بين أروقة الدرب الأحمر.. حرف يدوية عتيقة تجمع بين الأصالة والتجديد.. البراميل الخشبية صناعة تتحدى البلاستيك بمهارة وإبداع كبارها.. تستخدم فى العطارة والفسيخ والديكورات.. وصناعها: نحافظ على المهنة من الاندثار

في قلب الدرب الأحمر إرثًا تاريخيًا وفنيًا، بما تضمه من ورش عتيقة تخصصت منذ مئات السنين في إنتاج مشغولات يدوية بديعة لا يمكن أن ترحل من الذاكرة مهما مرت السنون، فبمجرد أن تزورها لا ترى عينك سوى ورش النحاس والسجاد والأخشاب متراصة بجوار بعضها البعض في مبانٍ تلخص عتباتها تاريخ المكان وعراقته، وصنايعية الأرابيسك والصدف والخيامية يمارسون حرف آبائهم وأجدادهم بإبداع وحرفية، ألف مهنة ومهنة تعكس ثقافة وتاريخ أبناء القاهرة الفاطمية.

انسجام مصطفى في تصنيع قطعته الخشبية

عرفت الصناعات اليدوية المصنوعة بأنامل مصرية رواجًا واسعًا على مر التاريخ، نظرًا لما تتميز به من جودة بعيدًا عن الآلات الحديثة، ورغم ما تواجهه من صعوبات تهدد بقائها، مع صراع الحداثة والمكننة وندرة اليد العاملة والمتدربين الجدد مع عزوف الشباب عن العمل بها، لاتزال بصمات الحرفيين وأرباب المهن اليدوية باقية، وتبدع بكل دقة وإتقان في صناعة منتجات تحتفظ بلمسة فنية مميزة بأبسط الإمكانيات والأدوات، من أجل كسب لقمة العيش والحفاظ على تراثهم من الزوال.

الأدوات المستخدمة في صناعة البراميل

في ورشة لا تتعدى مساحتها المترين بمنطقة تحت الربع، يفوح من جنباتها كفاح سنوات في مهنة لاتزال تكابد عناء البقاء، تتزاحم على رفوفها الخشبية أدوات قديمة وأشرطة حديدية، وبراميل خشبية صغيرة مصفوفة فوق بعضها البعض تتحدى لغة النسيان، يقف مصطفى محمد على هيئته المعتادة منذ سنوات، بدأب وانحناءة خفيفة للظهر، للانتهاء من برميل خشبي صغير الحجم.

برميل خشبي لحفظ الأعلاف والعطارة

وبينما كان منسجمًا في تصنيع قطعته الخشبية، تحدث "مصطفى" عن حرفته اليدوية وتاريخ استعمال البراميل، كفن قائم بذاته عشقه وأبدع فيه وتمسك به طوال سنوات طويلة، قائلًا: "تُعد صناعة البراميل الخشبية من المهن التراثية التي توارثناها أبًا عن جد، مهنة لها تاريخ طويل، وقلة قليلة من الناس يلتحقون بها اليوم، فغالبًا لا يدخل الحرفة إلا من يعشقها ويرغب في تعلمها، حيث لا يوجد الآن سوى عدد محدود جدًا من الحرفيين الذين يعملون في هذه الصناعة بمنطقة تحت الربع، وغالبيتهم من أبناء العائلة الواحدة، ولا تجد غرباء بينهم".

صناعة البراميل الخشبية

مع الاعتماد على الآلة وسيطرت البراميل البلاستيكية والمعدنية، تراجع دور البراميل الخشبية واختلفت استخداماتها: "في الماضي، كانت البراميل الخشبية تُستخدم بكثرة في تخزين المخللات، والفسيخ، والآيس كريم، ولكن مع انتشار البلاستيك، بدأ الاعتماد على البراميل الخشبية يقل تدريجيًا، واليوم، يُستخدم معظم الإنتاج في محال العطارة، ومتاجر الأعلاف، والديكورات المنزلية".

صناعة البراميل الخشبية

لم تكن صناعة البراميل مجرد مهنة بالنسبة لمصطفى، بل كانت شغفًا صاحبه منذ الطفولة، كفاح خطاه مع والده منذ أن كان في السادسة من عمره وظل متمسكًا به حتى وقتنا هذا دون كلل أو ملل: "تعلمت الحرفة منذ طفولتي، كنت أراقب وأتعلم بعينيّ قبل أن أمارسها بيديّ، أحببت المهنة منذ صغري، وكنت أمارسها أثناء دراستي حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتي، حصلت على الدبلوم عام 1985م، لكنني فضلت الاستمرار في هذه المهنة التي نشأت فيها، وما زلت أعمل بها حتى اليوم".

