رحلة كفاح بطول العمر.. أرض الخير بـ"أم خنان" تروى حكاية صمود بالشقرف والفأس.. فلاحو القرية: بنرعى أرضنا عشان ولادنا.. الفِلاحة حياتنا وعيشتنا بسيطة مافيهاش رفاهيات.. بنشقى طول السنة وفرحتنا يوم الحصاد.. صور

الإثنين، 10 مارس 2025 07:00 ص
رحلة كفاح بطول العمر.. أرض الخير بـ"أم خنان" تروى حكاية صمود بالشقرف والفأس.. فلاحو القرية: بنرعى أرضنا عشان ولادنا.. الفِلاحة حياتنا وعيشتنا بسيطة مافيهاش رفاهيات.. بنشقى طول السنة وفرحتنا يوم الحصاد.. صور يوم في حياة الفلاح
كتبت مرام محمد و بتول عصام

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

مع كل طلعة شمس، يخرج أناس من منازلهم بالمناجل والفؤوس، متجهين لأرضهم في قرية أم خنان بالجيزة، يشمرون عن سواعدهم بكل همة ونشاط لينجزوا أعمالهم، في روتين يومي يتكبدون مشقته بالعمل اليدوي بلا كلل أو ملل، غير آبهين بأشعّة الشمس الحارقة وبرودة الشتاء القارسة، فلا وقت للنوم والكسل، الجميع يتسابق، يزرع، يحرث، يسقى، يجني، بحثًا عن لقمة العيش ورزق "العيال".

الأرض الزراعية في قرية أم خنان
الأرض الزراعية في قرية أم خنان

مساحات مزروعة بـ القمح، وأخرى بالكوسة والبصل والبرسيم، وأجزاء مغطاة بشتلات الزينة تظللها أشجار النخيل.. أرض واحدة شاهدة على تلك الإنحناءات التي أصابت الظهور، والتجاعيد التي علت الجباه، والوجوه التي زينها السمار وأضفى عليها لمحات من النقاء، والبسمات التي سكنت الوجوه المتعبة لقلوب عامرة تتغنى بالحياة دون كلل أو ملل، ارتباطها بأرضها كارتباط الروح بالجسد.. ولاء وانتماء وعشق لا ينتهي.

أهالي قرية أم خنان
أهالي قرية أم خنان

وهب الفلاح حياته للأرض في رحلة كفاح بطول العمر، يمنحها حبه وشقاءه وتعبه فتمنحه "الستر"، يأكل منها ويعيش من خيرها وتستمر بالعطاء بهمته وتعبه، والحرفة لأبنائه من بعده، حسب ما قاله مختار أبو عميرة: "بنقوم بمهمة كبيرة، بيستفيد منها كل الناس، صاحب الأرض، والمستأجر، والتاجر، والمواطن، ما تقدرش تسأل الأرض بالنسبة لنا إيه، الأرض دي حاجة غالية جدًا، بدونها مافيش حياة، الأرض هي حياتنا، ومصدر رزقنا ورزق عيالنا، عايشين منها وفيها، هي اللي علمت أولادي وكبرتهم، الحمد لله معايا أحمد دكتور صيدلي، وإيهاب وأميرة متخرجين من كلية الحقوق".

حصاد الأرض بالشقرف
حصاد الأرض بالشقرف


يعمل الفلاح بكد ودأب، لا يشكو من طول ساعات العمل، ولا يثنيه التعب عن بلوغ المراد، فـ يوم الحصاد فرحة بوسع الكون تنسيه كل مشقة وتعب: "أول حاجة بعملها أصلي الفجر وافطر بدري، أيام جبنة وفول وممكن طعمية، وراضيين والحمد لله، وبعدها أنزل الغيط إن كان عندنا عزيق، سقي، جمع محصول، أو خضار بيروح السوق.. هو ده يومنا، الفلاح طول عمره تعبان وعيشته ما فيش فيها رفاهيات كتير، الإنسان لو عاش بدون ما يشتغل مش هيكون ليه أي قيمة في الحياة، أي حد بيجتهد، الفلاح بيتعب، والمهندس بيتعب، والدكتور بيتعب، كل واحد بيتعب في مجاله، وبعد ما بنلاقي زرعتنا حلوة وإنتاجنا كويس كل تعبنا بيروح".

