات» فجأة تصاعدت أبخرة من المنجم، وكلما ذهب أحد ليرى ما جرى لا يعود، حتى قرر محمد مصطفى أن يخوض المغامرة محاولا إنقاذ رفاقه لكنه ذهب ولم يعد، ولم تبقَ من سيرته سوى الصورة التى رسمها له الخال فى قصيدة «أحمد سمعين»:
لكن قصيدة «يامنة» لها قصة أخرى.
فقد كان الخال فى زيارة لقريته أبنود، وكعادته ذهب إلى ابن عمه حاملا الهدايا التى يقوم الأخير بتوزيعها نيابة عنه.
كان يفعل ذلك من أجل العمة «يامنة» وحدها؛ لأنه يعرف أنها لن تقبل منحة أو مساعدة من أحد، لكنها تقبل الهدية، وكان فى كل مرة يذهب إليها ويجلس معها تسأله «هتيجى العيد الجاى.. وهتشرب مع يامنة الشاى؟» وهو يُجيبها: «هاجى يا عمة».
لكن هذه المرة جاء ولم يجدها!
فحين قال الخال لابنة عمه: «يلّا بقى نطلع على عمتك»، فردّ عليه: «استنى بس ناكل لقمة»، فقال له الخال متعجبًا: يا عم مش هاكل.. نسلم بس على «يامنة» الأول. هنا اضطُّر ابن عمه ليخبره بما حدث، فقال له: «بصراحة أصلى ماكنتش هاقول.. يامنة ماتت».
وقعت الصدمة على الخال. حزن على عمته، وغضب من ابنه عمه، وقال له: «يخرب بيت أبوك.. أنت قاعد ومخلّينى أشرب الشاى.. وأضحك ويامنة توفّت»، فردّ عليه: «أنا مش عارف أقولها لك كيف؟! ده لسه الأسبوع اللى فات، وإحنا لسه بنروح المندرة نعزّى».
فقام الأبنودى على الفور، وذهب إلى المندرة ليؤدى واجب العزاء فى عمته «يامنة»، ثم عاد إلى القاهرة محمًّلا بعبق سنوات طويلة مضت.
وحين وصل إلى بيته وجد أن النوم قد خاصم جفونه، فدخل إلى المطبخ ليحتسى فنجانًا من القهوة، وأمسك بالفنجان وجلس على ترابيزة المطبخ وفى 10 دقائق فقط تذكر تفاصيل ما جرى بينهما فى آخر لقاء جمعهما، ووجد نفسه يكتب:
والله وشِبْت يا عبدالرحمن
عِجِزْت يا واد؟
مُسرع..؟
ميتى وكِيف؟
عاد اللى يعجز فى بلاده
غير اللى يعجز ضيف!!
هلكوك النسوان؟
شفتك مره بالتلفزيون
ومره ورُّونى صورتك فى الجورنال
قلت: كِبِر عبدالرحمن!
أمّال أنا على كده
مُتّ بَقَى لى مِيت حُول!!
وغادرت «يامنة» الحياة، وقبْلها «أحمد سماعين»، لكنهما لم يغادرا ذاكرة الخال، فهو ما زال يذكر، ويتذكر، ويروى ذكريات أيام الصبا حين كان يذهب إلى بيت عمته «يامنة» ويجلس معها هو و«أحمد سماعين».
فقد كان بيتها مخزنا للسمك، بفضل فيضان النيل الذى هدم جداره الخلفى، فاستقر السمك بكل أنواعه بين جدرانه الباقية، وكان الحال يظل كذلك لمدة شهرين كاملين حتى يبدأ النهر فى جمع مائه من جديد، فيتسرب منه الماء شيئا فشيئا تاركًا بعضه فى فناء بيت «يامنة» الخلفى.
وفى ذلك اليوم الموعود، كان يذهب الخال بصحبة «أحمد سماعين» وآخرين، وينزعون ملابسهم، وينزحون الماء عبر سور الجدار الذى سقط، «أحمد سماعين» يقوم بالجهد الأكبر فى مثل هذه الشؤون.
