"نساء غزة.. صانعات الأمل وسط الركام".. رفيدة سحويل فنانة تحول الركام لألوان.. أنبتت من قلب الحرب معرضا يقاوم الفناء.. أعادت تعريف الفن كفعل بقاء وذاكرة ووطن.. فقدت بيتها وأحلامها وولدت من جديد بلوحات توثق الوجع

الجمعة، 05 ديسمبر 2025 04:00 م
"نساء غزة.. صانعات الأمل وسط الركام".. رفيدة سحويل فنانة تحول الركام لألوان.. أنبتت من قلب الحرب معرضا يقاوم الفناء.. أعادت تعريف الفن كفعل بقاء وذاكرة ووطن.. فقدت بيتها وأحلامها وولدت من جديد بلوحات توثق الوجع الفنانة رفيدة سحويل

كتب أحمد عرفة

 

<< رفيدة سحويل ترسم كي تبقى ولوحاتها صرخة للعالم
<< فقدت مكتبة تضم أكثر من 1000 كتاب ولوحاتها رسوماتها
<< كل لوحة لها مثلت نجاة جديدة ورسمت لتقاوم النسيان والغياب والخراب
<< خسرت بيتها وذاكرتها لكن لم تخسر يديها التي ترسم الحياة وسط الموت
<< اللون سلاحها الوحيد أمام آلة الإبادة الجماعية

 

في قلب الدمار، وبين أصوات الطائرات التي لم تكن تغيب خلال الحرب، وصرخات الناجين التي تخترق الجدران المهدمة، كانت الفنانة التشكيلية الفلسطينية رفيدة سحويل من مدينة غزة ترسم لونا آخر للحياة، تلك الشابة التي لم تمنعها الحرب من الحلم، ولم تخمد نيران القصف رغبتها في البقاء فنانة تحمل في لوحاتها وجع الوطن ودهشة الحياة معًا.

ورفيدة، التي اعتادت منذ أعوام أن تفتح نوافذ الأمل بألوانها، كانت تستعد مطلع أكتوبر عام 2023 للاحتفال بعيد ميلادها وافتتاح معرضها التشكيلي الخامس، غير أن العدوان باغتها كما باغت القطاع بأكمله، فحول فرحتها المنتظرة إلى ركام وحطام.

الفنانة رفيدة سحويل
الفنانة رفيدة سحويل

 

تقول رفيدة لـ"اليوم السابع"، بصوت يختلط فيه الحنين بالألم: "قبل العدوان كنت أحضر نفسي وأنتظر قدوم عيد ميلادي في الثالث من ديسمبر لافتتاح معرضي الشخصي الخامس، وفي اليوم الثاني من الحرب، الثامن من أكتوبر، نزحت تحت أثر القصف وسقوط الركام لمنزلنا فوق رؤوسنا أنا وعائلتي، بعد أن كنت قد أنجزت 18 لوحة جديدة كنت أتهيأ لعرضها، لكن كل شيء انتهى في لحظة".

بين الركام ولدت اللوحة الأولى
 

لم يكن ما خسرته رفيدة مجرد لوحات أو ألوان على قماش، بل سنوات من التعب، وأحلام معلقة على جدران لم تعد موجودة، حيث تتحدث الفنانة التشكيلية بحزن لا تخفيه: "فقدت أعمالي جميعها ورسوماتي وأدواتي ومكتبتي، كل شيء تحول إلى رماد، كنت أملك أكثر من ألف كتاب بين منزلي ومنزل أهلي، وكلاهما تم قصفه، ولم يتبق سوى الذكريات، وصور قليلة كنت قد وثقتها قبل الحرب".

لوحات فقدتها رفيدة سحويل خلال الحرب
لوحات فقدتها رفيدة سحويل خلال الحرب

 

خسائر القطاع الثقافي

وبحسب بيان صادر من وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، فقد تضرر 226 موقعا أثريا في غزة جراء الاستهداف الإسرائيلي الذي طال المواقع كلها، خلال الحرب الإسرائيلية، موضحا أن 138 موقعا لحقت بها أضرار كبيرة، و61 متوسطة، و27 بسيطة، بينما تم حصر 90 موقعا دون أضرار.

وأشار إلى أنه جرى تقييم الميزانيات اللازمة لإعادة تعافي قطاع التراث الثقافي بـ261.15 مليون يورو، تم تقسيمها إلى 3 مراحل، تشمل المرحلة الأولى التدخلات العاجلة لإنقاذ المواقع المُهددة بالخطر وتدعيمها، وقدرت الميزانية اللازمة لذلك بـ31.2 مليون يورو.

