في مستهل هذه القراءة النقدية لفيلم "الست"، وجدتني مضطرا للتأكيد بداية أن تباين الآراء حول العمل الفني يمثل دليلا صحيا على حيويته، ومن هذا المنطلق، يأتي التعامل مع تجربة المخرج مروان حامد والمؤلف أحمد مراد بوصفها محاولة سينمائية طموح، سعت للاقتراب من قامة فنية بحجم "أم كلثوم"، وهو اختيار يحمل في طياته شجاعة تحسب لصناع العمل، ورغبة حقيقية في تقديم منتج بصري يوازي في جودته الإنتاجية أضخم الأعمال العالمية. ونحن هنا نضع مسافة آمنة بين القراءة الفنية المتأنية وبين أي دعاوى تذهب لتخوين النوايا أو التشكيك في الغايات، فالهدف يبقى تفكيك العناصر الفنية وفهم خياراتها الدرامية في ضوء ما ظهر على الشاشة.
تتجلى أولى العلامات المضيئة في الفيلم عبر ذلك الاعتناء الفائق بالتفاصيل البصرية؛ إذ ينجح صناع العمل في بناء عالمٍ ساحر من الديكورات والأزياء والإكسسوارات، مانحين المتلقي رحلة بصرية تعيد تشكيل الزمن بأناقة لافتة، تبدو القاهرة في عدسة الفيلم مدينةً منمقة، تزهو بعمارتها وشوارعها، وكأنها لوحة تشكيلية مرسومة بعناية فائقة، وهذا التوجه نحو "الإبهار البصري" يعكس رغبة في تقديم صورة سينمائية جذابة، غير أنه، على بريقه، يطرح إشكالية تتعلق بـ"روح المكان"، ففي خضم البحث عن الكادر المثالي واللقطة المبهرة، تظهر الصورة وكأنها تنظر إلى الواقع المصري بعين "السائح" المنبهر بالغرائبية، أو ما يمكن وصفه بـ"الاستشراق الذاتي"، نرى الشخوص والأماكن عبر فلتر من الجماليات المصقولة تباعد بين المشاهد وبين "الدفء" الحقيقي لمصر، وتصبح الصورة هنا غاية في حد ذاتها، وقد تطغى أحيانا على الحميمية المطلوبة لفيلم يتناول سيرة شخصية شعبية بقدر ما هي نخبوية.
عند الانتقال إلى البناء الدرامي، اختار السيناريو السير في طريق "من المهد إلى اللحد"، متتبعا الرحلة الزمنية الطويلة لكوكب الشرق منذ طفولتها في السنبلاوين وحتى رحيلها. وأفلام السيرة تتحرك غالبا داخل مسارين كبيرين: مسار "شريحة من الحياة" الذي ينتقي فترة مكثفة من عمر الشخصية ويجعلها عدسة كاشفة للجوهر (فيلم "ناصر 56" نموذجا)، ومسار "من المهد إلى اللحد" الذي اختاره مؤلف فيلم "الست". هذا الخيار، وإن كان يقدم بانوراما واسعة لحياة حافلة، فإنه يضع السرد أمام مأزق "التشظي"، حيث يجد المشاهد نفسه يلهث خلف عقود زمنية تمر سريعا، فتتحول المراحل العمرية والتحولات السياسية والاجتماعية إلى ما يشبه العناوين العريضة في شريط إخباري يمر سريعا على شاشة التليفزيون، بينما تظهر الشخصيات المحورية في رحلة أم كلثوم وكأنها "ضيوف شرف" يمرون سريعا لإكمال الصورة التاريخية، دون أن نملك الوقت الكافي للغوص في عمق العلاقات الإنسانية والفنية المتشابكة التي صنعت هذه الأسطورة.
الرؤية والسقوط ونموذج السيرة العالمية
تبدو الرؤية الإخراجية منذ اللحظة الأولى منجذبة بوضوح إلى نموذج السيرة العالمية، إذ يفتتح الفيلم بحيلة السقوط على المسرح متبوعة ببناء يقوم على "الفلاش باك"، في صيغة تذكّر مباشرة بالبناء الذي تبناه فيلم La Vie en Rose في تناوله لحياة إيديث بياف. هذا التشابه في المدخل لا يقتصر على التكنيك، بل يمتد إلى محاولة تحميل لحظة السقوط دلالة تراجيدية كبرى، باعتبارها ذروة لمسار من الانهيار النفسي والجسدي، وهي دلالة بدت منسجمة مع حالة بياف التي عاشت سنوات من الإدمان والألم، بينما تختلف جذريا عن السياق التاريخي لسقوط أم كلثوم في الأوليمبيا، ذلك السقوط العرضي المرتبط بحماس معجب اندفع نحوها، قبل أن تنهض وتستكمل الحفل بثبات.
هذا الاختيار البصري، الذي يحوّل حادثا عارضا في سيرة "الست" إلى مدخل تراجيدي ثقيل، يمنح الفيلم لحظة افتتاحية مشحونة، لكنه يدفع في المقابل ثمنا على مستوى "الصدق النفسي"، إذ يبدو وكأنه يستعير قالبا ناجحا من تجربة أخرى أكثر اتساقا مع فكرة الانهيار، ثم يضعه فوق شخصية اشتهرت بقدرتها على التماسك والوقوف حتى اللحظات الأخيرة من عمرها. النتيجة صورة افتتاحية ذات قوة شكلية، غير أن علاقتها بجوهر تكوين أم كلثوم، وبفلسفة حضورها فوق المسرح، تبقى موضع تساؤل مشروع.
حين تلامس الدراما حدود التاريخ
في النقاش المتجدد حول أفلام السيرة الذاتية، يظل الدفاع القائل بأننا أمام "عمل روائي لا وثيقة تاريخية" دفاعا منطقيا ومشروعا، فمن المعلوم أن للدراما حقوقها في "التكثيف" و"الدمج" و"الحذف" لخدمة رؤيتها الفنية، وفي قراءتنا لفيلم "الست"، من المهم التأكيد مجددا أن الغاية ليست مطالبة صناع العمل بالتحول إلى مؤرخين، فحرية الخيال تظل حقا أصيلا للمبدع. غير أن هذه الحرية، حين تلامس وقائع ثابتة وشخصيات عامة، تضعنا أمام تساؤل جوهري حول أثرها على "الصدق الفني" والبناء الدرامي للعمل ككل، والفيلم يقدم لنا نماذج تستدعي التأمل في هذه العلاقة المركبة بين الخيال والواقع.
ولعل المثال الأبرز هو التصوير الدرامي لعلاقة أم كلثوم بـ"أمير الصحافة" محمد التابعي. يقدم الفيلم التابعي في صورة الصحفي الشاب الذي ينتظر بالساعات على بابها، ثم تقوم هي باقتراح فكرة تأسيس مجلة "آخر ساعة" عليه، وتمنحه مبلغا ماليا ليبدأ مشروعه، هذه المعالجة الدرامية، التي تهدف بوضوح إلى إعلاء مكانة "الست" وجعلها شخصية محورية مؤثرة في محيطها -وهي حقيقية في المطلق- ولكنها تبتعد عن الرواية التاريخية الموثقة وتخلط ما بين التابعي ومصطفى أمين بما يدل على ضعف في البحث لا مبرر له، فالمعروف أن التابعي كان في ذلك الوقت 1944 قامة صحفية راسخة ورئيس تحرير متمرس، وأنه أسس "آخر ساعة" بجهده وماله الخاص قبلها بعشر سنوات، وشارك في تأسيس جريدة المصري مع محمود أبو الفتح وكريم ثابت، كما كان التابعي الصحفي المصري الوحيد الذي رافق العائلة الملكية في رحلتها الطويلة لأوروبا عام 1937.
تمتد هذه المنهجية في التعامل مع التاريخ لتصل إلى واحدة من اللحظات الوطنية الفارقة، يقدم الفيلم مشهدا ذا إيقاع سريع ومثير، تتلقى فيه أم كلثوم اتصالا شبه عسكري من مكتب جمال عبد الناصر، يطلب منها إعداد أغنية وطنية في غضون 24 ساعة، لغنائها في عيد الثورة، فتتعرق أم كلثوم وتتوتر وفي النهاية تستجيب وتهرع إلى أحمد رامي ليصنعا معا أغنية "مصر التي في خاطري وفي فمي"، هذا المشهد، رغم إثارته البصرية، يقدم دراما ذات إثارة فورية، تختلف عن الدراما الإنسانية والسياسية الأعمق التي تحملها الرواية الحقيقية، فالثابت تاريخيا أن أم كلثوم واجهت قرارا بالإقصاء من الإذاعة بعد ثورة يوليو 1952، ولم تعد إلا بتدخل مباشر من عبد الناصر نفسه، هذه الرواية الحقيقية تظهر فنانا تفرض السلطة احترامها له، في مقابل الصورة التي قدمها الفيلم لفنان يستجيب للأوامر.
