يقدم لنا الكاتب محمود الوردانى رؤيته الخاصة للعالم من خلال أشخاص ووقائع تحدث بيننا، ولكن لا نستطيع أن نستوعبها فى مجموعته "الحفل الصباحى".
الكاتب يقسم مجموعته إلى قسمين القسم الأول "الحفل الصباحى"، وهو عبارة عن متتالية قصصية تتابع أحادثها وتتكون من 7 قصص، كتبت بين مارس 2007 وأبريل 2008، ما عدا القصة الأخيرة فى المتتالية، والتى تعود إلى 1971، فيما يتكون القسم الثانى من ثلاث قصص هى "تمر حنة"، و"يوم جمعة (1)"، و"يوم جمعة (2)".
تبدأ المتتالية بقصة "سورة الماء" هذه المياه التى تتسرب من الجدران إلى كل حجرات المنزل، والتى تدفع الحياة إلى التوقف بالنسبة لأسرة كاملة، تحاول أن تتخذ خيار المقاومة بطريقتها الخاصة، فتحصل الأسرة على إجازة من العمل ومن الحياة الخارجية، لمقاومة وتجهز لتنشيف أى بقعة مياه، هذا الخطر الذى يحيط بالجميع.
ولم يكف ذلك بل إن الأطفال، أطفال البراءة والحلم، رغم صغر سنهما يحملان على كاهلهما التخلى عن شقاوة وبراءة الطفولة، ويتعلمان مواجهة كل ما هو غريب وخارج عن العقل والمنطق، هذا الخطر المحدق بالجميع، والذى يتكاتف الجميع أمامه، وأمام ظاهرة لا يستطيع أحد الوقوف أمامها تنزح العائلة إلى حجرة صغيرة داخل الشقة، يقرران الدفاع عنها فيما يشبه التخلى عن القيمة والمكان والانسحاب.
كل هذا العالم بما تواجهه العائلة من إغماء وفقدان للشهية يوحى بعدم القدرة على التفسير لما يحدث، وكأنه خارج نطاق إرادتنا، وفى النهاية وفى نفس الحجرة التى اختارها الجميع باعتبارها ملاذا، كان كل شىء يغرق.
أما القصة الثانية فى المجموعة فهى قصة "الحفل الصباحى" ، هذا الحصار الضرورى لمن هم محكوم عليهم بالمراقبة، إلا أن الأمر يتجاوز هذه المراقبة، إلى زرع للخوف داخل أجسادهم عن طريق تمرينهم على ذلك بحضور عدة حفلات صباحية للتعذيب تراها هذه الفئة من الناس، باعتبار هذا الحفل "اصطباحة" ضرورية للحياة المأساوية التى يعيشونها.
ثم ينتقل بنا الوردانى إلى "لا أحد فى الخارج" التى تدور أحادثها عندما يخرج الرجل فى الصباح إلى العمل، فيجد ثلاثة حراس يمارسون معه وأهله فعل قهر فى منتهى السيادية، ويمنعونه هو وزوجته شيماء وأولاده، دون توضيح أسباب هذا القهر، مع الالتزام بعدم فتح الأبواب والبلكونات فيما يشبه العزلة الكاملة عن الخارج، مما يدفع الرجل والأطفال عن التساؤل عن أبسط الأشياء الضرورية فى الحياة، وهى لماذا لا نذهب للمدرسة، ولا نخرج، ومن هم الواقفون على الباب يمنعوننا، ومتى ينتهى هذا الكابوس؟
يتغير الوضع فى العالم الخارجى عندما تنطلق الرصاصات فى اليوم التالى، وفى العالم الداخلى أيضا عندما تتكسر ألواح الزجاج جراء حالة عدم الاتزان الخارجية، هذا الموقف وهذه الحالة التى يقدمها الكاتب، يقدم لنا من خلالها مفارقة، وهى أنه رغم قسوة الحراس على الباب، إلا أن بهم جانباً إنسانياً، فهم يقدمون الأكل يومياً لهؤلاء "المقهورين الذين يعيشون بالداخل"، مما يجعلنا فى حيرة، هل هؤلاء الحراس قساة أم مثل هؤلاء المحبوسين بالداخل هو نوع من رد الفعل فقط، وليسوا الفعل نفسه.
وحتى عندما تنتهى المعركة بالخارج، ويرحل الحراس ويصبح المكان فى حالة سكون بلا طلقات رصاص أو معارك للعنف، إلا أن أقسى درجات الخوف والتراجع كانت قد تحكمت فى الأب إلى أقسى درجات الجبن، ففى الوقت الذى يحاول فيه الأطفال "أطفال المستقبل"، التعامل ببراءة مع الواقع المحيط، ومحاولة التغلب على الجبن والخوف والانسحاب، يصرخ فيهم الأب وعندما لا يأبهون بصراخه، يكون تكريس الخوف والجبن بداخلهم، عن طريق الضرب ودفعهم داخل الشقة، وإغلاق الباب وإنهاء الأمر والقصة أيضا بـ "ومن أدرانا أن لا أحد فى الخارج فعلا..".
ويختتم الكاتب هذه المتتالية التى تدور أحداثها داخل شقة بقصة "فنتازيا الحجرة" التى كتبها المؤلف فى 1971، والتى تدور أحادثها حول شخصين شخص بالداخل مسجون وشخص بالخارج متربص، والمسجون يحاول أن يقاوم حالة الجبن التى يعيشها سواء من القطة التى تراقبه داخل الحجرة أو من الخارج ، ليتنفس الهواء الحقيقى حتى لو كلفه الأمر حياته.
وفى الوقت الذى يحاول فيه السجان الانتهاء من معركته، مستخدماً كل وسائل الاستهزاء ممن بالداخل، يحاول المسجون تجميع الشجاعة الهاربة منه، إلا أنه فى نهاية القصة، كما يقول الكاتب "يخرج الرجل المسجون مطواته ويمسكها بقبضته المرتعشة بعنف، ويضغط بإبهامه على الزر، فينفلت النصل اللامع ويقف الرجل المسجون وسط الحجرة، منتظراً غريمه ومعطياً ظهره للقطة"، وإن كانت القصة الأخيرة لغتها تجعلها غريبة عما سبق، باعتبار تاريخ كتابتها فى 1971.
"الحفل الصباحى" مجموعة قصصية صدرت مؤخراً للروائى والصحفى محمود الوردانى عن دار المحروسة للنشر، بعد توقف عن كتابة القصة القصيرة لمدة 13 عاماً، وكتابة 6 روايات، منها أوان القطاف وموسيقى المول، بجانب بعض الكتب الأخرى، ومنها "حدتو .. سيرة ذاتية لمنظمة شيوعية مصرية" والذى صدر عن كتاب دار الهلال العام الماضى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة