المشهد الدولي يبدو مرتبكا، بين محاولات لتعزيز الشرعية الدولية، وأخرى لتفكيكها، وتغيير مفهومها، بينما يبقى النظام العالمي برمته على المحك، في ضوء ما يمكننا تسميته بـ"الربيع الدولي"، والذي يعيد صياغة حقبة العقد الماضي، في منطقة الشرق الأوسط على مستوى دولي أكثر اتساعا، جراء خروج واضح على القيادة الأمريكية، والتي بدورها تسعى إلى الاستبداد بالسلطة، مستندة في ذلك إلى امتلاكها أدوات القوة العسكرية، عبر مظلة الناتو، والاقتصادية، جراء كونها القوى الأكبر عالميا، بينما يقف حلفاء وخصوم واشنطن للمرة الأولى في نفس الجانب المناهض للرؤى التي يتبناها البيت الأبيض، وهو ما يتجلى في أبهى صوره في الموقف من فلسطين، والذي يمثل أحد أهم مظاهر التمرد العالمي على واشنطن.
الموقف من فلسطين، في ضوء الاعترافات المتواترة بالدولة المنشودة، يمثل، بالإضافة إلى كونه شهادة موثقة بما تعانيه الولايات المتحدة وحليفتها المدللة إسرائيل، بالعزلة عن العالم، فإنه سابقة خطيرة، تضع، ليس فقط القيادة الأمريكية للعالم على المحك، وإنما أيضا المؤسسات الدولية الحاكمة، وعلى رأسها الأمم المتحدة، والتي تعجز مرة تلو الأخرى، في فرض قرار بوقف إطلاق النار في غزة، جراء خلل صريح في نظامها، والقائم أساسا على الفيتو، والذي بات لا يتلاءم مع التغيير الكبير الذي تشهده موازين القوى الدولية، ناهيك عن كونه يتنافى أساسا مع مبدأ "الديمقراطية" في صورتها الدولية، خاصة مع تصاعد الدعم لحقوق الفلسطينيين في بناء دولتهم إلى أغلبية تتجاوز ثلثي الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووقف إطلاق النار نحو أغلبية كاسحة أعاقها الفيتو الأمريكي عن الوصول إلى الإجماع الكامل.
التمرد الدولي، خاصة في دول المعسكر الغربي، على الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية، سواء فيما يتعلق بالدولة، أو الحرب في غزة، يحمل في طياته العديد من الأسباب، وأبرزها تخلي واشنطن عن حلفائها، وربما عجزها عن تقديم ما يتطلعون إليه من حماية أو مزايا، وهو ما بدا في الأزمة الأوكرانية، أو التعريفات الجمركية، أو التغيير الكبير في توجهات الناتو، وثلاثتهم يمثل الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي كانت تضفي فيها الولايات المتحدة مظلة من الحماية، كانت تحقق قدرا كبيرا من الأمان للشعوب، والأنظمة الغربية على حد سواء، وبالتالي كانت التداعيات الناجمة عن السياسات الأمريكية الجديدة، بمثابة "زلزال" أصاب دول الغرب، جراء تواتر الاحتجاجات وصعود تيارات جديدة، كانت ابتعدت لعقود طويلة عن دائرة السلطة.
حالة "الربيع الدولي"، وإن اختلفت عما شهدته منطقتنا في العقد الماضي، في ظل كون الأخيرة ذات طبيعة "أهلية"، إلا أن ثمة تشابهات، فالقيادة الدولية أصابتها الشيخوخة، وتسعى للاستئثار بكل شيء، بينما يتحرك شخوص المجتمع الدولي، نحو متنفس جديد، يمكنهم من خلال تعزيز أدوارهم، وهو ما يبدو، ليس فقط في مواقفهم من القضايا الدولية المثارة، وإنما في العديد من التحركات والمناورات التي يمارسونها، فحلفاء أمريكا اتجهوا نحو شراكات مع أطراف مناوئة لواشنطن، ولو على استحياء، وهو ما رصده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تصريح قبل أيام، حول استيراد عدد من دول أوروبا الغربية للنفط من روسيا، رغم العداء الظاهر بينهم، على الخلفية الأوكرانية، والتوجه الأكثر صراحة نحو التعاون مع الصين.
