فى اجتماع عائلى ناقشنا فيه أوضاعنا المالية وكيفية توزيع "الثروة" التى هى عبارة عن مرتبى ومكافأتى من عملى الأصلى، بالإضافة إلى الكتابة فى عدة صحف أخرى، قال لى أكبر أبنائى الذى اجتاز الإعدادية بنجاح ساحق إنه لا يريد منى مصروفاً شهرياً، وقبل أن أسعد بإحساسه بى وبمعاناتى وبالأعباء التى ألقت بها الدنيا على كاهلى، قال :أريد مصروفى عينياً، أى عدد من السندوتشات التى أحبها وبعض ملابس اختارها وعدد من تذاكر السينما التى أحبها، ومصروف بيت العود الذى أدرس فيه، وبعض من علب العصير التى تستهوينى، وتوصيلة إلى مدرستى تتعاقد أنت معها كيفما يحلو لك".
ضحك أشقاؤه، وتعالت صوت ضحكات زوجتى من سذاجة ابنى، غير أنى وقفت صامتا أمام ذكائه اللا محدود، فقد استطاع هذا الطفل أن يقرأ تجربة تاريخية دون أن يدرى، عندما قرر الألمان فى عشرينيات القرن الماضى أن يبيعوا ويشتروا بالمقايضة بعد أن فقدت النقود قيمتها الفعلية. لو حدد ابنى مصروفاً شهرياً سيحصل عليه كمبلغ ثابت لمدة عام، والأسعار ترتفع يوما بيوم، مما يعنى أن مصروفه ينخفض يوما بيوم، لذلك قرر هذا الجبار الذكى أن يضعنى أمام فوهة مدفع الأسعار.. تركنى فريسة للتجار، وقرر أن يحصل على مصروفه فى شكل بضائع وسلع وخدمات يتغير سعرها يوميا، بل كل ساعة.
وعندما تتناقص قيمة النقود يوميا بسبب ارتفاع الأسعار تفقد قيمتها كمقياس للقيمة، وقد تتحول مع مرور الوقت إلى أوراق يلعب بها الأطفال فى الشوارع وتتوقف المصانع والشركات التى تعتمد على الاستثمار طويل الأجل، ويتحول الجميع إلى سماسرة وتجار ومستوردين، وتختفى تماما الصناعات الوطنية بسبب المنافسة الشديدة التى تأتينا من دول لا تعانى ما نعانيه من تضخم قاتل.
وأمام هذه الحقيقة التى طرحنى ابنى فى طريقها، لم يعد أمامى إلا أن أطالب كل من أعمل لديه أو أكتب له أو أقدم خدماتى الإعلامية لمؤسسته، باستبدال النقود بمجوعة من البضائع والسلع والخدمات، لكى أهرب من غول الأسعار الذى يقفز ساعة بعد ساعة دون إدراك منه لحالتى وحالة أمثالى من أصحاب الدخول الثابتة أمام متغير يصعب وقفه أو مسايرته، وبذلك أصل إلى حل للمعضلة التى وضعنى فيها طفلى الذى كنت حتى كتابة هذه السطور أتصور أنه ساذج لا يفهم فى الاقتصاد ولا السياسة. وبالطبع سأذهب للجزار طالباً ما أريد ،على أن أدفع له ما يحتاج من سلع لا يملكها أو بضائع أو تذاكر سينما أو مسرح، وربما أمنحه كارنيهاً لدخول الحدائق العامة بالمجان، وقد أمنحه كرما يستحقه نظير اللحم بأن يحضر أوبرا عايدة فى الموسم القادم.
وما أخشاه أن تكون البضائع التى سأحصل عليها من اليوم السابع ومن الجمهورية وأخبار اليوم و24 ساعة والخميس والأحرار، وهى تلك الصحف التى أكتب فيها، لا تناسب السيد الجزار أو البقال، فتصبح نقودى لا معنى لها، لذا يجب أن أنوه أصحاب تلك الصحف ومسئوليها إلى ضرورة التنوع فى المقابل المادى لما أكتب، قبل أن تصبح الحياة فى بلادنا بالمقايضة بدلا من النقود التى كنا نتعامل بها حتى وقت قريب. ويبدو أن القدماء الذين اخترعوا مقولة " اللى معاه جنيه يساوى جنيه " لم يدركوا أنهم يجب أن يقولوا " اللى معاه كيلو لحمة يساوى كيلو لحمة"، على اعتبار أن كيلو اللحمة ثابت القيمة، بينما الجنيه تنقص قيمته، مما يجعل قيمة صاحبه فى تناقص مستمر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة