بما أننا فى شهر ميلاد نجيب محفوظ، ما زال النجيب يقدم دروسا بأعماله وسلوكه، وقدرته بعد كل هذه السنوات على رحيله على تقديم دروس وأفكار، فى التواضع، والحكمة العميقة الجامعة من عمق الفلسفة إلى بساطة التعبير، وقد ساهمت السينما فى التعريف بالنجيب وأعماله، فضلا عن قدراته على التقاط النفوس من أعماقها وتقديمها فى أعمال وسياقات وقوالب تحمل الحكمة للعامة ومنهم، لدرجة أن أقوال الروائى العظيم لا تزال قادرة على إثارة الجاذبية بمواقع التواصل والغوص بأعماق النفوس البشرية، ليعبر عما ينتاب البعض من ادعاء وغرور، فهو أديب الطبقة المتوسطة بكل تناقضاتها وطموحاتها وأطماعها ورغبات بعض أفرادها فى الصعود، ومخاوف البعض الآخر من الهبوط، بل إن ما يقدمه نجيب فى أعماله التى تناقش قاهرة ما بين الحربين الأولى والثانية ما زالت تطرح نفس الأسئلة بطرق مختلفة بين أجيال الألفية الثالثة مع تصاعد سلطة التكنولوجيا والتطور، فالأديب الكبير يتحدث عن أهمية العلم والحرية للتقدم.
نجيب محفوظ ابن الطبقة الوسطى، يؤمن بالوطنية والعلم والحرية والعدالة والتسامح، استوعب الفلسفة من اليمين لليسار، لكنه بقى مؤمنا بمبادئ الوفد وثورة 1919، ومع هذا يقترب من أفكار اليسار عن العدالة، وأحيانا يبدو متصوفا يساريا ليبراليا، ومع هذا هو أفضل من قدم تحليلا للفكر المتطرف والمتعصب والانتهازى، بل والجاهل المتعالم «المتعامق» المدعى، فى صورة «جعفر الراوى» بطل «قلب الليل»، وهو نموذج لشخص مصاب ببعض جنون العظمة، تربى تحت إشراف جده ووسط عزلة، وما إن خرج للعالم حتى أصابته صدمات المعرفة والمجتمع، تعرف على سيدة ثرية أعجبتها أفكاره لكنه داخل صالون السيدة بدا مغرورا، ولقدر بسيط من المعرفة أعلن أنه توصل إلى سر الوجود والحياة وعكف على تأليف كتابه الذى يمثل خلاصة الفكر والفلسفة والأديان والسياسة.. كان نموذج الرجل الذى يعرف كل شىء ولديه إجابة عن كل الأسئلة التى تحير البشرية، ولم تكن أفكار جعفر سوى مجموعة من الهواجس والأفكار المتطايرة والمشوشة، وعندما ناقشه أحدهم قتله ودخل السجن ليخرج وقد تحول إلى أحد مجانين الشوارع والطرقات، وهى حالة تصيب بعض من يصابون بالصدمة ويتعصبون لأفكارهم، بينما تبقى الأفكار نسبية قابلة للمناقشة.
رسم نجيب محفوظ شخصية جعفر الراوى، نموذجا لشخصيات تظن أنها تمتلك يقينا بلا علم ولا معرفة، وهو نموذج رأيناه حولنا حتى فى عصر الانفجارات التكنولوجية، وخلال أحداث التحولات والثورات والتغييرات التى تنتج مرضى خلف ستار ثورى أو سياسى، ومن عبقرية نجيب محفوظ أننا نشاهد شخصيات جعفر الراوى فى صورة من يدعون أنهم مهدى منتظر، أو ناشط سياسى تحول إلى خليط من الهوى والإدمان والمعتقدات المشوشة، ومنهم مقاول ظهر قبل سنوات وادعى أنه زعيم ثورى ومشى وراءه كتاب وأدباء ومثقفون ومدعون كل منهم يبدو «جعفر الراوى»، الفرق بين مدعى تأييد، ومدعى ثورية، حيث يقفون فى عالم افتراضى يمارسون أنواعا من الادعاء، وهو ما يبقى ضمن عبقريات نجيب محفوظ.
وحتى فى عالم الانتهازية السياسية فقد عبر عنها نجيب محفوظ الذى ظلت علاقته بالسياسة أقرب إلى علاقة الأغلبية الصامتة، كان شاهدا أكثر منه مشاركا، وكثيرا ما أثارت آراؤه السياسية عليه الغضب والانتقادات، ويبدو محيرا لمن يمتلكون رؤية واحدة ويقينا قطعيا، فهو يرى عالم البشر نسبيا، يحمل الشىء ونقيضه، وأحيانا يصف السياسيين بأنهم من الأوغاد «بت أعتقد أن الناس أوغاد لا أخلاق لهم، ومن الخير لهم أن يعترفوا بذلك، ويقيموا حياتهم على دعامة من هذا الاعتراف، وهكذا تكون المشكلة الأخلاقية الجديدة هى: كيف نكفل الصالح العام والسعادة البشرية فى مجتمع من الأوغاد؟».. نجيب محفوظ لا يعترف بعالم مثالى لكنه ملىء بالتناقضات والانتهازيين، وهو هنا واقعى يفهم بالسياسة التى لم يمارسها أبدا، ولا يعمل بها ويفضل الحكم على أدبه والذى يحمل آراءه الجريئة والعميقة، من دون أن ينحاز لغير العلم والتقدم، ولهذا انتصر فى نهاية «أولاد حارتنا» للعلم باعتباره هو سفينة النجاة، والمعرفة أو «عرفة»، هى الطريق للفهم والتسامح ومواجهة التعصب والتطرف والمرض النفسى، «عرفة» نقيض جعفر الراوى، والعدل هو طريق بناء مجتمع متوازن قادر على البناء والسير للأمام.