فالسمك كان عشقه الأكبر، لأنه لا يأكل اللحم، ومن الممكن أن يجلس زمنا لا يعكر صبره قلق إلى أن تشفق عليه سمكة فتأتيه لتنتحر مختارة راضية وتدخل سنارته بإرادتها - على حد وصف الخال- فمن أجل السمك كان يبذل جهدًا ما بعده جهد تحت إشراف «العمة يامنة»، ثم شيئا فشيئا مع نقص الماء يبدأ السمك يدرك المأزق الذى وقع فيه فيتخبط بحثًا عن ثغرة للنجاة، لكن «أحمد سماعين» يكون قد رفع السور، فلا تتمكن سمكة من فك حصارها للانسحاب مع ماء النهر الذى قدمت معه، تتحسر، وهى تحس أن الماء عائد من دونها، ثم يقسّم السمك ليأخذ كل من شارك نصيبه.
أما الآن فلا فيضان، ولا بيت العمة ولا شىء من أبنود التى عرفها الخال، فبعد رحيل «يامنة» صارت زيارة الخال لأبنود مقتصرة على مُتحفه، ومكتبته فقط.
لكن السؤال الذى يطل برأسه دائمًا: هو لماذا بقيت قصيدة «يامنة» فى الذاكرة؟ لماذا ظلت مطلبا جماهيريا يطلبه الناس من الخال أينما حَلّ؟ لماذا ارتبط بها الناس؟ لماذا صار الجميع يعرف يامنة ويحبها؟ ولماذا صارت أقرب قصيدة إلى قلوب الأمهات؟ وما الفرق بين «يامنة» وغيرها من القصائد؟
والجواب: يامنة حالة فريدة ومتفردة، لا تحدث كثيرا، فبمجرد أن تقرأها أو تسمعها تتذكر أمك أو جدتك أو خالتك أو عمتك، وتشعر أن هذه القصيدة قد كُتبت من أجلك، فهى تعبر عن كل ما جال بخاطرك، وتتحدث بلسانك عما لم تستطع أن تواجه نفسك به، وتعيش معك وبداخلك، فكل كلمة فى القصيدة تلمسك، تلمس إحساسك، وتخاطب وجدانك، وتجمع كل مفارقات الحياة الإنسانية من موت وحياة، وفرحة، وألم، وضحك وبكاء، وتألق وخفوت.
ويامنة شخصية حقيقية، كانت زوجة عم الأبنودى، واسمها الحقيقى «آمنة» لكن فى الصعيد ينطقونها «يامنة» أى «يا آمنة»، وهذه المرأة التى بلغت من العمر عتيًّا أدركت فلسفة الحياة الإنسانية وجوهرها ورأت ما لا نراه، وعرفت ما لا يعرفه سوى أصحاب البصيرة النافذة والرؤية الثاقبة والحكمة البالغة، لذلك كان من المنطقى أن يرتبط بها الأمهات، وتشعر بسعادة بالغة حين تسمعها أو تقرؤها، فهى تُخلِّد كل أم، وتُكرم كل سيدة مُسنّة، وتضعها فى مكانة عالية لا يصل إليها أحد، لذلك بقيت يامنة وستبقى.
لكن فى عام 1966 تم اعتقال الخال، وتمت مصادرة كل أوراقه التى تضم أشعاره.
وكان من بين هذه الأوراق ديوانه الأشهر «جوابات حراجى القط»، وعندما طلب منهم الخال أوراق الديوان وأبلغهم أنها لا تحوى سوى أشعاره رفضوا، وقالوا له «دا شعر شيوعى»!
يومها اعتبر الأبنودى أنه لم يكتب هذا الديوان، وأن «حراجى» انتهى إلى غير رجعة، خصوصًا أنه لم يكتب أبدًا أى قصيدة مرتين؛ لذلك حاول أن يقنع نفسه بأنه لا توجد قصيدة اسمها «حراجى»، وبعدما خرج من السجن، وحدثت النكسة سافر إلى السويس واستقر هناك.
لكن فى عام 1969 حدث تغيُّر أعاد «حراجى» إلى الحياة.
وقتها كان السد العالى هو حديث مصر بأسرها، وأملها الباقى بعد النكسة فى إعادة الأحلام التى قضت عليها 5 يونيو، وكان الأبنودى يرى أن هذا المشروع يمكن أن يُغيّر وجه مصر إلى الأفضل والأجمل، فقرر زيارة السد، والكتابة عنه.
فذهب بصحبة صديقيه سيد خميس، وسيد حجاب لزيارة وزارة السد العالى حيث كانت فى نفس الشارع الذى يسكن فيه الأبنودى، وكان وقتها سيد حجاب قد نشر قصيدة جديدة فى «الأهرام» (فى مربع صلاح جاهين) وعندما وصل الثلاثة إلى الوزارة وجدوا الموظف المسؤول عن رحلات السد فى الوزارة، ويُدعى «حسنى أمين» (ما زال صديقا للخال حتى الآن) محتفظا بقصيدة «حجاب» تحت زجاج مكتبه، فعندما شاهدوا ذلك، قالوا «كده ضمنّا إننا هنروح السد العالى مرتاحين».
لكن عندما طلبوا من الموظف الذهاب إلى السد العالى ليكتبوا عنه، قال لهم: «لا تتفاءلوا كثيرا إحنا مش فى الاتحاد السوفيتى الذى يُرسل الشعراء والكُتاب إلى المشاريع القومية، وأنصحكم بألا تحاولوا مرة أخرى، فلن تذهبوا».
وبالفعل تم رفض الزيارة، فعاد الثلاثة، وقد خاب مسعاهم.
لكن الخال لم ييأس، وقرر أن يكرر المحاولة مرة أخرى، ولكن عن طريق آخر، وهو أن يذهب بنفسه وعلى نفقته الشخصية كأى مواطن بسيط يريد أن يذهب ليرى واحدًا من أكبر مشاريع بلده على مدار تاريخها، فذهب إلى محطة القطار، وقام بحجز تذكرة سفر إلى أسوان، وسافر بالفعل حين كانت الرحلة تستغرق يومين فى الطريق، وبمجرد أن وصل إلى مدينة أسوان سأل عن الطريقة التى يذهب بها العمال إلى السد العالى.
وبعد ساعات قضاها الأبنودى فى رحلته من مدينة أسوان إلى السد العالى واضطر خلالها إلى الاستعانة بأكثر من ثلاث وسائل مواصلات، وصل أخيرا.
وبمجرد وصوله سأل عن المكان الذى يقيم فيه العمال القادمون من قرية أبنود للمشاركة فى بناء السد، فدلّوه على المكان.
ويروى الخال ما رآه هناك بقوله: عندما وصلت إلى مكان عمال أبنود وجدت العيال اللى كانوا معايا فى المرعى، وقد كبروا ويعملون فى السد، فى مكان لم يطرق من أيام الفراعنة، وقعدت معاهم فى السد نحو 17 يومًا، وكان أكلنا اليومى «المِشّ»، وجبتلهم لحمة مرتين، وكان بيكون معاهم بصل وثوم وملوخية ناشفة وطماطم ناشفة وحِلل، ولم يكن طبعًا فيه «استحمام»، فكانوا يملؤون صفيحة مياه من النهر ويغتسلون بها، وينتظرون ملابسهم حتى تجف، لكنى وجدت أن العمل قد غيّرهم، وأثّر على لهجتهم.
ويستطرد الخال: بعد تجربة إقامتى فى السد العالى، تذكرت «حراجى البِسّ» صديقى فى الطفولة الذى كان معى فى أبنود، وقلت لنفسى لو «حراجى» كان هنا مكان أى واحد من الرجالة دى، هل كان هيتغير؟، فقلت أجرّب أنقله إلى هذا المكان حتى لو على الورق، خصوصًا أن حراجى لم يرَ السد العالى، ولم يذهب إليه أبدًا!
ويفسر الخال سر اختياره لـ«حراجى» ليكون بطلا لديوانه بقوله: «حراجى» نسبة إلى الأرض «الحَرَجة»، وقد كان عريضا وضخم الجسم، وكنا نلعب معًا، ولكن لعبه كان عنيفا بسبب جسمه، وكان من يأخذ «خبطة» من حراجى تعلّم فى جسمه ثلاثة أشهر، ولكن حراجى كان عنده «شوية هبل»؛ لذلك أردت من خلال شخصيته أن أرسم سذاجته الجميلة التى تصورتُ شكلها بعد أن تأثرَت بالماكينات الحديثة»، فيقول لزوجته:
فى الراديو يا فاطنة يقولوا:
بنينا السد.. بنينا السد
لكن ما حدّش قال:
السد بناه مين
بنوه كِيف
نايمين ولّا قاعدين!
بينما ترد عليه زوجته فاطمة أحمد عبدالغفار التى تريد أن يعود لها بعد أن طالت غيبته عليها قائلة:
أهى هيّه هيّه الحدوتة
مش كنت هنا بتزرع فى أراضى الغير
وآخر الحُول تكون اتهدّيت
والغير ياخد الخير؟
عندك نفس القصة يا حراجى
صدّق فاطنة وتعال
هات الرجّال وتعال
لو راح يدّوك كانوا ادولك
همّا ما عاوزين منك يا حراجى
غير حيلك
لميتَى حنقعد عُبطه كده
يلعب بدماغنا دِيَّتى وده
لكن المفاجأة أن الخال رأى «حراجى» بعد أن كتب ملحمته، فقد التقى معه فى نهاية الستينيات بالصدفة.
فقد كان يقود الخال سيارته فى منطقة «شندورة» على القنال، وخُيِّل إليه أنه شاهد «حراجى»، فعاد بالسيارة إلى الخلف، وتأكد أنه هو فعلا، وأراد أن يعرف إذا كان ما زال ساذجا على حاله أم لا، فنادى عليه، وقال له: اركب فى الكرسىّ اللى ورا هوصلك بيتك. فصعد «حراجى» إلى سيارة الخال، لكنه وجد أنه لا يسير فى طريق بيته.
فصاح «حراجى» قائلًا: «مودّينى فين يا بيه» فقاطعه الخال: «اسكت خالص وانزل، أنت جاسوس بتشتغل لحساب إسرائيل»!
فبكى «حراجى» لكنه عندما نظر فى وجه الأبنودى ضحك، وعانقه بشدة وكانت آخر مرة يرى فيها الأبنودى، حراجى الذى لم يعمل فى السد العالى إلا من خلال ملحمته «جوابات حراجى القط».
ما رواه الخال لى عن حراجى الحقيقى، دفعنى إلى أن أعرف منه مَن تكون «فاطمة أحمد عبدالغفار» الحقيقية التى رسم لها صورة شعرية بديعة؟ هل كان يتصور والدته فاطمة قنديل؟ أم أنها مجرد شخصية خيالية؟
فجاء جواب الخال مفاجئا بقوله: «فاطمة أحمد عبدالغفار لا تشبه أمى لكنها صورة من فاطمة أختى، التى اكتسبت من طباع فاطمة قنديل وستّ أبوها، فأخذتها نموذجًا لزوجة حراجى، التى تمتلك هذه الطاقة الهائلة من الحب والحنان، فأختى حين تعرّض زوجها لمحنة كبيرة وغاب عنها لمدة ثلاث سنوات، كانت لها مقولات مثل «شامّة ريحة هدومه ومش باقْدَر أنام»؛ لذلك هذا الانتماء الشديد إلى زوجها وحنانها المدهش ورِقّتها الجميلة هو ما دفعنى لاستحضار صورتها وأن أكتب عن زوجة حراجى، خصوصًا أن أختى «فاطمة» تسكن وجدانى ولا يمر يوم واحد دون أن أتحدث معها، وأطمئن على أحوالها».
لذلك كانت لغة زوجة حراجى ناعمة، وصادقة، ومؤثرة، ومُعبرة عن نساء عانين كثيرا من غياب أزواجهن، لذلك تقول «فاطمة»:
يعنى بعد ما تخرَب يا أبوعيد
حيقولوا حراجى كان شغال ومفيد
ادُّولوا وظيفة بيه؟
إياها السبعة جنيهات!!