ورشة تصنيع البراميل الخشبية

رغم أن الصناعة تطورت عن الماضي، إلا أن الحرفة لا تزال تحتفظ بجوهرها اليدوي الذي يحتاج إلى مجهود عضلي كبير بفضل إصرار كبارها وأصحابها الأوائل: "مع مرور الزمن، شهدت المهنة بعض التطورات في الأدوات المستخدمة، لكنها لا تزال تعتمد بشكل أساسي على العمل اليدوي، حيث أن 75% من مراحل التصنيع تتم يدويًا، بينما تُستخدم بعض الآلات الحديثة مثل ماكينات الصنفرة وتقطيع الخشب".

مصطفى محمد صانع البراميل الخشبية

وبينما أخذ يدق على أشرطة حديدية تلتف حول برميل خشبي صغير لتثبيته، أوضح "مصطفى" أن الخامات والأدوات المستخدمة في صناعة البراميل متعددة، قائلًا: "تعتمد صناعة البراميل على مجموعة متنوعة من الخامات لضمان جودتها، ومنها الخشب الأبيض، الحديد، المسامير، الصنفرة، والورنيش، كما نستخدم أدوات يدوية مثل الصاروخ، الشاكوش، والبرجل لقياس الأبعاد بدقة، وأسعار البراميل تتراوح بين 150 و250 جنيهًا، وتختلف حسب الحجم والمقاس".

صناعة البراميل الخشبية

لم تكن هذه المهنة صاحبة الخطوة الواحدة، بل تمر البراميل الخشبية بعدة مراحل حتى تصل إلى شكلها النهائي، وهذا ما أكده مصطفى، قائلًا: "تبدأ مراحل التصنيع بالتقطيع، ثم المسح والتجميع، يليها الصنفرة والتشطيب النهائي من خلال الدهان والتلميع، فهناك نحو 7 أو 8 مراحل يجب إتمامها، كما أن المقاسات تختلف وفقًا للغرض الذي سيُستخدم فيه البرميل، إلا أن الخشب المستخدم يكون عادةً من نوع واحد"، مضيفًا: "رغم تراجع استخدام البراميل الخشبية في بعض المجالات، إلا أنه لا يزال يُستخدم في محلات العطارة ومتاجر الأعلاف، بالإضافة إلى دوره الجمالي في الديكورات، كما أن الطلب عليه يزداد بشكل كبير في شهري رجب وشعبان، حيث يعد موسم العمل الرئيسي بالنسبة لنا، طوال العام هناك طلب على البراميل، لكنه لا يقارن بحجم المبيعات في هذه الفترة".

ورشة صناعة البراميل الخشبية بمنطقة تحت الربع

يقضي "مصطفى" يومه في صناعة البراميل، حيث تستغرق صناعتها ساعات طويلة، بداية من تجهيز الأخشاب وتقطيعها لقطع متساوية الأضلاع وتجميعها بشكل دائري باستخدام شرائط معدنية وصولًا لمرحلتي الصنفرة والطلاء: "يبدأ عملي في الساعة العاشرة صباحًا، أقوم بتحضير الخشب في الورشة الرئيسية قبل الانتقال إلى الورشة الأخرى لاستكمال المراحل النهائية، فهناك مراحل تُنجز في الورشة الأولى، بينما تُنفذ باقي المراحل في هذه الورشة".

برميل خشبي

رغم مهارة الحرفيين، تظل المهنة مليئة بالمخاطر بسبب الأدوات الحادة والماكينات الثقيلة، وهذا ما أوضحه مصطفى: "المخاطر جزء من طبيعة المهنة، فهي من المهن التي تتطلب مهارة ودقة، ولا تخلو من الصعوبات"، مضيفًا: "العمل اليدوي أكثر أمانًا من استخدام الآلات، فالماكينات قد تكون خطيرة، إذ تعرضت للعديد من الإصابات أثناء العمل، ففي إحدى المرات فقدت جزءًا من إصبعي".

ورشة صناعة البراميل الخشبية

يكافح "مصطفى" ويعمل من أجل لقمة العيش، لم يترك مهنته يومًا، أو يستسلم لمشقتها، مكتفيًا بذاته ومهارته وحبه وشغفه الشديد لها: "رغم الصعوبات، سأظل أعمل بالمهنة حتى آخر يوم في حياتي، وطالما أحب مهنتي، سأظل متمسكًا بها"، مؤكدًا: "هكمل في المهنة لحد ما أموت".

صناعة البراميل الخشبية

ورغم حبه الشديد للصنعة، إلا أنه يواجه واقعًا مختلفًا مع الجيل الجديد: "لا يهتم الجيل الجديد بهذه المهنة كما كنا نفعل، أبنائي لم يرغبوا في تعلمها، ومتجهين إلى التعليم"، مؤكدًا في رسالته للشباب: "الأهم هو التمسك بالعمل والاجتهاد، فهما أساس كل شيء وأهم وسيلتين لبناء المستقبل".

ورشة تصنيع البراميل

تعد الحرف اليدوية التراثية جزءًا أصيلًا من الهوية المصرية، إذ ارتبطت بعدة صناعات شكلت ملامح الحياة اليومية للمصريين عبر العصور، من بين هذه الحرف، تبرز صناعة البراميل الخشبية، التي كانت تُستخدم في تخزين المخللات والأسماك المملحة، قبل أن تتراجع مع ظهور البدائل الحديثة مثل البلاستيك، ورغم ذلك، لا يزال بعض الحرفيين يتمسكون بها، محافظين على أصالتها، متحدين التغيرات التي طرأت عليها.

ورشة محمد عيد

ففي ورشة محمد عيد، صاحب الـ66 عامًا، أياد لم تعتد على التوقف، وتروس تظل تعمل لتواصل عجلة الإنتاج، فبمجرد أن تطأ قدماك شارع أحمد ماهر، تجد صفوفًا من البراميل الخشبية مرصوصة بانتظام وديكورات منزلية خشبية ذات أحجام وأشكال مختلفة صنعها عدد من الحرفيين المهرة.

دخل "محمد" ورش التصنيع منذ طفولته، وعاصر مراحل تطور برميل الخشب منذ بدايتها حتى تبدلت وظيفته من حفظ الأشياء إلى استعماله كديكور في المنازل والمقاهي: "تعلمت صناعة البراميل الخشبية على يد والدي منذ أن كنت في الـ15 من عمري، عشقت المهنة منذ طفولتي وتعلمت أساسياتها مع مرور الوقت، فكان أول برميل خشبي أصنعه بعد مرور ثلاث سنوات من العمل بالورشة".

تصنيع البراميل الخشبية

خطوات متتالية لتصنيع البراميل الخشبية في أقدم ورشة بالدرب الأحمر، تبدأ بشراء الخشب من المغلق، ثم تقطيعه وتجميع قطعه مع بعضها البعض باستخدام أطواق معدنية، واضاف عيد: "صناعة البراميل مهنة يدوية صعبة، تحتاج لمهارة وخبرة ومجهود عضلي كبير حتى يخرج البرميل في صورته النهائية، إذ تبدأ مراحل العمل بتقطيع خشب "الموسكي"، على "ماكينة الرابون" إلى قطع بأطوال محددة، ثم تجميعها باستخدام الأطواق، وصنفرتها لتكون ناعمة وصبغها".

نجح محمد وأسرته في توريث المهنة والحفاظ عليها والتطوير منها رغم عزوف الكثير عن تعلمها والعمل بها: "ظلت ورشة والدي على حالها منذ نشأتها، أعمل فيها مع شقيقي نبيل وابن شقيقي محمد، فالمهنة تعتمد بشكل أساسي على الوراثة".

ورشة تصنيع البراميل الخشبية

تحول استخدام برميل الخشب مع مرور الوقت من الحفظ والتخزين إلى استخدامات أخرى بعد إدخال بعض اللمسات الفنية عليه.. يقول نبيل عيد، والذي تعلم صناعة البراميل الخشبية منذ طفولته برفقة شقيقه: "تغير مفهوم البراميل الخشبية ولم يعد مرتبطًا بتخزين "الفسيخ" والحبوب والمخللات فقط بل تحول استخدامها لديكورات، تتخذ شكل المنضدة، أو الأريكة، أو الكرسي، أو الحوض، وغيرها".

تحتفظ البراميل الخشبية بمكانتها في تخزين وحفظ البضائع والأعلاف والعطارة والزيوت والمخللات والأسماك المملحة (الفسيخ): "نعتمد في التصنيع على خشب "الموسكي"، وهو من أجود وأغلى أنواع الخشب المستخدمة في صناعة ما زالت تحتفظ بمكانتها وأهميتها في الحفاظ على جودة المنتج لفترات طويلة".

صناعة البراميل الخشبية في الدرب الأحمر