إذا أقبل رمضان تنزلت معه نسمات الرحمة، وسرت فى الأفق أنوار المغفرة، وكأن الكون كله يتنفس بنورٍ جديد، يستعد لاستقبال أيامه المباركة، ففى أيام هذا الشهر تسرى نسائم العطاء، وتتجلى معانى الإحسان، ويتسابق المحسنون فى دروب الخير.
وإذا كان للكرم فى الناس أناس، فإن النبى ﷺ كان أكرمهم وأجودهم يدًا، وأندى الناس قلبًا، يمنح بلا حساب، ويُعطى عطاء من لا يخشى الفقر.
تأمل معى أخى القارئ الكريم، كيف كان حال النبى ﷺ فى رمضان، وجهٌ يشع نورًا، وقلبٌ لا يعرف إلا البذل، ويدان ممتدتان بالعطاء لا تعرفان التوقف، كان ﷺ يعلّم أمته أن الجود لا يُقاس بغِنى اليد، بل بسَخاء النفس، وأن العطاء فى رمضان هو بابٌ من أبواب الرحمة التى يفتحها الله لمن شاء من عباده فى هذا الشهر الكريم، كان ﷺ كالريح المرسلة، يسبق بالعطاء حاجة المحتاج، ويمنح قبل أن يُسأل، ويرى فى الإحسان نعيمًا، وفى قضاء حوائج الناس قربةً إلى الله، حتى صار رمضان فى حياته مدرسةً للجود، وميدانًا لتربية القلوب على البذل والسخاء.
كان ﷺ أجود الناس على الإطلاق، وأجود ما يكون فى رمضان، كما جاء فى الحديث «كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه فى كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة» (متفق عليه) فانظر كيف كان اجتماع القرآن والصدقة يزيده ﷺ جودًا، وكيف كان رمضان موسمًا يفيض فيه الخير وتتضاعف فيه العطايا، وكأن جود النبى ﷺ فى رمضان لا يقف عند حدّ، بل هو نهر متدفق يسقى الأرواح قبل الأجساد، يعلم الناس أن البرّ لا يُنال إلا بالبذل، كما قال الله تعالى «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» (آل عمران: 92).
فكان يعطى مما يحب، ولم يكن فى دنياه شىء أحب إليه من العطاء، كان إذا سُئل لم يردّ سائلًا، وإذا رأى مكروبًا أسرع إليه، وإذا رأى محرومًا،ط بادره قبل أن يسأل، حتى فى عام الحصار فى شعب أبى طالب، حين اشتد الجوع وضاق الحال، لم يُؤْثِر نفسه بشىء، بل كان يُقاسم أصحابه الزاد، وكان يرى فى ذلك متعة لا تدانيها متعة، وفى الإيثار عبادة لا تعدلها عبادة، كما قال تعالى: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ» (الحشر: 9).
وكان ﷺ يقول: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس» (رواه الطبرانى وحسنه الألبانى) فكان أنفع الناس للناس، لا يبيت شبعان وجاره جائع، ولا يدّخر لنفسه شيئًا، بل كان يرى الدنيا كلها مزرعةً للآخرة، وأيام رمضان موسمًا للبذل والعطاء، وفضاءً لإكرام الفقراء والمساكين، وإذا كان المال وسيلة من وسائل العطاء، فإن النبى ﷺ وسّع مفهوم الجود، فجعل الابتسامة عطاء، والكلمة الطيبة صدقة، والنصيحة المخلصة إحسانًا، ومواساة المكروب قربة، وحمل هموم الناس عبادة، قال ﷺ: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة» (متفق عليه)، وكأنه يريد أن يغرس فى قلوبنا أن الجود ليس بكثرة المال، وإنما فى الرحمة، وأن الصدقة ليست فى اليد وحدها، بل فى القلب الذى يفيض بالمحبة، والروح التى تعطى بلا انتظار لمقابل، وقد كان جوده ﷺ ممتدًا بلا انقطاع، لكنه فى رمضان كان يجعل من هذا الشهر مدرسة للكرم، وميدانًا يُذيب فيه حواجز الغنى والفقر، ويربط القلوب بجسور الإحسان، حتى يشعر الجميع أن السخاء حاضر، والبر ممتد، قال تعالى: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ» (التغابن: 16).
فكان النبى ﷺ يُعلّم أصحابه أن رمضان ليس إمساكًا عن الطعام فحسب، بل إمساك عن الأثرة والبخل، ففى رمضان تتجلّى حكمة الجود النبوى فى رفع القلوب من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن أنانية التملك إلى رحابة العطاء، ومن الخوف من النقص إلى يقين الزيادة، فالجود فى رمضان هو تربيةٌ روحية، ومدرسة إيمانية يتخرج منها العباد وهم يحملون معانى الرحمة فى قلوبهم، ويجعلون العطاء منهج حياة، ويتأسّون بالنبى ﷺ فى بذله، حتى لا يكون رمضان عندهم مجرد صيام عن الطعام والشراب، بل صيام عن الأثرة، وإفطار على بذل الخير، وسحورٌ على نيّة الإحسان، حتى تصدق عليهم بشارة النبى ﷺ: «من فطّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شىء» (رواه الترمذى).
وللحديث بقية.