فى صباح السادس من أكتوبر عام 1973، دوّت صيحات الجنود المصريين على ضفاف القناة معلنة بدء معركة العبور المجيدة، التى استعادت للأمة كرامتها المهدرة بعد نكسة 1967، ولم تكن الحرب معركة عسكرية فحسب، بل كانت ملحمة وطنية شارك فيها الشعب المصرى بكافة طوائفه وفئاته، جنودًا ومدنيين، رجالاً ونساءً، مسلمين ومسيحيين، فى لوحة فريدة جسدت وحدة الوطن وصلابة جبهته الداخلية.
ووسط هذه الأجواء، لعبت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بقيادة البابا شنودة الثالث، الذى جلس على الكرسى المرقسى عام 1971، دورًا وطنيًا رائدًا في دعم المقاتلين ورفع الروح المعنوية للشعب، مؤكدة أن الدفاع عن الوطن واجب مقدس، وأن الدم المصري واحد في مواجهة أي عدوان.
البابا شنودة الثالث: قائد روحى يزرع الأمل
منذ اللحظة الأولى لتوليه البطريركية، أدرك البابا شنودة أن الكنيسة ليست فقط بيتًا للصلاة، بل أيضًا كيان وطني يحمل على عاتقه رسالة في خدمة الوطن والدفاع عنه. خلال حرب أكتوبر، حرص البابا على توجيه رسائل روحية للجنود على الجبهة، كانت تبعث فيهم الحماس والإيمان بالنصر.

قداسة البابا شنودة الثالث
وقد قال قداسته آنذاك إن "حماية الوطن هي وصية إلهية"، داعيًا الجنود لأن يكونوا مستعدين لبذل حياتهم في سبيل أرضهم، كما بُذلت حياة الشهداء دفاعًا عن إيمانهم. هذه الكلمات لم تكن مجرد عظة كنسية، بل تحولت إلى شعلة إيمان في قلوب المقاتلين.

البابا شنودة مع الجنود على الجبهة
رسائل البابا إلى الجنود وأسر الشهداء
وحرص البابا شنودة على إرسال رسائل مكتوبة وصوتية إلى الجنود المرابطين على الضفة الغربية للقناة، يحثهم فيها على الصمود والتضحية. وكانت الكنيسة في القاهرة تستقبل أسر الشهداء وتشاركهم أحزانهم، مؤكدة أن دماء أبنائهم الزكية هي بذور النصر الذي يترقبه المصريون جميعًا.
وشارك البابا بنفسه في صلوات خاصة من أجل سلامة الجنود، وكان يخصص عظاته الأسبوعية لتذكير الشعب بمسؤوليتهم تجاه جيشهم، داعيًا إلى الصبر والوحدة في مواجهة التحديات.

البابا شنودة فى أحد القواعد العسكرية قبل الحرب
رسائل البابا شنودة الثالث
وتؤكد العديد من المصادر التاريخية أن قداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الراحل كان من أبرز المؤثرين في انتصار أكتوبر المجيد، وأرسل عدد من الخطابات للجنود على الجبهة كما أدحض عبر عظاته المختلفة مقولة أن إسرائيل شعب الله المختار.
وجاء الخطاب الأول كالآتى: "إننا ندافع عن أراضينا، ودفاعا عن الحق، لا شك أن قلوبنا جميعا وأفكارنا وكل مشاعرنا مركّزة فى الحرب التى تخوضها بلادنا دفاعا عن أراضينا، واستردادنا لحقوقنا المسلوبة، ولعلّ أول ما نقوله فى موضوع الحرب، هو أن بلادنا حاليا قد عاشت محبة للسلام طول تاريخها، ولم تدخل الحرب إلا مضطرة ، فقد بذلنا كل جهودنا من أجل حل مشكلتنا حلا سلميا، وصبرنا أكثر من 6 سنوات، نفاوض ونناقش ونعرض الحلول بلا جدوى.
وخلال هذه السنوات كلها كانت إسرائيل معتزة بذاتها، شاعرة أنها فى مركز القوة، رافضة كل حل سلمى، بل كانت لها آمال فى التوسع تزداد يوما بعد يوم، ولعلها كانت تظن أن محبتنا للسلام لون من الضعف أو الخوف، لذلك اضطرت بلادنا أخيرا أن تدافع عن حقها بالقوة، وأن تعمل على استرجاع أراضيها وصيانة كرامتها، وقد قال الكتاب المقدس (إن الملك لا يحمل السيف عبثا) فإننا لا نخوض حربا عدوانية ولا نعتدى على أملاك أحد، بل إننا نحارب داخل أراضينا، دفاعا عنها، لهذا فإن بلادنا تحارب بضمير مستريح، وبقلب نقى، بل إنها كسبت إلى جوارها ضمير العالم، غير المتحيز، المحب للعدل.
إن جنودنا تحارب فى الميدان والله فى السماء يرى ويسمع ويعمل أيضا ،وقد قال الكتاب المقدس إن الحرب للرب والله قادر أن يغلب بالكثير والقليل، ومصر صاحبة التاريخ المجيد الطويل العريق، البلد الذى قال عنه (مبارك شعبى مصر)، كم من غزاة حاربوك وبقيتِ كما أنت مرفوعة الرأس، لم يقو الباطل الذى فيهم على الحق الذى فيك، إننا متفائلون، ونشكر الله أن الضيقات باستمرار تزيدنا قوة، وتجعل صفوفنا أكثر وحدة، وأصلب عودا وأشد إصرارا وعنادًا على الجهاد من أجل الحق.
وفى هذه الأيام، ترى الكنيسة والجامع يعملان بكل قوتهما، من أجل الوطن المفدّى، والشيخ والقس كلاهما يعمل على توعية الشعب وحثّه على التفانى فى خدمة الوطن، إن الحرب جعلت الكل جنودا، ولقد هز قلبى التأييد الروحى والمادى أيضا الذى يقوم به أبناؤنا فى كنائس أمريكا وكندا وأوروبا وأستراليا، وما يجمعونه من تبرعات من أجل مصر".

مشاركة البابا شنودة فى الدعم المعنوى
دور الكنيسة الكاثوليكية
ويقول الأب إسطفانوس دانيال جرجس عبد المسيح راعى كنيسة مار مرقس الرسول للأقباط الكاثوليك بالجلاوية ساقلتة سوهاج فى تصريحات خاصة لليوم السابع، إن رؤساء الكنائس الكاثوليكية بالقاهرة اجتمعوا برئاسة الأنبا إسطفانوس الأول اللعازرى، بطريرك كنيسة الإسكندرية وسائر الكرازة المرقسية، للأقباط الكاثوليك وكاردينال الكنيسة الجامعة وقتها في اجتماعًا طارئًا وقرّروا فيه مساهمتهم المجانيّة الماليّة والأدبيّة للمجهود الوطنى، وأوصى المجتمعون الراهبات بتقديم خدماتهم إلى المستشفيات والهيئات الاجتماعيّة.

زيارة الجرحى فى مستشفى ألماظة
وقد أصدر أمره إلى الكنائس لرفع الصلوات من أجل تحقيق سلام وعادل فى الشرق الأوسط ونصر للقوات المسلحة، ودعا البطريرك المواطنين المؤمنين للإسهام بسخاء من أجل المجهود الحربى، للمقاتلين الجرحى فى مستشفيات القاهرة برفقة مجموعة من المطارنة والقمامصة والكهنة والرهبان، وزار مستشفى ألماظة وبصحبته تلاميذ المدارس الكاثوليكية يومها.

بطريرك الأقباط الكاثوليك يزور الجرحى
الراهبات ودورهن في علاج الجرحى
لم يكن دور الكنيسة الروحي فحسب، بل امتد إلى الجانب الإنساني والعملي من خلال مساهمة الراهبات في المستشفيات الميدانية والعسكرية. كثيرات من راهبات الأديرة القبطية عملن في المستشفيات بالقاهرة والإسماعيلية والسويس، يقدمن الرعاية الطبية والتمريضية للمصابين من الجنود.
وقد شهد كثير من الأطباء العسكريين أن الراهبات كنّ مثالاً للتفاني والإخلاص، يعملن لساعات طويلة بلا كلل، ويمسحن بيدهن الدموع والآلام عن وجوه الجنود، في مشهد عكس روح المحبة التي علمتها الكنيسة لأبنائها.

