فقد محمد صلاح العزب اليقين فى كونه كاتباً محترفاً، بعد أن صدرت روايته الأحدث "سيدى برانى" عن دار الشروق، مبررا هذا بشعوره بالنضج الفنى، ويكشف العزب لأول مرة فى حواره لـ"اليوم السابع" جانبا من حياته الشخصية، حيث أكد أن خال والدته كان صوفيا، وعاش معه حلقات الذكر، والشعائر الصوفية، والتى تعرضت لبعض التكفير بعد المد الوهابى الذى جاء إلى مصر، فى هذا الحوار سألنا العزب عن استعداده الخاص لكتابة رواية فيها من الأسطورة ومن الصوفية، ومن استعادة الحكاية، وما الكتب التى قرأها، وهل كانت للسينما أى حضور فى أعماله؟
هل تصلح السيرة الذاتية نواة لأدب الرواية؟ ولماذا لا تكتب مثلاً عن الاعتصامات والمصائب الكبرى فى حياة الوطن؟
الرواية تتميز بأنها قادرة على استيعاب كل الأشكال وكل الموضوعات، ولا يوجد شكل واحد ينبغى أن يكتب فيه الكاتب، فهناك من يكتب رواية رائعة عن حكاية شخصية تدور داخل غرفة مغلقة، وهناك من يكتب رواية أخرى جميلة عن الاعتصامات ولجنة السياسات والاحتكار مثلا، فالمهم هو الكتابة والبناء وتقنيات السرد والفنيات التى يكتب بها الكاتب عمله، وأنا لا أحب أن أحصر نفسى فيما يسمى رواية السيرة الذاتية وفى الوقت نفسه لا أحب أن أكتب رواية سياسية مباشرة مثلا، لكننى أكتب عن نماذج تعيش فى هذا الوطن تتأثر بكل أحداثه الكبرى، وتظهر انعكاسات هذه الأحداث على حياتها وسلوكها وكل ما يتعلق بها.
قارئ "سيدى برانى" سيكتشف جواً صوفياً خاصاً، ما الكتب الصوفية التى قرأتها لتكتسب هذه الثقافة؟ وهل يجوز للروائى أن يقرأ كتباً بعينها من أجل عمل روائى ما؟
القراءة فى كتب الصوفية هى جزء من ثقافتى، وبالطبع لا يمكن القول إننى قرأت هذه الكتب خصيصا من أجل إنجاز الرواية، وإلا ما كانت هذه الثقافة شكّلت نواة رئيسية داخلى، وما كنت عرفت بها أصلا، لكن كل ما حدث هو أننى أثناء كتابة الرواية كثفت القراءة فى كتب كبار المتصوفة كابن عربى والنفرى وجلال الدين الرومى، كما أن خال أمى وأباها كانا متصوفين، وعشت جانبا من حياتهما المتصلة بالتصوف والموالد وحلقات الذكر، ثم عشت فى فترة تالية اعتذار أمى طوال الوقت عما كان يفعله أبوها وخالها باعتباره ليس من الدين فى شىء بعدما توغل المد الوهابى وصار يكفر كل ما عداه، فأردت أن أرد لهذين الرجلين بعضا مما يستحقانه.
ليس وحده الجو الصوفى هو الملحوظ فى "سيدى برانى" ولكن هناك تناص مع القرآن الكريم.. لماذا أظهرت هذا التناص فى العمل ولم تعمد إلى إخفائه؟
فى "سيدى برانى" هناك تناص مع القرآن ومع العهدين القديم والجديد ومع بعض نصوص البوذية وغيرها، وهى تناصات مع روح هذه النصوص أكثر منها لفظية، لإضفاء هذا الجو المقدس على بعض أجزاء من الرواية كانت تتطلب هذا، والتناص حيلة جمالية قديمة ومعروفة، وكان الشعراء يتبارون فيما بينهم فى التناص.