أما التاريخ فيقول إن أغنية "مصر التي في خاطري"، لم تكن وليدة ليلة واحدة، بل هي نتاج مخاض إبداعي طويل امتد لأسابيع بين الشاعر والمطربة والملحن الذي هو بالمناسبة الكبير رياض السنباطي الذي تجاهله الفيلم تجاهلا لا يوجد له أي مبرر، على الرغم من دوره المهم حتى داخل الإطار النفسي الذي اختاره صناع العمل، أما اختزال هذا المخاض الفني الخاص بالأغنية في "مهمة سريعة" يبدو تبسيطا للعملية الإبداعية المعقدة، ويهدف لخدمة الإيقاع اللاهث للفيلم، وقد يغفل عن القيمة الحقيقية للقلق الإبداعي الذي كان يميز عمالقة ذلك الزمن، وبخاصة "الست".
وحتى على المستوى الطبي، يتعامل الفيلم مع مرض الغدة الدرقية من خلال المرويات الشعبية المتداولة، دون تعمق علمي دقيق، ويقدم معلومات ساذجة وخاطئة تماما. ومع ذلك، تبقى العلامة المضيئة في هذا التناول هي محاولته "أنسنة" الأسطورة، وتذكيرنا بأن هذا الصوت الجبار كان يسكن جسدا بشريا يعاني الألم، مما يضيف بعدا إنسانيا مؤثرا ويقرب الشخصية من وجدان المشاهد.
إن أثر هذه الاختيارات السردية يتجاوز مجرد الدقة التاريخية، ليمس ما يمكن تسميته بما أكدت عليه وهو "الصدق الفني"، فالفيلم الروائي الذي يتناول حقبة أو شخصيات تاريخية محددة يجب من وجهة نظري أن يحترم "روح التاريخ" ويخلق عالما موازيا مقنعا ومنطقيا في حد ذاته، وعندما تختار المعالجة الدرامية أن تقدم وقائع بخيال يبدو أقل ثراءً من الواقع نفسه، فإنها تفوّت فرصة كان من الممكن استثمارها لتقديم قراءة درامية أكثر أصالة وعمقا وتأثيرا في نفس المشاهد.
بين صخب الموسيقى وهمس "الست"
وعند الانتقال إلى الشريط الصوتي، نجد أنفسنا أمام مفارقة فنية تستدعي التوقف. لقد وضع الموسيقار الكبير هشام نزيه موسيقى تصويرية ذات طابع ملحمي وكثافة عالية، مستلهما في بعض جملها موتيفات من رائعة بليغ حمدي "ألف ليلة وليلة". ورغم براعة التأليف الموسيقي في حد ذاته، فإن توظيفه داخل الفيلم خلق حالة من "المزاحمة" غير المبررة. فبدلا من أن تنسحب الموسيقى لتفسح المجال لصوت أم كلثوم الذي هو بطل الحكاية، وجدنا أنفسنا نسمع الموسيقى التصويرية أكثر مما نسمع "الست" نفسها.
ولا أظن أنه غاب عن صناع العمل أن مكتبة أم كلثوم، التي تضم مئات الأغاني، كانت تملك من الثراء والتنوع ما يكفي للتعبير عن أدق خلجات النفس البشرية التي أراد السيناريو إبرازها. وأعتقد أنه كان يمكن لأي مقطع من "الأطلال" أو "هجرتك" أو "رق الحبيب" أن يجسد القلق، والوحدة، والألم، والحب، بقوة وصدق يتجاوزان أي تأليف موسيقي حديث.
إن التعامل مع شريط الصوت بهذا المنطق "الصاخب" الذي يملأ كل الفراغات، قد حرمنا من فرصة الاندماج الوجداني والتشبع بصوت أم كلثوم، وحوّل التجربة السمعية إلى ما يشبه أفلام الإثارة النفسية، حيث الموسيقى تقود المشاعر بدلا من أن تتركها تنساب مع "السلطنة" التي هي جوهر الحالة الكلثومية.