الأمر نفسه يبدو في منطقتنا، باعتبارها الأكثر زخما على الساحة الدولية في اللحظة الراهنة، فالمواقف الغربية باتت أقرب للرؤى المصرية والعربية، بينما تحمل تعارضا صارخا تجاه إسرائيل، حليف واشنطن المدلل، وصلت إلى حد اتخاذ خطوات أحادية بالاعتراف بدولة فلسطين، والتي تراها الدولة العبرية وحكومتها المتطرفة بمثابة عداء مباشر لها.
التمرد العالمي لا يقتصر على القيادة الأمريكية، وإنما يمتد إلى المؤسسات الدولية، وهو ما يبدو في ضعف الأمم المتحدة، وعجزها عن فرض قراراتها من جانب، وبزوغ منظمات بديلة، لديها من القوة والنفوذ ما يؤهلها لتكون منافسا أمميا قويا، وربما بديلا حال انهيار بنية النظام الدولي في صورته الراهنة، خاصة وأنها لا تخضع، حتى الآن على الأقل، لسيطرة قوى بعينها، بينما باتت تحظى بشعبية أكبر على المستوى العالمي، في ضوء دفاعها عن دول الجنوب، والتي عانت كثيرا من أطماع دول العالم "الأول"، والتي استحوذت على مواردها دون مقابل، لمواصلة التنمية، في حين تركت ملايين البشر يعيشون فقرا مدقعا، بين براثن العوز وآلام المرض.
وعلى الرغم من كون فلسطين مجرد قضية، في هذا العالم الشائك، فإنها تحولت من مجرد قضية إقليمية إلى ثورة دولية"، يتحرك تحت مظلتها الجميع، ليس للدفاع عنها، وإنما للدفاع عن أنفسهم، في ظل مستقبل ضبابي، حيث أدرك الجميع أنهم لم يعودوا بعيدا عن مقصلة القيادة الحالية، التي سعت إلى إظهار أنيابها، فبدأت تأكل حلفائها قبل خصومها، فتحولت إلى مصدر الخطر، بعدما كانت مظلة الحماية، فأصبحت القضية بوصلة أخلاقية، يسعى الجميع للبناء عليها، لرسم مستقبل دولي جديد، خاصة وأن خسارة الشرعية الدولية لمعركتها في الشرق الأوسط، ستساهم في تغيير الصورة الكلية للعالم، في ظل واقع جديد تسعى أمريكا لفرضه، يعيد الحقبة الاستعمارية إلى الواجهة، وإن كان بصور جديدة، عبر صياغات مستحدثة، على غرار الحديث عن ضم أراض عن طريق البيع والشراء، وهو ما يمثل انقلابا صريحا على الأعراف والقوانين الدولية.
وهنا يمكننا القول بأن ما بدأ كاعتراف رمزي بدولة فلسطين، تحول إلى لحظة مفصلية في التاريخ العالمي، تعيد فيه الشعوب، وحتى بعض الحكومات، النظر في شكل القيادة، وأدوات الشرعية، ومفهوم العدالة الدولية، حيث لم تعد واشنطن وحدها من تُصدر الأحكام، ولا الأمم المتحدة قادرة على فرض السلم، ولا التحالفات القديمة تكفي لضمان النفوذ أو الهيمنة، وهو ما يعني تبدل الولاءات، وإعادة صياغة المواقف، لتبرز فلسطين لا بوصفها قضية الشرق وحده، بل باعتبارها معيارًا أخلاقيًا جديدًا لإعادة ترتيب النظام العالمي بل وتجاوزت ذلك لتصبح المظلة الأخيرة لحماية الدول الكبرى، فسقوط شرعيتها سيكون سابقة، تفتح المجال أمام سقوط شرعيات أخرى، وربما تعيد صياغة القانون الدولي، الذي يحمل في جوهره نصوصا، بينما يبني مواده من العرف والمواثيق، وكلاهما يسهل تغييرهما بتواتر السوابق الدولية، فتحولت القضية من نطاقها المركزي في الإقليم، نحو مركزية دولية أوسع نطاقا.