الكتابة المشهدية ملمح مميز فى أعمالك كلها وليس فقط "سيدى برانى"، هل يمكن أن تفيد الرواية من التقنيات السينمائية دون أن يفقدها هذا خصوصيتها كرواية؟
ربما يرجع هذا إلى طبيعتى الشخصية، فأنا أتعامل مع العالم كأنه مشاهد سينمائية متتابعة فى فيلم كبير، وكثيرا ما يستوقفنى مشهد معين وأنا أسير فى الشارع مثلا، فأتخيل أن هناك موسيقى تصويرية ستنزل حالا حتى تكتمل الصورة الفنية، كما أن ذوقى فى القراءة ينفر من الوصف الساذج للعواطف والمشاعر، وأرى أن أفضل حل ممكن هو تقديم المشهد وترك القارئ أو المشاهد للحكم عليه، فأنا لن أبكى حين يخبرنى شخص أن هناك سيارة صدمت طفلا، لكننى سأبكى حين أراها وهى تصدمه.
كيف قمت بترتيب الفصول داخل الرواية؟ ولماذا عمدت إلى تقطيع الحكايات ومواصلتها بهذا الشكل؟ ألم تخش من أن يتسبب هذا فى إرباك القارئ؟
أنا لا أكتب عادة بشكل منتظم، أى أننى لا أكتب الرواية بترتيبها الأخير الذى يقرأها عليه القارئ، أنا أكتب فصولا ومقاطع متناثرة داخل الإطار العام الذى حددته للرواية، ثم أتعامل مع هذه المقاطع والفصول كقطع الـ"بازل"، أعيد ترتيبها بطرق مختلفة حتى أصل فى النهاية إلى الصورة التى أظنها متكاملة فنيا ووظيفيا، يساعدنى فى هذا أن المخطوطة الأخيرة للرواية يقرؤها عدد كبير من أصدقائى سواء من الكتاب أو غيرهم، وأكون مستعداً تماماًَ لتغيير هذا الترتيب لو شعرت أنه يسبب إرباكا لأحد.
رغم أنك كنت تحذر القارئ من الحكايات الجانبية، لكنك أسهبت فيها، واسترسلت فى ذكر تفاصيلها، ومنها حكاية والد مريم الذى هاجر إلى اليونان وأصبح رجل أعمال وعاد مرة أخرى إلى سيدى برانى ليبنى قصراً كبيراً؟
قلت فى مفتتح أحد الفصول: "لكن حذار أن تشغلك الحكايات الجانبية"، ثم عدت وقلت فى مفتتح الفصل الذى يليه: "ومن يملك نفسه أمام سطوة الحكايات الجانبية؟"، فأنا مع الحكايات الجانبية لأنها كثيرا ما تكون ممتعة أكثر من الحكاية الأصلية، والحكايات الجانبية هى التى تصنع الحياة، فالحكاية الأساسية فى الحياة هى أننا نولد ونكبر ونتعلم ونتزوج وننجب ونعمل ونموت، وهى قصة مكررة بحيث لو اكتفينا بها لانتهى العالم مبكرا، لكن الحياة لا تستمر إلا بالتفاصيل والحكايات الجانبية التى تبث الروح فى هذه الحياة.
قلتَ إن هذه الرواية تسببت فى ضياع اليقين منك ككاتب محترف، كيف حدث هذا؟ وهل تكون عاقبة ذلك أن تستغرق وقتا أطول قبل إعادة الكتابة مرة أخرى؟
أشعر أننى نضجت مع كتابة "سيدى برانى"، فحين كتبت أول قصة قصيرة ونشرتها فى إحدى الصحف تخيلت أننى صرت كاتباً محترفاً، وظل هذا الشعور معى بعد كتابة المجموعة الأولى والروايات الثلاث التالية، لكننى مع "سيدى براني" أدركت أننى لم أصبح كاتباً محترفاً بعد وربما لا أكونه أبدا، فأنا مازلت أتعلم وأجرب وأنجح وأخفق وتواجهنى صعوبات حقيقية فى الكتابة، وتستعصى على كامرأة لا ترغب فى الرجال، غادرنى اليقين بأن الكتابة محسومة، وحل مكانه شك فنى فى كل شىء، شعرت أننى نضجت لأننى صرت قادرا على إدراك صعوبة الأمر، النضج جعلنى أتمنى ألا أصير كاتباً محترفاً فى يوم من الأيام، لأنه جعلنى أدرك أن الشك مهما كان أجمل من اليقين.