بين المباشرة والسذاجة وقوة الأداء
وإذا كان الهيكل البصري والسمعي والتاريخي لفيلم "الست" يمثل طبقة أساسية في تكوينه، فإن "صوت الشخصيات" وأداء الممثلين يمثلان الروح التي تسري في هذا الهيكل. وفي هذا السياق، نجد أنفسنا أمام معضلة فنية مركبة؛ حيث يتأرجح الفيلم بين لحظات أداء عالية الحساسية، ولحظات أخرى يثقلها حوار مباشر يميل إلى التقريرية والشرح، مما يقلص مساحة التلميح والغموض التي تحتاجها دراما نفسية بهذا العمق.
تبرز العلامة الجيدة في هذا الإطار من خلال رغبة صناع العمل في تقديم "إجابات واضحة" لجيل جديد من المشاهدين قد لا يكون ملما بتفاصيل العلاقات المعقدة في حياة أم كلثوم، يتجلى ذلك بوضوح في مشهد المصارحة بينها وبين الشاعر أحمد رامي، حيث تفسر له أسباب رفضها الارتباط به، هذا الحوار، يفتقر للمنطقية والمعقولية ناهيك عن لغته الساذجة ومباشرته التي لا تليق بقصة حب أسطورية كتلك، وهذا التوجه نحو "المباشرة" يمتد لمشاهد أخرى، فتأتي الجمل الحوارية أحيانا كأنها عناوين شارحة للموقف، مما يفقدها ثقلها العاطفي ويحولها إلى مجرد "معلومات" بدلا من كونها "أحاسيس".
في قلب هذا البناء، تقف النجمة منى زكي أمام التحدي الأصعب والأكثر جسامة في مسيرتها الفنية: تجسيد شخصية بحجم وتفرد أم كلثوم. وهنا، لا يمكن لأي مشاهد إلا أن يرى ويقدر حجم المجهود الجبار الذي بذلته. فأولا يجب تحية شجاعتها الفنية بقبول الدور، واجتهادها الملموس في دراسة لغة الجسد وطريقة الإمساك بتفاصيل الشخصية، ومراحل التحول الجسدي عبر عقود مختلفة. إنه جهد بدني ونفسي شاق، نجحت من خلاله منى في الاقتراب من الشكل الخارجي للشخصية، وفي تجسيد "روح الصراع" التي أراد السيناريو إبرازها. لقد التقطت ببراعة لحظات القلق والصرامة والقوة، وقدمت أداء ينم عن موهبة كبيرة وقدرة على التحول.
ولكن، يبدو أن الأداء، رغم قوته، قد وقع أسير رؤية المؤلف التي حصرت الشخصية في ملامح محددة. فالتركيز المكثف على سمات "المرأة الحديدية" و"الحرص المادي" و"القسوة الإدارية" و"الأزمة النفسية"، جعل أداء منى زكي يدور في فلك هذه الصفات، وأغفل جوانب أخرى لا تقل أهمية في تكوين شخصية أم كلثوم الحقيقية، مثل خفة الظل و"جدعنة" ابنة البلد، وروح النكتة التي شهد بها كل من عاصرها. لقد قدمت لنا الفيلم "الست" في صورتها الصارمة، وغابت عنا "ثومة" سريعة البديهة التي كانت من أهم ظرفاء عصرها وكانت جلساتها الخاصة مليئة بالضحك والمرح، وهو بالطبع ليس انتقادا موجها للبطلة وإنما عيب واضح أراه في رؤية الفيلم وتوجهه.
تظهر إشكالية أخرى في "الأداء الصوتي"، وتحديدا في "اللهجة"، فقد تأرجحت لهجة منى زكي بين مستويين متباعدين: تارة نسمع لكنة ريفية تبدو فيها محاولة واضحة لـ"تفليح" مخارج الحروف بطريقة تبدو مبالغا فيها، وتارة أخرى تعود النبرة إلى العامية القاهرية الحديثة. وصعوبة الإمساك بالتون الصوتي طوال الوقت كان من أبرز السلبيات من وجهة نظري، فقد كانت لهجة أم كلثوم تكوينا داخليا وروحا تسكن صوتها، وليست مجرد أداة صوتية خارجية.
في النهاية، يظل أداء منى زكي واحدا من أهم أركان الفيلم وأكثرها إثارة للإعجاب، فقد حملت على عاتقها عبء تجسيد أسطورة، ونجحت في أن تجعلنا نرى "صراعات" أم كلثوم وقلقها وقوتها. وإذا كان الأداء قد بدا منقوصا في بعض جوانبه الإنسانية، فربما يعود ذلك إلى الإطار الذي وضعه السيناريو، والذي فضل التركيز على "المرأة-المؤسسة" على حساب "الإنسانة-الصديقة".
يتجلى هذا المنهج في المعالجة الدرامية للعلاقة المعقدة بين أم كلثوم ووالدها الشيخ إبراهيم. يحاول الفيلم تقديم قراءة تبريرية لقسوة الأب، مصورا إياها كقناع يخفي خلفه خوفا فطريا من رجل دين ريفي يخشى على ابنته من عالم يراه موبوءا، مشهد الصفعة على المسرح أمام "الباشا السكران"، والحوار اللاحق الذي يكشف فيه الأب عن ضعفه ورغبته في حمايتها، يصب في اتجاه "أنسنة" هذه القسوة وتفسيرها بدوافع الحب والخوف. غير أن هذا التفسير النفسي، على منطقيته الظاهرية، قد ساهم في إضفاء مسحة من الكآبة والثقل على النصف الأول من الفيلم، وجعل علاقة أم كلثوم بجذورها تبدو وكأنها سلسلة من الصدمات النفسية التي تحتاج إلى تجاوز، بدلا من كونها نبعا صافيا استمدت منه صلابتها وروحها المصرية الأصيلة.
ويمتد هذا التناول النفسي ليشمل "لحظات التحول" الكبرى في مسيرتها، وتحديدا قرارها بخلع زي الرجال وارتداء الفستان، ثم إدارتها الصارمة لشؤونها المالية. يطرح الفيلم هذه المحطات بوصفها انتصارات "للأنا" وتأكيدا للذات في مواجهة العالم، مبررا صرامتها المادية في التفاوض على العقود والنسب بأنها ضرورة لانتزاع المكانة في مجتمع ذكوري.
ورغم أن هذه القراءة تنجح في تقديم صورة "المرأة القوية"، فإنها تقع في فخ الاختزال؛ إذ تتحول القوة هنا إلى مرادف للحدة والجفاف، وتتحول الإدارة الحازمة إلى ما يشبه البخل والحرص المرضي. لقد غاب عن هذه المعالجة أن ذكاء أم كلثوم الاجتماعي والمادي كان مغلفا بطبقة سميكة من "اللطف" و"خفة الظل" و"الدهاء المحبب" الذي يجعل من يتعامل معها يرضخ لشروطها عن طيب خاطر، لا عن قهر. وتقديمها بهذا الوجه الصارم طوال الوقت جرد الشخصية من سحرها الإنساني، وحولها إلى آلة إدارية ناجحة لكنها تفتقر للروح.
حتى عندما يصل الفيلم إلى ذروة "التسامي" في معالجة صراعاتها، عبر ربط خلاصها النفسي بخلاص الوطن في دعم المجهود الحربي، يظهر هذا الحل الدرامي وكأنه محاولة متأخرة لرأب الصدع في بناء الشخصية. فالقول بأن أم كلثوم لم تجد السكينة إلا حين تحول فنها إلى "رسالة وطنية"، وإن كان يحمل تقديرا نبيلا لدورها، فإنه يضمر في طياته حكما قاسيا على مسيرتها الفنية الخالصة، وكأن الغناء للحب والجمال وإمتاع الناس لم يكن كافيا لتحقيق توازنها النفسي.
إذن، تكمن إشكالية هذا الطرح في أنه تعامل مع حياة أم كلثوم كـ"عقدة" تحتاج إلى حل، وكـ"صراع" يستوجب الحسم، متغافلا عن أن العبقرية قد تكون حالة من التصالح الفريد بين المتناقضات.
لقد أدى الإيغال في هذا التحليل النفسي إلى تقديم فيلم عن "القلق" لا عن "الإبداع"، وعن "المعاناة" لا عن "السلطنة". وبدلا من أن نخرج من الفيلم ونحن نشعر بأننا اقتربنا من روح "الست"، خرجنا ونحن نشعر بأننا قرأنا ملفا طبيا ونفسيا متقنا عن مريضة تعاني من الوحدة، لكننا لم نعثر فيه على تلك السيدة التي كانت ضحكتها تهز أركان المسرح قبل صوتها.
انتصار للصورة وهزيمة للروح
في المحطة الأخيرة من هذه الرحلة النقدية، وبعد أن فككنا طبقات العمل البصرية والدرامية والتاريخية، نجد أنفسنا أمام السؤال الأكثر إلحاحا: هل نجح فيلم "الست" في تقديم قراءة فنية تليق بحجم الأسطورة؟ للإجابة عن هذا السؤال بإنصاف، لا بد من النظر إلى "الحجج الدفاعية" التي يرتكز عليها منطق الفيلم الداخلي، وهي حجج تستحق التقدير كمحاولة للاجتهاد، لكنها تظل قاصرة عن تبرير النتيجة النهائية.
يحاول الفيلم، في دفاعه الضمني عن خياراته، أن يقدم نفسه كدراسة نفسية عن "الصراع" لا عن "السيرة". ومن هذا المنطلق، يسعى لتفسير قسوة الأب كحماية، وحرص أم كلثوم المادي كبحث عن الاستقلال، وانعزالها كوحدة وجودية. هذه الرؤية النظرية تبدو متماسكة على الورق، لكنها عند التطبيق العملي على الشاشة اصطدمت بحاجز "التغريب". لقد انشغل صناع العمل بتصميم "الصراع" هندسيا لدرجة أنهم نسوا "الإنسان" الذي يعيش هذا الصراع. فتحولت أم كلثوم من شخصية لحم ودم، تضحك وتمزح وتتفاعل بعفوية، إلى "نموذج درامي" مصمت كئيب، وظيفتة الوحيدة هي القلق والتوتر والحسم.
لقد غاب عن الفيلم ذلك الخيط الرفيع الذي يربط بين "الهيبة" و"الألفة"، فقدم لنا أيقونة باردة نحترم كفاحها، لكننا نعجز عن حبها أو الشعور بدفئها الإنساني.
حتى في ذروة الفيلم الوطنية، حين تقرر "الست" دعم المجهود الحربي، يأتي هذا "الحسم" الدرامي وكأنه تعويض متأخر عن غياب الروح طوال الأحداث. نعم، هو مشهد مؤثر يعلي من قيمة الوطن، ويحاول أن يغسل خطايا الصراعات السابقة، لكنه لا يمحو الشعور بأننا قضينا ساعتين ونصف الساعة مع امرأة "نكدية" تدير مؤسسة، لا مع فنانة ملأت الدنيا طربا وبهجة.
إن التركيز المفرط على الجانب المظلم والصراعي في حياتها، وإن كان يخدم "الحبكة" التي أرادها المؤلف، فإنه قد ظلم "الحقيقة" الإنسانية الأشمل، وقدم صورة مبتورة لا تعكس إلا زاوية ضيقة من عالم أم كلثوم الرحب.
إذن، نحن أمام عمل سينمائي يحمل تناقضا صارخا. فهو من الناحية "التقنية والإنتاجية" يمثل قفزة هائلة في صناعة السينما المصرية، ويقدم وثيقة بصرية مدهشة ستظل مرجعا في فنون الديكور والأزياء والصورة. لكنه من الناحية "الروحية والدرامية" يمثل فرصة ضائعة للاقتراب الحقيقي من وجدان الشخصية. لقد ربح الفيلم معركة "الشكل" بامتياز، لكنه خسر معركة "المعنى".
في النهاية، قد ينجح "الست" في أن يكون فيلما جماهيريا ناجحا، وقد يحصد الجوائز بفضل لغته البصرية العالمية، لكنه سيظل يفتقد لـ"الختم الكلثومي" الأصيل. سيخرج المشاهد من القاعة مبهورا بالألوان والإيقاع، لكنه سيعود إلى بيته ليبحث عن تسجيل قديم لحفلة "أنت عمري" أو "الأطلال"، ليسمع صوت أم كلثوم الحقيقي، ويستعيد الروح التي عجزت أحدث تقنيات السينما عن الإمساك بها. فالأسطورة، كما يبدو، لا تزال عصية على الترويض، وأكبر من أي إطار يحاول حصرها في "صراع" أو "عقدة". إنها ببساطة.. الست، وكفى.