الوفاء خُلُقٌ كريم، وسجيةٌ رفيعة، بها تكتمل إنسانية الإنسان وتصفو علاقاته وتسمو روحه فوق أطماع الدنيا ومغرياتها، هو العهد الموثق الذى لا تهزه رياح المصالح، والعطاء الصادق الذى لا ينضب مهما تبدّلت الأحوال، وإذا كان الناس يتفاوتون فى هذا الخلق النبيل، فإن رسول الله «ص» بلغ فيه الغاية القصوى، فكان أوفى الناس وأبرّهم، لا ينسى فضل ذى فضل، ولا يغفل عن جميل صاحب جميل، ولا يُقصى من كان له يد بيضاء، بل كان وفاؤه «ص» عنوانًا لإخلاصه، ودليلًا على عظيم معدنه، وتجسيدًا لرسالة الأخلاق التى جاء بها، وفى رمضان حيث تسمو الأرواح وتتهذب النفوس وتزكو القلوب، يكون التخلق بالوفاء أوضح ما يكون، إذ هو موسمٌ للتواصل مع أهل الفضل، ورد الجميل لمن أسدوا معروفًا، وإحياء لروابط الود التى قد تضعف تحت وطأة الأيام، فما أحوجنا إلى أن نتفيأ ظلال هذا الخلق الكريم.
ونتعلم من نبى الوفاء «ص» كيف يكون الإخلاص لمن لهم علينا يدٌ، وكيف نصون الود لمن منحونا الحب، وكيف نبرّ من رحلوا كما نبرّ من بقوا، فلا يكون الوفاء عندنا شعارًا يُقال، بل نهجًا يُحتذى، وخلقًا يُترجم فى كل موقفٍ وحال فلقد كان رسول الله «ص» وفيًّا لكل من حوله، لا ينكر فضل أحد، ولا ينسى صنيع محسن، ولا يبدل المودة جفاءً، بل يجزى المعروف أضعافه، ويحفظ الود ولو بعد رحيل صاحبه، وكانت سيرته مع أصحابه وأزواجه وأهل بيته وأمته كلها صفحاتٍ ناصعة من الوفاء الذى يندر أن تجد له مثيلًا فى سجل التاريخ، كان «ص» يجلّ أصحابه، ويعرف لكلٍ منزلته، ويذكر فضلهم دائمًا، فإذا جلس مع أبى بكر الصديق رضى الله عنه، قال: «إن أمنّ الناس عليّ فى صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته» «متفق عليه». وكان يوصى بأهل بدر خيرًا.
ويقول: «لعلّ الله اطّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «متفق عليه»، وكان «ص» وفيًّا لأمهات المؤمنين فى حياتهن وبعد وفاتهن، وكان يذكر السيدة خديجة رضى الله عنها، فيثنى عليها ويكثر من ذكرها، حتى غارت عائشة رضى الله عنها يومًا، فقال لها: «إنى قد رُزِقتُ حبَّها» «رواه مسلم»، وكان إذا ذبح شاةً قال: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة» «رواه مسلم»، ولم يكن هذا مجرد تذكرٍ عابر، بل كان حفظًا للعهد، وبرًا بذكراها، وإكرامًا لودها حتى بعد رحيلها، وكان «ص» أعظم الناس برًا بأهل بيته، محبًا لفاطمة رضى الله عنها، يكرمها ويقول «فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني» «متفق عليه». وكان يصل رحمه، ويزور أقاربه، ولا يقطع وده لأحد، بل يوصى أصحابه بأهل بيته، كما قال يوم غدير خم: «أذكّركم الله فى أهل بيتي» «رواه مسلم»، فإذا كان رمضان شهر البر والإحسان.
فإنه أيضًا شهر الوفاء، ففيه يكون أداء الحقوق أولى، وصلة الرحم أوجب، وذكرى أهل الفضل أوقع، إذ تجتمع القلوب على الخير، وترقّى النفوس للصلاح، وتتجدد العهود بين الناس، ومن دروس الوفاء فى هذا الشهر المبارك، الوفاء بالعهد مع الله، فمن وفّى بعهده مع الله، والتزم بما أمر، وأدى حقه فى العبادة، كان ذلك أعظم درجات الوفاء، وقد قال الله تعالى:
«وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا» «النحل: 91»، ثم الوفاء للوالدين، بصلة الرحم، وبذل البر، والاعتراف بفضلهما، وحسن رعايتهما فى الكبر، أو الدعاء لهما بعد الرحيل، ثم الوفاء للأهل والأقارب، فكم من رحمٍ قُطعت، وكم من ودٍّ تلاشى، وكم من عهدٍ نُقض، ورمضان فرصةٌ لتجديد الوصال، وكسر الحواجز، والعودة إلى روح الأخوة، ثم الوفاء للأصدقاء وأهل الفضل، فإن من أعظم ما يُظهر كرم النفس، أن يحفظ الإنسان المودة، ثم الوفاء لمن رحلوا، بالدعاء لهم، وصلة أهلهم، وتذكّر فضائلهم، وإحياء سيرتهم، كما كان النبى «ص» يكرم أصدقاءه الراحلين وأهلهم بعد وفاتهم.
وختامًا ما أحوجنا اليوم إلى مدرسة الوفاء النبوية، حيث لا تُبدَّل القلوب بتغير الأحوال، ولا تُمحى الذكريات بجفاء الأيام، ولا يَذهب المعروف مع تقلب الأزمان، بل يبقى العهد مصونًا، والمودة محفوظة، والعطاء ممتدًا، ليكون الإنسان كريم النفس، نقى السريرة، عفيف الروح، يأبى أن يكون ممن وصفهم الله بقوله: «وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ» «التوبة: 75-76»، فلنكن فى رمضان أوفياء لله، مخلصين له فى طاعته، أوفياء لأهلنا وأصدقائنا، محسنين إلى من كان له فضلٌ علينا، ولنقتدِى برسول الله «ص»، الذى كان رمزًا للوفاء فى كل شأنه، حتى صار الناس يتعلمون منه كيف يكون العهد محفوظًا، والجميل مردودًا، والذكرى متجددةً لا تمحوها غياهب النسيان.
وللحديث بقية..