جانب من زيارة بطريرك الأقباط الكاثوليك للجرحى
الضباط الأقباط.. صفحة مشرقة في ملحمة النصر
شارك آلاف الجنود والضباط الأقباط في معركة أكتوبر، وسطروا أسماءهم بأحرف من نور في سجل البطولة المصرية. لم يكن تمييز بين جندي مسلم أو مسيحي، فالجميع قاتلوا كتفًا إلى كتف تحت راية واحدة هي راية مصر.
وقد برز من بينهم أسماء لامعة ضحت بالغالي والنفيس من أجل الوطن. ورغم أن كثيرًا من تضحياتهم لم تحظ بالضوء الكافي في الإعلام، إلا أن الذاكرة الوطنية تحفظ لهم مكانة خاصة.
المهندس زكي باقى.. عقلية مبتكرة وراء عبور القناة
يُعد المهندس القبطى زكى باقى واحدًا من أبرز أبطال حرب أكتوبر، إذ كان من المهندسين العسكريين الذين أسهموا فى ابتكار الحل العبقري لاختراق خط بارليف المنيع. فهو صاحب فكرة استخدام طلمبات المياه ذات القدرة العالية لشق الساتر الترابى الضخم الذي بناه العدو الإسرائيلي على طول الضفة الشرقية للقناة.
وبفضل هذه الفكرة غير التقليدية، تمكنت قواتنا من فتح ممرات في الساتر الترابي خلال ساعات قليلة، وهو ما مهّد لعبور الدبابات والمركبات الثقيلة إلى الضفة الشرقية، فانهارت أسطورة "المانع الذي لا يُقهر". هذه المساهمة التقنية الخلاقة للمهندس زكي باقى أصبحت أحد أسرار نجاح خطة العبور، وسجلت اسمه في تاريخ العسكرية المصرية والقبطية على حد سواء.
البطل الشهيد فؤاد نصر هندى
كان من بين شهداء حرب يونيه عام 1967 وقد حارب العدو بكل قوة وجسارة أزعجت كل قوات العدو، فقد أصيب أثناء القتال ولكنه لم يستسلم بل ظل يقاتل ويصدر الأوامر إلى جنوده بالصمود والتصدى حتى صرعته رصاصة العدو الغادر فسقط شهيداً في المعركة، ولقد ذكر عنه أثناء تبادل جثث القتلى حمله القائد الإسرائيلي على ذراعيه وأعاده إلى أهله وهو يقول عنه "يسرنى ويشرفنى أن أحمل جثمان هذا البطل الهمام على منكبى، كما أتمنى أن يكون من بين ضباطى رجلا مثله".
البطل المقاتل "جورج"
شارك في رفع العلم المصرى فوق خط بارليف بعد تحطيمه مع زملائه من الجنود الأبطال.
البطل الشهيد "بشاى نجيب الشرقاوى"
مقاتل سلاح الإشارة الذى استشهد في 15 أكتوبر 1973
البطل الشهيد الطيار "ألبير مترى"
استشهد في الضربة الجوية الأولى تحت قيادة الرئيس الراحل مبارك حينما كان قائداً للقوات الجوية في حرب أكتوبر.
اللواء شفيق مترى سيدراك
يذكر تاريخ العسكرية المصرية بكل فخر واعتزاز البطل الشهيد الذى كان قائد الفرقة 16 مدرعات وأظهر بطولة نادرة خلال حرب يونيه 1967، وأيضا خلال حرب الاستنزاف، وخلال حرب أكتوبر 1973 م ظل يقاتل بشراسة دفاعاً عن الوطن حتى أصابت مدرعته دبابة معادية فتحول هو ومن معه إلى تراب في لحظة.
وأثبتت حرب أكتوبر أن الكنيسة القبطية كانت، وما زالت، مؤسسة وطنية راسخة في قلب الوطن المصري، تؤدي دورها الروحي والإنساني جنبًا إلى جنب مع دورها الوطني. البابا شنودة الثالث لم يكن مجرد بطريرك، بل كان قائدًا روحيًا حمل هم الوطن على كتفيه، وجسد مفهوم الكنيسة الأم التي تحنو على أبنائها جميعًا.
أما الراهبات فكتبن صفحة مضيئة من صفحات الخدمة والعطاء، بينما الضباط والجنود الأقباط أثبتوا بالدم أن الدفاع عن الوطن لا يعرف طائفة أو ديانة.
وتظل ملحمة أكتوبر 1973 شهادة ناطقة على وحدة المصريين في أصعب لحظات التاريخ. كانت الكنيسة القبطية، في عهد البابا شنودة الثالث، شريكًا أصيلاً في صناعة هذا النصر العظيم، بصلواتها، برسائلها، براهباتها المضحيات، وبأبنائها الجنود والضباط الذين خاضوا معارك البطولة.
اليوم، ونحن نستعيد ذكرى العبور، تظل هذه الصفحات مضيئة تذكّر الأجيال الجديدة بأن الوطن لا يُبنى إلا بوحدة أبنائه، وأن دماء الشهداء هي الجسر الذي عبرت عليه مصر نحو النصر والكرامة.