لكن السؤال لماذا صارت جوابات حراجى القط إلى زوجته فاطمة أحمد عبدالغفار مشهورة إلى هذا الحد وباقية إلى الآن؟
والجواب كما ورد على لسان الخال:
أولًا: لأن هذه القصيدة ليس لها سابقة فى الشعر.
ثانيًا: صدق التجربة، ففاطمة أختى وبيننا تاريخ طويل مشترك يجعلنى قادرا على تجسيدها، ونموذج «حراجى» هو نموذج الشباب الذى عشت معه فى قريتى وهو يشبه الشباب الموجود فى كل القرى.
ثالثًا: زمن السد العالى هو زمن العظمة كلها، ولا يوجد أى عمل حتى دراسى عن السد العالى ظل على قيد الحياة، والناس لا تقرأ الرسائل بالضرورة من أجل السد العالى، ولكن للعلاقة الفريدة بين حراجى وزوجته، وفى المشاعر الاستثنائية التى تجمع بينهما.
ويواصل الخال حكاية حراجى قائلًا: «لكن ديوان حراجى كان ممكن أكتبه من غير ما أروح السد العالى، لأن الشعر مش مرتبط بمكان، وحراجى أول عمل درامى شعرى لى؛ لذلك كلما ذهبت وألقيته فى أمسية وجدت صدًى رهيبًا له». لكن زيارة الأبنودى للسد العالى التى أنتجت لنا رائعة «جوابات حراجى القط» لم تكن الزيارة الوحيدة التى قام بها الأبنودى للسد فى هذا التوقيت، فقد ذهب الأبنودى مرة أخرى حين كان الزعيم جمال عبدالناصر يفتتح الساتر الترابى، وكان بصحبته الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل صاحب القصيدة الخالدة «النهر الخالد».
يومها أخذ الخال قاربًا فى النهر وذهب إلى العوّامة التى يجلس بها «محمود إسماعيل» خلال فترة الرحلة، ونادى عليه «يا عم محمود» وطبعا لم يتخيل «محمود إسماعيل» أن ينادى عليه أحد من الماء، فقال «مين.. عبدالرحمن!» فرد عليه الخال: «انزل أوّريك النهر الخالد اللى كتبت عنه وأنت ماشفتوش.. أنت فاكر اللى فى بلدنا دُكهَة نهر»، وقام الاثنان بجولة نيلية فى جزر أسوان.
لكن الخال لم يكتب حرفًا واحدًا عن السد العالى بعد هذه الزيارة المُرفهة التى كانت ترعاها الدولة، بينما تجلت إبداعاته حين زار السد مع الأنفار الذين قال عنهم على لسان حراجى لزوجته:
فى السد يا فاطنة
صنفين مِ الأنفار:
صنف اللى تبع الشركة
وصنف مع مقاولين
وأنا كنت مع مقاول
من يوم ما باعنى الحاج حسين
لحين ما الأستاذ طَلْعت
دلدلِّى حِبال الخير
ونَتَعْنِى من الكَحْت
ونَجَدْنى من تعب الأنفار.
الخال يروى سيرته .. الحلقة الرابعة .. الأبنودى: سرقت كرسى القسيس لأنى وجدته مناسباً لمكتبى.. ولم يخب ظنى أبدًا بفضل بَركة القسيس!!
الأربعاء، 13 نوفمبر 2013 08:14 ص
الأبنودى
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عادل
من ينسي حراجي القط ولا قصيده امنه
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد طالبانى
لن تنهض مصر الا بعد تخلصها من الزبالات امثال الجحش الابنودى وامثاله من مدعى الثقافة والفن
عدد الردود 0
بواسطة:
مجدى جرجس
إلى أحمد طالبانى
عدد الردود 0
بواسطة:
مصطفى الضبع
الى ا/احمد طالبانى
عدد الردود 0
بواسطة:
أشرف السويفي
متى نقدر مبدعينا
عدد الردود 0
بواسطة:
أشرف السويفي
متى نقدر مبدعينا ؟
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري
نحن لا نكابر في الحق