يوم في حياة الفلاح
يوم في حياة الفلاح

زراعات عديدة ومتنوعة، يسقونها من عرق جبينهم، يرعونها بروحهم الطيبة، فتطرح الخير بأيديهم ويرتمي الاطمئنان في نفوسهم: "بنزرع الكوسة، والقمح، والبصل، والطماطم، والخس، والبرسيم للبهايم، بنزرع العروة الشتوية للكوسة بداية من خمسة ديسمبر، بنسميها السبع وبنجمعها بعد 30 يوم من زراعتها، والقمح بنزرعه في أول شهر هاتور حتى الفلاحين عندنا كانوا يقولوا زمان "هاتور صاحب الذهب المبثور"، والبرسيم بنزرعه في أول أكتوبر، والفلفل والباذنجان بنزرعهم في يناير، والطماطم عروات منها بيتزرع في أغسطس ويتجمع دلوقتي، وفيه بيتزرع دلوقتي ويتجمع في شهر مايو".

شاي الغيط
شاي الغيط


حياة بسيطة تتمحور حول الأرض والمحصول والماشية، لا وقت فيها للراحة لتغطية احتياجاتهم من ضروريات بسيطة رغم صعوبات متكررة تشكل عبئًا عليهم بطبيعة الحال: "الفلاحة اتغيرت عن زمان، أدواتنا كانت بدائية عبارة عن طمبور ومحراث بلدي بيجر البهايم، لكن دلوقتي ومع الآلات الحديثة الفلاح ممكن ينزل أرض بايرة يحرثها ويزرعها ويسقيها في يوم واحد عكس زمان كان يزرع الأرض في أسبوع وأكتر، دا غير التقاوي المستهجنة اللي ظهرت وبقت تدينا إنتاج كويس".

خالد أبو عرفة
خالد أبو عرفة


في نفس القرية الهادئة، يقضي خالد أبو عرفة يومه بين نباتات الزينة، يراقبها وهي تنمو كما لو كانت جزءًا من حياته، فهو يعمل في زراعتها منذ طفولته، وكبر بين شتلاتها وتعلم كيف يعتني بها، يقول: "نزلت الأرض وأنا عندي 15 سنة، هي كل حياتنا وعايشين منها.. ورثنا المهنة عن أجدادنا، كان عندهم طيبة وإخلاص، وهنكمل مسيرتهم بنفس الحب والعطاء".

عمل الفلاح في الأرض
عمل الفلاح في الأرض


مع بزوغ الشمس، يبدأ خالد يومه في أرضه التي كان يزرعها آبائه وتدر دخلاً على الأسرة، يعمل بلا توقف متنقلًا بين الشتلات، يسقيها ويراقب نموها، رغم المتاعب: "عندي مشتل، بزرع في حضاناته كل نباتات الزينة، الكمنجا، والدراسينا الحمراء، والجميلة، وفيكس الديكور، والشفوليرا، والسانتروزا، والبونسيتة، ونخل اللاتانيا".

لم يكن عمل خالد مجرد تقليد لما ورثه عن أجداده، فابتعد عن زراعة الخضروات واتجه إلى زراعة نباتات الزينة التي تُستخدم في تجميل المكاتب والمنازل والفلل والشوارع والطرق حبًا فيها: "نبدأ زراعة في شهر يناير بتجهيز أنفاق وحضانات توفر بيئة مناسبة لنباتات الزينة للنمو، وفي شهر مايو نستخرج إنتاجنا من كل الزهور".

 

طفل من أطفال قرية أم خنان
طفل من أطفال قرية أم خنان


"النفق الزراعي" هو الأساس الذي يعتمد عليه خالد في عمله، وهو هيكل مغطى يساعد الشتلات على النمو في الطقس البارد، ويمنحها بيئة شبيهة بالصيف، مما يسرّع نموها: "بنزرع نباتات الزينة في أنفاق، عبارة عن أرج حديد مغطى، بيشكل حضانة للزرع ويساعده على النمو في ظروف وبيئة مناسبة".

محمد أمين
محمد أمين


على بُعد بضع مترات، يتسامر محمد أمين صاحب الـ56 عامًا وعدد من الفلاحين ترك الزمن أثره على ملامحهم، حول "نار الركية"، حولهم أطفال يلهون ويلعبون لكنهم يعرفون مهنة آبائهم وأجدادهم عن ظهر قلب، وبجانبهم فناجين قهوة قديمة، يستخدمونها لصب الشاي، ليزيحوا عن ظهورهم عناء العمل والمُضي بهمة لإكمال اليوم كخلية نحل دؤوبة لا يتوقف لها عمل.

كفاح المرأة الريفية في الأرض
كفاح المرأة الريفية في الأرض


يقضي الفلاح حياته بين ربوع الخضرة والأرض، يكافح بالمناجل والفؤوس سعيًا في الرزق الحلال وتوفير حياة كريمة للأبناء، حسب ما أكده محمد، فقال بينما كان منسجمًا مع خضرة الطبيعة: "بنصحى من 6 الصبح على أكل عيشنا، نأكل المواشي، وننزل الأرض نشوف الشغل اللي ورانا من ري وزراعة، في موسم الربيع بنزرع برسيم، وقمح، وفول حراتي، وفي الصيف بنزرع ذرة، وبعد ما نقضي مصالحنا بناكل اللقمة ونشرب كوباية الشاي، هي دي عيشتنا، واللي سابه لينا جدودنا إحنا بنعمله".

يبذل الفلاح الجهد، صابرًا على أعمال الأرض الشاقة في سبيل العيش الكريم، وتوفير احتياجات أبنائه من ملبس ومأكل ومشرب، وادخار مصاريف زيجاتهم: "أنا راجل على المعاش، رزق الأرض والمواشي بيساعدني على المعيشة وتوفير احتياجات البيت اليومية، ومصاريف تجهيز البنات، معايا خمس بنات وولد، جوزت أربعة وفي بنت في ثانية إعدادي والولد في ثانية ابتدائي السنادي، ربنا كرمني وعلمتهم وجوزتهم، ومستورين والحمد لله، والفلاح في عمله معرض لأي حاجة، معرض لبرودة الشتاء، وحرارة الصيف، وإصابات المنجل والفأس، لكن ما تعودناش نقعد في البيت وربنا بيعنا عشان نجري على أكل عيشنا ونربي عيالنا ونسترهم".

مزارعون قرية أم خنان

مزارعون قرية أم خنان


يعيش أهالي القرى حياة ريفية رغم بساطتها إلا أنها تزرع في النفس حقولًا من السعادة والرضا: "عايشين حياتنا بنكافح ونتعب، رأس مالنا الأرض وشوية البهايم اللي عندنا.. الأرض هي حياتنا وأكل عيشنا، اتربينا وكبرنا فيها وعلمنا عيالنا منها، اتولدنا فيها وهنموت فيها، أبويا كان دايمًا يقول حافظوا على الأرض، وزي ما حافظنا عليها ليكم حافظوا عليها لأولادكم، وأدينا أهو بنزرع أرضنا ونرعاها عشان ولادنا يترحموا علينا بعد ما نموت ويقولوا سابوا لينا حاجة نعيش وناكل منها".

يبدأ الفلاحون يومهم مع بزوغ الفجر، لا يعرفون راحة ولا عطلة في سبيل لقمة العيش، فيدركون جيدًا أن الاستكانة للراحة تعني حتما عدم قدرتهم على توفير احتياجاتهم واحتياجات أُسرهم، حسب ما أكده هاني حسني، صاحب الـ48 عامًا، والذي ورث الفلاحة أبًا عن جد.

هاني حسني
هاني حسني


يقضي هاني يومه بين زراعة وحصاد وري المحاصيل، منهمكًا في روتين يومي لم يختلف منذ ولادته: "نبدأ يومنا كل يوم بدري، نجمع الخضار، ولو في محصول نروح السوق نبيعه، ولو مفيش، نقعد نستنى الرزق.. الأرض دي حياتي، هي اللي بصرف منها على بيتي وأولادي، ومفيش شغلانة غيرها".

