تألف الطبيعة الإنسانيَّة دومًا حالة الاستقرار، وتميل كثيرًا إلى اعتياد مفردات البيئة، أو المُكوُّن الذي تتواجد فيه؛ ومن ثم يراودها حالة من القلق، أو قلة الانسجام، أو صعوبة في الارتياح؛ نتيجةً للتغيير الذي يحدث من غير ترتيب مُسْبق، وطواعية محْضة، ويزداد الأمر تعقيدًا، وصعوبة في إطار المهن على وجه الخصوص؛ فقد تكوّن في الوجدان ما يُسمَّى بالهُويَّة المهنيَّة، التي تكمن في جملة الخبرات المُكْتسبة، ونمط الأداء، الذي قد شَّكل هرم المهارات؛ ومن ثم يشعر الإنسان بالخطر، إذا ما حدث إعادة في ترتيب هذا التنظيم؛ خشية الفشل في أداء المهام في صورتها المُسْتحدثة، أو الجديدة.
أعتقد أن مستقبل المهن يُخْرجنا من حيِّز التقليديَّة إلى ساحة التجديد، سواءً أكان في المُدْخلات، أم العمليَّات، أم المُخْرجات؛ ومن ثم يحتاج ذلك إلى جُْملة الخبرات، التي تتضمَّن المعارف المُتجدَّدة المُتمخَّضة من سياق نتائج البحث العلميِّ الرَّصين، والمهارات التي قد ثبت جدْواها عبر تجارب قد تمَّت في بيئة مُنْضبطة، لا تشُوبُها متغيراتٌ، تؤثر على الثِمار الناتجةِ عنها؛ ومن ثم تتوافر القناعة التامَّة تجاه الخبرة؛ لتصبح الميولُ مُوَّجه الإقدام، والاسْتمراريَّة، التي نحْصُد منها ما يتلاءم، ويتناسب مع الثَّوْرات الصِناعيَّة المتلاحقة، بما يؤدي إلى تلبية الاحتياجات، ويحقَّقُ الطموحات، ويتفتَّحُ باب التطلَّعات، ويُعزَّز أُطر الابتكار.
كُنَّا نطالع مُفْرزات الخيال العلميِّ، وينْتابنا نوعٌ من الرَّهْبة، وأحيانًا ضعْف تقبُّلها، وكثيرًا رفضها جملةً، وتفصيلًا، وفي الآونة الأخيرة وجدنا أن ما جاء بمفردات هذا الخيال الجامح، حينها قد بات أمرًا واقعيًا نلْمسه، ونراه بعين اليقين، بل، نسْتخدمه، ونوظِّفه في بعض مناشط حياتنا، وهذا يؤكد أن بعض فرْضيات النظريَّات في صوْرتها الأوليَّة، قد لا تَلْقى اهتمامًا، أو صدىً، يتناسب مع أهميَّتها، ومردود ثمْرتها، ومع مرور الوقت، الذي لا تتوقف محاولات التجربة عن إثبات صحَّة الفرض العلميِّ، الذي يعبر عن صورة ذكيَّة لحلٍ مؤقت لمشكلة ما، كما يذهب بنا إلى نتائج، لم تكن في الحُسْبان؛ حينئذٍ نذْهل بمخترعاتٍ لم يكن للعقل تخيُّلها، ولا للمنطق أن يُدْرجها في حساباته الدقيقة.
صورة الحياة المُعَاشة دالَّة بوضوح على أننا لا نستطيع أن نسْتغْنىَ عن النتاج التقنيِّ، الذي قد صار كمتلازمة، لا تفارق استخداماتنا، وكثيرًا من المُمارسات، والأداءات، التي نقوم بها على مدار السَّاعة؛ ومن ثم تتعالى الطُّمُوحات، والرَّغبات والاحتياجات؛ لنَّيْل كثير من الأمنيات، التي تُحقِّقُ في أذهاننا صورة جوْدة الحياة، كما تُوِّفر مُقوِّمات المعيشة الكريمة، وهذا يفْتح المجال أمامنا؛ لبذل مزيد من الجهود، التي تمكِّننا من أن نوازن ليس فقط بين ما نرغب فيه، وما نتوَّصل إليه، بل، تؤكد في وجداننا أننا أمام بوَّابة الرِّيادة، التي لن تفتح إلا بامتلاك الخبرات المشْفُوعة بالتطوُّر التقنيِّ، الذي قد أبْهرت نِتاجاته، وإنْجازاته البشريَّة جمعاءَ.
من ينظر إلى الوظائف التقليديَّة نظرة الحسْرة، وتمنِّي العوْدة إليها؛ فقد توقَّف تفْكيرهُ المستقبليُّ بشكل تامٍّ؛ فمعدلات التنْمية الآن، قد باتت تُحْسب بالتطوُّر التكنولوجيِّ؛ حيث إن غالبية أنْظمة الإنتاج قد صارت تعمل وفق مُعزِّزات الذَّكاء الاصْطناعيِّ، وألوان الرُّوبُوتات، التي نصفُها بالأجهزة الإلكتروميكانيك المُبرْمجة، لنضمن نتاجًا غير مشُوبٍ لدرجة قد تصل إلى مستويات مُبْهرة، ناهيك عن معدَّلات الإخفاق، التي تبْدو ضئيلة للغاية، وصور الأمان، التي تسْتثْمرُ الطاقات، وتحافظ على البيئة، وتحدُّ من مخاطر العمل التقنيِّ.
النَّظْرة الموضوعيَّة لمستقبل المهن يُلْزمُنا أن نعمل سريعًا على تعزيز مهارات مهن المستقبل لدى فلَذات أكبادنا بصورة مقْصُودة، تقوم على إطار مُمَنْهج يضْمن تنفيذه كافَّة المُؤسَّسات التَّعليميَّة، والتدريبيَّة، التي تعمل على إعادة التأهيل؛ لنضمن فاعلية الجهود التي تحدَّ من مُعدَّلات البطالة المتوقَّعة في المستقبل القريب؛ ومن ثم نُسَايرُ التطوُّرات، والتغيُّرات في المهن بصورة مُنْضبطة، تقوم على تنبُؤات علميَّة صادقة في مُجْملها، وهنا نؤكد على ضرورة ألا تتسع الفجْوة بين احتياجات سُوق العمل المُسْتقبليِّ، وأصحاب التفرُّد المهاريٍّ في شتَّى المجالات النَّوْعيَّة.
مهن المستقبل أرى أنها تستوْعب الجميع، والتَّوعية بها قد أضْحى من دواعي أمننا القوميِّ؛ فتنمية المُقدِّرات البشريَّة، دون مواربة، يتحقق لنا تطلُّعاتنا نحو مستقبل التنْمية المُسْتدامة في وطننا الحبيب؛ لذا ينبغي أن تتضافر الجهودُ، وتتوَّحد الرؤى نحو صقل خبرات مُتعلٍّمينا بمهارات المستقبل، وإدراك ماهيَّة المهن التي يبحث عنها سُوق العمل المحليِّ، والدَّوْليِّ على حدٍّ سواءٍ.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
____
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر