كيف تحول حادث قتل إلى جزء من نظرية مؤامرة؟ ونقصد هنا ما سارعت صحف مختلفة بنشره عقب وقوع جريمة قتل فى أحد شوارع الإسكندرية، حيث أطلق شخص 7 طلقات على آخر فأرداه قتيلا، بسرعة ظهرت بوستات مجهولة، تقول عن القتيل «مهندس نووى»، وإن الجريمة وراءها غموض وألغاز وتفاصيل، ولم تنتظر المواقع التى تتنافس على الانفرادات وأشاعت الاسم، وأعلنت أنه مهندس أو أستاذ هندسة نووية، وأن اغتياله تم لأسباب غالبا «مؤامراتية»، واستعاد بعض المحللين عمليتىّ ِاغتيال الدكتور المشد، والعالم سعيد بدير، مؤكدين أن وراء جريمة الإسكندرية أجهزة استخبارات، ثم ساعات قليلة وأعلنت وزارة الداخلية ضبط الجانى، وأن القتيل مهندس لكنه يعمل مندوب مبيعات فى شركة سيارات، وأن القاتل زميله وصديقه ومريض عقلى سبق علاجه فى مصحات نفسية، وبالرغم من وضوح التفاصيل، وأن القتيل لا علاقة له بالطاقة النووية ولا الهندسة الذرية، فقد استمرت العناوين تؤكد أنها جريمة «المهندس النووى»، ونحن هنا أمام نموذج يوضح كيف يمكن لمواقع التواصل أن تقود وراءها المواقع الصحفية المختلفة وتدفعها إلى تبنى «الهبد» والمعلومات الخاطئة.
ولا يعنى كون القتيل ليس خبيرا نوويا أن نتجاهل الجريمة، وخطورتها، لكننا نضرب هذا المثل لتأكيد أن الكثير من الصحف والمواقع أصبح يسير خلف السوشيال ميديا، ويتنافس فى نشر انفرادات حول زواج النجمات، وطلاق النجوم، وسباق نشر صور عن علاقات سابقة لزوج النجمة، من نجمة أخرى، وتفسيرات بوستات وستورى إنستجرام، وما هو المقصود بهذا الكلام، وهل هو موجه إلى فلانة؟ أم أنه فقط يتجه إلى فلان، وهل زواج أشهر سناجل يمثل عنوانا رهيبا تنفرد به المواقع، وتتسابق على مدى الاستهلاك لمواد ومعلومات وبوستات لا تعنى غير كون السياق العام كله أصبح غارقا فى مستنقعات النميمة والتفاصيل المثيرة، والصور الانفرادية، بعيدا عن أى فائدة تعود على المواطن؟
وقد يرى المواطن أنه لا مانع من التعامل مع أخبار النجوم والطلاق والزواج، والشتائم المتبادلة بين أطراف النزاع، وأن أخبار النجوم الخاصة تعتبر أمرا عاما وشائعا، وهى افتراضات مهمة، لكن الطبيعى أن تكون هذه التفاصيل بشكل لا يطغى على أخبار الكون كله، ومعروف أن اخبار السياسة أو الانتخابات لا تحظى بنفس الاهتمام الذى تحظى به الأخبار الفنية، لكن أيضا ودائما كانت أخبار المهرجانات الفنية تتركز على الفن والسينما والمنتجات، وما يجرى طوال سنوات ليس أخبارا ولا فنا ولا سينما، فقط «إطلالات» وفساتين وأنباء وانفرادات قسائم الزواج والطلاق والخلافات حول المواريث وغيرها٫ وهى بالمناسبة أخبار لا يمكن إدانتها مهنيا، ويراها بعض خبراء الفنون أنها انفردات ضرورية وصحفية، وهنا نرجع إلى ما تسمى «لجان تطوير الإعلام» والتى تتوالد فى كل الجوانب، والنقابات والمنتديات، والمجالس العليا والمتوسطة والهاجعة والناجعة والطالعة والنازلة، والتى أصابتها متلازمة لجان التطوير، بعد أن وجه الرئيس السيسى بتطوير الإعلام وإتاحة الرأى والرأى الآخر، بينما بعض هذه الكيانات جزء من المشكلة.
ونعود للقول، إنه فى ظل هذه المعطيات، والواقع الذى أصبح يحكم النشر، والتريند الذى انتقلت عدواه من السوشيال ميديا إلى «صحف ومواقع وقنوات وصفحات»، علينا أن نعترف أن التطوير لن يتم بلجنة ولا عشرات أو مئات اللجان والمنتديات، الهادفة للربح والهادفة لـ«الشو»، فهى مجرد «حوارات طرشان»، وقبلها لدينا توصيات حوار وطنى استمر عامين وتمت إحالتها إلى لجان أصلية واحتياطية ومنبثقة، من دون مصير واضح، بينما توجيهات الرئيس واضحة فى الحوار الوطنى المنسى، أو لدى لجان ومنتديات التحضير.
ونعود للقول إن اللجان لم يسبق لها أن أصلحت أو طورت، وأن الأمر ليس بحاجة إلى لجان، ولكن إلى مجال عام يتسع للجميع، ومساحات للتنوع والاختلاف تمكن أن تفتح مجالا للتوعية، ولدينا مواثيق شرف للنشر والعمل الصحفى، ونتائج ووقائع لعشرات من الندوات، والجلسات، لتحضير «التطوير» لم تضف شيئا غير المزيد من الضجيج بلا طحن، بينما كل من هو داخل أو خارج هذه اللجان، يعرف أن الصحافة والإعلام لهما أسس وقواعد ولا يمكنهما أن ينموَا فى «أحذية ضيقة»، بل ينموان ويكبُران ويثمران فى مجال طبيعى متسع يسمح بالتنوع والحوار، وليس بالمزيد من لجان «تحضير التطوير».

مقال أكرم القصاص