يظل حب الأرض متجذرًا في قلب الفلاح، فهي ليست مصدر رزق فقط، بل حياة بأكملها، تسعده تارة وتحزنه تارة أخرى، يتحمل مشقتها وصعوباتها ويزرعها ليحصد ثمار جهده ويرى نتاج تعبه لشهور: "إحنا فلاحين من يوم ما اتولدنا، والدي كان دايمًا يقول إن الأرض رزق وفرحة، صحيح تكاليف الزراعة من إيجار أرض لشراء بذور وأسمدة زادت عن زمان وأعباءنا كترت، والجنيه مش بيجي بالساهل، لكن في الآخر لما نشوف الزرع بيطرح، بنحس إن تعبنا مارحش هدر".

المحصول لدى الفلاح ليس مجرد رزق، ولكنه أمانة ومسؤولية، لابد من الاعتناء بها ومتابعتها في كل لحظة: "الزرع لازم يشرب بليل حتى لو في عز التلج، ولو الفلاح قصر السنة كلها ممكن تبوظ.. القمح مثلاً في أيام أمشير بيحتاج متابعة، عشان العواصف والهواء، كمان لازم يشرب بليل أو الفجر".

رغم الصعوبات التي تواجه الفلاحين، فإنهم لا يزالوا متمسكين بأرضهم، يسعون للحفاظ عليها، ويعملون بجد حتى لا تتأثر المحاصيل بالتغيرات الاقتصادية والمناخية: "إحنا بنسعى في الأرض عشان تجيب خير، وربنا كريم.. طول ما في تعب وصبر، الرزق هييجي".

يعيش الفلاح حياة بسيطة بعيدة كل البُعد عن التكلف والصخب، يقضي يومه في أرض وهب حياته لها في سبيل العيش الكريم، يعيش حياته عنوانه الكفاح والعمل، يزرع ويحصد لتحسين إنتاجيته وحياته، راضيًا بالقليل، معتزًا بأرضه، ومتوكلًا مؤمنًا بما تحمله الأقدار، حسب ما قاله يحيى عطية أبو عميرة، صاحب الـ48 عامًا، بينما كان حاملًا فأسه، مشمرًا عن ساعديه.

لا يملك الفلاح رفاهية الوقت، خُلق للكفاح والعمل في منظومة متكاملة يعيش من رزقها صاحب الأرض ومستأجرها وعمال اليومية: "بصلي الفجر جماعة واطلع على الغيط، بننزل من بيتنا من غير فطار ولا شرب، أول حاجة نعملها نأكل البهايم، وبعدها نقعد نشرب الشاي ونفطر، ونبدأ شغل، وبنزرع محاصيل كتير، زي القمح والبرسيم.. الأرض بالنسبة لينا حياتنا، بناكل منها وبنشرب، ومفيش مدخل رزق غيرها".

عطية أبو عميرة
عطية أبو عميرة


ما زال عطية وأسرته يحافظون على أسلوب الحياة التقليدي الذي عاش عليه أجدادهم، حيث يعتمدون على الفرن البلدي بدلًا من الغاز، ويخبزون كل شهرين أو ثلاثة أشهر: "الكانون شغال عندنا على طول، والفرن البلدي ماشي زي زمان، كل حاجة طبيعية، والحمد لله النعم زايدة علينا".

هكذا يواصل الفلاح كفاحه اليومي، متحديًا الظروف، متمسكًا بأرضه، لأنها ليست مجرد مصدر رزق، بل رمزًا للهوية والجذور التي تربطه بأجداده وتاريخه، في رحلة كفاح لا تنتهي، تبدأ مع شروق كل يوم جديد، كما يبقى حبه للأرض هو الدافع الأكبر لمواصلة العمل، مؤمنًا بأن الرزق بيد الله، وأن كل تعب يبذله في الأرض يأتي ثماره يوم الحصاد.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة