في الوقت الذي اعتمدت فيه القوى الإقليمية، نهجا يقوم على بناء الشراكات سواء داخل المنطقة أو خارجها، فإنها اتسمت بقدر من المرونة، بحيث تتحول إلى منهج بديل للتحالفات، بالمفهوم التقليدي، والذي عرفت بصياغات نمطية عند التعبير عنها، خاصة وأن النهج الجديد يحمل من المرونة ما يؤهله إلى احتواء الخلافات، إن وجدت، بين أطرافه، وهو ما ساهم في تحقيق حزمة من المصالحات الإقليمية، ولحسن الطالع، أن تلك المصالحات استبقت زمنيا الأوضاع الأخيرة في غزة، مما أثمر في نهاية المطاف عن العديد من النتائج، أبرزها وحدة الموقف تجاه ثوابت القضية الفلسطينية، وهو ما قتل بحثا في مقالات عدة، إلا أن الجانب الآخر تجلى في بناء تكاملات، من شأنها تعزيز الدور الذي تلعبه كافة القوى الفاعلة، دون البحث عن مقعد "القائد"، والذي يرتبط بالأساس بعقيدة التحالف، التي تقوم على وجود قيادة يدور الجميع في فلكها.
ولعل الشراكة المصرية السعودية هي أحد أبرز النماذج التي يمكن الالتفات إليها في هذا الإطار، حيث يعززها تاريخ حافل بالمشتركات، ومواقف داعمة لا يمكن إنكارها، من جانب، وحاضر يجسد تعاظم المصالح المشتركة، في ضوء الحاجة الملحة إلى التعاون الثنائي، بالإضافة إلى ضرورة وجود إقليم مستقر، يمكن من خلاله تحقيق الأهداف التنموية من جانب آخر.
والحديث عن إقليم مستقر، يبدو ضرورة غير قابلة للنقاش، خاصة بين دول ما أسميته في مقال سابق بـ"معسكر التنمية"، فالحالة التنموية في صورتها المستدامة، ترتبط بالأساس بالعديد من الجوانب، تتراوح بين السياسة والاقتصاد والبيئة والمناخ، في حين يبقى الاستقرار الجمعي في المحيط الجغرافي أحد أبرز الأبعاد الرئيسية لتحقيق الهدف المنشود، وهو ما يعكس أهمية التعاون الوثيق بين القاهرة والرياض، باعتبارها حجري الزاوية في إقليم يعاني من التوتر، منذ عقود، بين الصراع العربي الإسرائيلي من جانب، وتوترات أهلية أطاحت بما تبقى من ثبات في المنطقة، وصلت إلى ذروتها خلال العقد الماضي، إبان ما يسمى بـ"الربيع العربي".
وذروة التكامل بين مصر والمملكة العربية السعودية، في إدارة أزمة غزة، تجلت في أبهى صورها في دبلوماسية القمم ، فعندما اندلع العدوان في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر، دعت القاهرة إلى قمة عالمية، بعد أقل من أسبوعين، والهدف تحقيق توافقات بين معسكرين، هما في واقع الأمر على طرفي النقيض، فأحدهما داعم للحق الفلسطيني، والآخر منحاز إلى الاحتلال، بينما تبعتها المملكة بعد أقل من شهر، عبر الدعوة إلى قمة عربية إسلامية، أقيمت في العاصمة الرياض، وكان الهدف هو حشد إجماع داخل نطاق جغرافي يتجاوز الإقليم المحدود، في إطار العالمين العربي والإسلامي، مما يضفي قدرا كبيرا من الزخم للمعسكر الداعم لفلسطين في مواجهة القوى الأخرى، وبالتالي يساهم في تعزيز الشرعية الدولية، وهو ما تكرر في قمة جدة في عام 2024.
النطاق العربي الإسلامي، الذي ارتكزت عليه الرؤية السعودية في إدارة قممها، ساهم بصورة كبيرة في تقديم رسالة للعالم مفادها انتهاء حقبة المحاور التي سادت الإقليم لعقود طويلة من الزمن، بين ما يسمى بـ"الممانعة" و"الاعتدال"، وأن جميع أطراف المعادلة الإقليمية باتوا صفا واحدا، في إطار المشتركات التي تجمع بينهم، حتى وإن كانت هناك بعض الخلافات، والتي يمكن أن تتوارى خلف المصالح المشتركة، وعلى رأسها تحقيق الاستقرار الإقليمي والانغماس في عملية تنموية من شأنها تحقيق رفاهية الشعوب.
القمم التي استضافتها المملكة، أعقبتها قمة عربية استثنائية في القاهرة في مارس 2025، لتمرير خطة مصر لإعادة إعمار غزة، والتي شملت البعد التنموي، ليكون أحد أدوات الصمود، وهو ما يتماهى مع الرؤية المشتركة التي تعتمد منهج التنمية كما أسلفت، وهو ما يعكس أبعادا جغرافية لا يمكن تجاهلها في إدارة القمم بين البلدين، في مسار عالمي يهدف إلى التوافق، ثم الانتقال إلى الإجماع العربي الإسلامي، وبعد ذلك العودة إلى الحاضنة العربية من القاهرة، تحت مظلة الجامعة العربية، لتصبغ خطة إعادة الإعمار بصبغة الهوية التي ترتبط بالأساس بالقضية الفلسطينية.
ثنائية "مصر والسعودية" لا تقتصر بأي حال من الأحوال على إدارة أزمة غزة، فهي تتجاوزها، إلا أن العدوان على القطاع أبرز بصورة كبيرة الكيفية التي يدار بها التكامل بين قوتين إقليميتين، يعملان معا، من أجل مصلحة الإقليم بأسره، إلا أنها لا تمثل أكثر من بعدا واحدا من أبعاد التكامل، الذي يتراوح بين الاقتصاد والسياسة، وحتى الثقافة والهوية، وهو ما يتجلى في العديد من المشروعات والاستثمارات والمبادرات التي تجمع بين البلدين في مختلف المجالات.
وهنا يمكننا القول بأن العلاقة بين مصر والسعودية لا يمكن النظر إليها بعيدا عن الإطار التكاملي المشار إليه، وهو ما يصب في مصلحة الإقليم بأسره، وبالتالي فإنهما سيبقيان معا رمانة الميزان وضمانة الاستقرار في المنطقة، التي أشعلها لهيب الصراعات على مدار عقود طويلة من الزمن