 

ضياع ذاكرة فنية
 

تصف لحظة الدمار وكأنها مشهد سينمائي من فيلم لا تريد أن تشاهده مرة أخرى. فبينما كانت تحلم بتعليق لوحاتها في قاعة فنية مضاءة، وجدت نفسها تبحث عن بقايا ألوانها تحت الأنقاض، ومع كل لوحة ضاعت، ضاع جزء من ذاكرتها الفنية، لكنها لم تسمح للحرب أن تسلبها جوهرها الإنساني.

وتقول رفيدة بمرارة: "ذهبت تلك الأعمال الفنية ولم تعد، فمن يستطيع استرجاع الزمن وعودة ما كان؟ من يستطيع أن يغير هذا الواقع؟ وكيف يمكنني أن أستعيد لحظات إنتاج تلك الأعمال التي وُلدت من قلبي؟".

أحد أعمال رفيدة سحويل المفقودة في غزة
أحد أعمال رفيدة سحويل المفقودة في غزة

نزوح متكرر وبدايات جديدة من العدم

لم تكتف الحرب بتهجير رفيدة مرة واحدة، بل جعلت النزوح جزءا من يومياتها، حيث نزحت سبع مرات، وفي كل مرة كانت تفقد شيئا من مقتنياتها أو إنتاجها الفني الجديد.

"فقدت أثناء النزوح بعض الإنتاج الذي أنجزته خلال الحرب، وأيضا الأدوات البسيطة التي اشتريتها بصعوبة، بل وحتى شهاداتي العلمية ضاعت بين تنقلاتي"، حيث تتحدث بهدوء عن أبرز ما فقدته خلال النزوح بينما تخفي خلفها تعبا عميقا.

لكن وسط الخسارات، ولدت الفكرة التي غيرت مسارها الفني والإنساني، أن تقيم أول معرض فني في غزة خلال الحرب، تحت عنوان "الجدار غير الأخير".

أضرار تلاحق المواقع التراثية في غزة
أضرار تلاحق المواقع التراثية في غزة

 

الجدار غير الأخير.. صرخة ضد الإبادة
 

لم يكن المعرض مجرد فعل فني، بل شكلا من أشكال المقاومة الوجودية، حيث بدأت رفيدة العمل على لوحاتها الجديدة في نوفمبر 2023، أي بعد شهر واحد فقط من بدء الحرب، متحدية الخوف والجوع والدمار.

وتضيف رفيدة سحويل :"بدأت الإنتاج الفني بدافع التغلب على آلة الإبادة الجماعية التي نواجهها كل يوم، فالحرب تقتل جوهر الإنسان وتحوله إلى آلة ميكانيكية تكافح للبقاء، لكن الفن يعيدنا إلى إنسانيتنا، حين أرسم، أشعر أنني باقية وموجودة رغم كل شيء".

وتحولت أعمال رفيدة إلى أرشيف بصري يوثق حقبة الإبادة في غزة، فكل لوحة كانت مرآة لأوجاع لا يستطيع الكلام وصفها، حيث تقول :" المعرض ليس مجرد فن، بل صرخة بصرية تقول للعالم "نحن هنا.. نحيا رغم الحرب، نبدع رغم الألم.. أرسم لأقول إن الفن هو سلاحنا السلمي، وإن الفلسطيني قادر على تحويل الركام إلى أمل".

إحدى لوحات رفيدة سحويل
إحدى لوحات رفيدة سحويل

 

معرض في زمن القصف

وسط هذا الجحيم، استطاعت "سحويل" أن تنظم معرضها داخل مستشفى شهداء الأقصى، بعد أن قررت أن يكون المكان الأكثر أمنا – ولو نسبيا – هو المستشفى نفسه، قائلة : " قررنا إقامة المعرض في المستشفى كي يتمكن الناس من رؤيته بأمان، رغم أن المكان تعرض للقصف تسع مرات، ومع ذلك، أصررنا على الاستمرار، لأننا شعب صامد، ولدينا إصرار عميق على الحياة".

اعتمدت رفيدة على إمكانيات بسيطة، عرضت لوحاتها في ممرات المستشفى وعلى الجدران، لتتحول ألوانها إلى مساحة حياة في مكان يعج بالمصابين والدماء، حيث توضح :"حاولت عرض الإنتاج بطريقة تليق بحكايات من فقدناهم، لأن كل لوحة تحمل قصة شهيد أو نازح أو أم تبحث عن طفلها تحت الأنقاض".

رفيدة سحويل تعلم الأطفال
رفيدة سحويل تعلم الأطفال

 

الفن كفعل مقاومة وبقاء
 

في زمن تتساقط فيه البيوت، يصبح الرسم شكلا من أشكال التحدي، فرفيدة، التي نجت خمس مرات من الموت، تعتبر أن إنتاجها الفني هو وسيلتها للبقاء، حيث تشرح تفاصيل أصعب اللحظات عليها :"نجوت خمس مرات من الموت المحتم، الفن أنقذني، هو فعل مقاومة ضد الفناء، أن أرسم وسط القهر والحصار هو إعلان وجود، رسالة بأننا رغم كل شيء، لا نزال نحلم ونخلق الجمال"، لكن مشقة الطريق كانت قاسية، فالمكان غير مهيأ، والمواد نادرة، والحرارة خانقة في الصيف، والبرد قاس في الشتاء.

لوحة فقدتها رفيدة سحويل خلال الحرب
لوحة فقدتها رفيدة سحويل خلال الحرب

 

ضحايا القطاع الثقافي بغزة

وبحسب لتقرير الخامس الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية، فإن عدد الكتاب المسجلين فى اتحاد الكتاب 200 كاتبا وشاعرا جميعهم أصبحوا نازحين، بجانب استشهاد 20 كاتبا، حيث كان أول شهيد الكاتب عمر أبو شاويش، كما كشف التقرير، أن عدد المسجلين في اتحاد الفنانين التشكيليين 185 فنانا جميعهم في أماكن النزوح، بجانب استشهاد 30 فنانا تشكيليا، لافتا إلى أن العدد الكلى لا يشمل عدد طلبة وخريجى الفنون الذين يقدرون بأكثر من 2700 مسجل.

 

وتضيف رفيدة سحويل :" كنت أتعذب خلال التجهيز للمعرض في حر الصيف، ثم جاء الشتاء القاسي بدون كهرباء أو إنارة. ومع ذلك، لم أتوقف، وأعمل الآن على إنتاج أعمال جديدة وفيديو آرت يوثق رحلتنا في الصمود".

انهيار القطاع الثقافي في غزة
انهيار القطاع الثقافي في غزة

 

الفقد الإنساني.. وجع لا يحتمل
 

الحرب لم تسرق فقط بيتها وأدواتها، بل اقتلعت أيضا أناسا من قلبها، حيث تقول :" فقدت بعض أفراد عائلتي الممتدة، وبعض الأصدقاء، لم يكن الأمر مجرد خسارة أشخاص، بل فقدا لجذوري، هؤلاء كانوا صوت الدفء وسط الفوضى، رحيلهم ترك داخلي فراغًا لا يُملأ، فالحرب لم تكتف بالجدران، بل اقتلعت أرواحًا منا".

ضحايا الجماعة الثقافية في غزة بسبب الحرب
ضحايا الجماعة الثقافية في غزة بسبب الحرب

 

وتضيف أن ما خسرته يتجاوز المادة: "ما فقدته ليس مجرد أشياء أو أشخاص، بل أجزاء من هويتي، من نفسي، من ذاكرتي الجماعية التي كانت تمنحني معنى".

الفن في غزة ليس ترفا بل ضرورة
 

وتختم رفيدة حديثها بكلمات تلخص فلسفتها الفنية والإنسانية: "الفن في غزة ليس رفاهية، بل ضرورة، هو وسيلتنا للتعبير عن الألم والصمود، ولإعادة بناء عالمنا الخاص وسط الخراب، وهو الدليل أن الحياة أكبر من الحرب، وأن روح الإنسان لا تهزم، كل لوحة أرسمها هي وثيقة للتاريخ، شهادة بصرية على ما عشناه، ليعرف العالم أن غزة لا تموت".

وفي زمن يقصف فيه الحلم قبل أن يكتمل، كانت رفيدة ترسم لتقول إن اللون أقوى من الرصاص، والفن باقٍ ما بقيت الإرادة، فمن بين الركام، خرج معرضها "الجدار غير الأخير" ليكون جدار الحياة الأخير في وجه الموت، ونافذة تفتحها غزة على العالم لتقول: "نحن لا نحيا فقط لننجو، بل لنخلق من الرماد جمالًا ومن الألم معنى".

 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب