حازم حسين

عن إعادة إعمار البشر قبل الحجر.. فى مأساة غزة يختلف الرصاص والمفعول واحد

الإثنين، 20 أكتوبر 2025 02:00 م


لا تتأكد القيم إلا عندما تُختبَر. الكلام بطبعه قليل التكلفة، ويُبدده الهواء بأسرع مما ينطقه اللسان. أما المحك فأن يُطابق الخطاب مقتضى الحال، ويُدَلّل عليه بالأفعال.

وما يدور فى فضاء غزة اليوم، غير ما يتطاير من أفواه القابضين على خناقها. من جهة الاحتلال الذى يواصل خروقاته لاتفاق وقف إطلاق النار، أو حماس التى لا تنسجم ريحها مع الشارع والمواكبة الإقليمية والدولية.

توقفت الحرب وما توقف عداد القتلى. قبل يومين شُطب 11 فردا من عائلة واحدة، بزعم أنهم اخترقوا الخط الأصفر أو اقتربوا منه لدرجة الخطر.

وبالتوازى لم تسكت بنادق الحركة؛ إنما يتخذ رصاصها اليوم صفة النار الصديقة، ويسكن صدور منكوبى القطاع؛ كأن ما فعله الصهاينة بهم طوال عامين ليس كافيا، ولا أن بِرَك الدم العميقة ينقصها المزيد، لتكون صالحة للسباحة إلى أقصى حدود المأساة.

عشرة أيام كاملة منذ التوصل إلى اتفاق شرم الشيخ، لم تمر لحظة منها دون خبر عن اشتباك أو قتيل. عائلات بكاملها وُضِعت تحت الاشتباه وفى مرمى الاستهداف، والحجة الدائمة أنهم عملاء متعاونون مع العدو، أو قُطّاع طرق وأغنياء حرب يستغلون معاناة المجوّعين ويُتاجرون بها.

الادعاء من القسام، والقضاة ومنفذو الأحكام أيضا، ولا عزاء للقانون أو استشعار طبيعة اللحظة الخانقة، ومقدار الحاجة إلى احتواء الغاضبين والنافرين، وتقديم أولويات الوحدة وترصيص الصفوف، على طموحات الاستعراض والاستئساد وتثبيت السطوة بالقوة الغاشمة.

اضطُرّت الحركة مؤخرا فحسب إلى انتهاج سياسة مغايرة. وذلك عندما يدها الطويلة إلى رقبة واحد من الأسرى المحررين، ولم يعد ممكنا التخفى وراء عناوين التخوين والاستغلال.

ولهذا؛ أعلنت وزارة داخليّتها فتحَ تحقيق بشأن مقتل المواطن هشام الصفطاوى، فيما يشبه الاعتراف الضمنى بالعجز عن تبرير الجريمة، ومن دون التفاؤل باحتمالية أن يُفضى البحث؛ لو جرى من الأساس، إلى تحديد المرتكبين والأسباب، ناهيك عن المساءلة والقصاص.

وفى أجواء تلك الدراما السوداء، لا يُقصّر الواقع الردىء فى مزاوجة التراجيديا بالملهاة. كأن يأسى وزراء الاحتلال على ما يتعرض له المدنيين من حكومتهم المتحللة شكلا ومضمونا، أو تصدر الخارجية الأمريكية بيانا يتحدث عن اختراق الفصائل الوشيك للاتفاق، قاصدة بالتحديد تلك الممارسات العدوانية المنفلتة بحق الغزيين. فكأن الذئاب تستعير فراء الحملان، بعدما اختار الحمل القائد أن ينوب فى المهمة عن الذئب.

والمفارقة هنا ليست جديدة؛ على كل ما فيها من كوميديا وسخف. ذلك أن الصهاينة لا صنعة لهم إلا تقتيل الفلسطينيين بالجملة والقطّاعى، بل لا حلم لهم إلا إبادتهم ماديا أو معنويا، بالإفناء أو التهجير، وبالتبعية فإنهم يطربون بأن يتكفل غيرهم بالمهمة، ويسعدهم أن يسيل الدم على أيدى العائلة الواحدة.

لكن الطموح لا يمنع من انتهاز الفرص؛ طالما تعدهم الدعاية بأضعاف ما تمنحهم الجناية. وقد سبق أن حاكموا يحيى السنوار عن وقائع إعدام لغزيين متهمين بالتخابر، إبان قيادته لوحدة «مجد» الأمنية، وكان معه فى المحاكمة والسجن توفيق أبو نعيم، المرشح حاليا ليكون بديلا عنه فى إدارة أطلال التنظيم بين ركام القطاع.

تأسست «مجد» لغرض وحيد، أن تتبع الخصوم والمناوئين للحركة بدعوى التعاون مع الاحتلال، وتُنزل بهم العقاب دون تحقيق أو دفاع.
وفكرة أواخر الثمانينيات والتسعينيات تضخمت اليوم عما كانت عليه، وتوزّعت على أكثر من بديل: وحدة السهم، وحدة رادع، فضلا عن قوى الأمن التابعة لوزارة الداخلية، وأخيرا كتائب القسام التى ترتج الأرض تحت أقدامها، وإن كانت انكسرت أمام العدو المدجج بالسلاح، فإنها ما تزال جيشا يثير الرعب فى نفوس المدنيين الضعفاء.

إذن؛ ليست التجربة طارئة، ولا من حصاد الحرب القيّامية التى خلخلت بيئة القطاع، وشككت الحماسيين فى أنفسهم وهياكلهم والأيديولوجيا التى يعتمدونها.
وإذا أضفنا للصورتين ما كان فى زمن الانقلاب بالعام 2007، بعد انتخابات عامة وتشكيل حكومة فى أجواء شبه طبيعية؛ فالاستخلاص أنه سباق على السلطة، تُرهَن فيه القضية لحسابات تخص الفصائل، وتُستباح الأرواح بمقدار ما يتولّد عنها من منافع ودعايات؛ فإن كانت المصلحة أن يُقتَلوا بيد العدو ليُستَفاد من مظلمتهم فلتكُن المقامرة غير المحسوبة، وإن تعذّر فليأخذ الأصيل بالزمام دون البديل، ويُجرى على بيئته ما لا يقل بشاعة عما يُنزله بها الاحتلال.

والأجساد هنا مجرّد منصة لاستعراض القوّة، ورسم الحدود والتوازنات؛ حتى أنها تُسلَب من بشريتها العادية؛ لتصير خسائر تكتيكية كما يراها خالد مشعل، أو آثار جانبية لحق الدفاع عن النفس يتبجح بنيامين نتنياهو ويتواقح ويخرج لسانه للعالم والإنسانية بكاملها.

الخطة التى أقرّها خليل الحية ووفده المفاوض، تتحدث عن إبراء غزة من الاحتلال والانتحال معا، بحيث تُنتَشل من مخلب الصهيونية ولا تظل عُرضة لأهواء الفصائل وذرائعها التى صارت فخا تدوسه بلا اتعاظ؛ فيسقط فيه الأبرياء وقضيتهم دون جريرة أو اختيار.

وبقدر ما يقول رجالُ الصفِّ الأوّل إنهم ماضون فى الصفقة بشروطها، يوعزون للصفوف التالية والرديفة بالرقص على مساحات الالتباس واكتشاف ما فيها من ثغرات. سواء بالاستدراك على بند نزع السلاح، أو بما قاله القيادى محمد نزال أخيرا من أنهم سيظلون حاضرين على الأرض، بالتزامن مع تثبيت الإدارة الانتقالية وافتتاح مسار التعافى وإعادة الإعمار.

ومحاولات الاحتيال تتجسّد سياسيا باستباق الحوار الوطنى، عبر اختزال عنوان المصالحة والتوافق فى ثلاثية حماس والجهاد والجبهة الشعبية، التى كانت بالأساس وراء الحرب الأخيرة بخطيئة الطوفان وأخطاء التعامل مع تداعياته.

فكأنهم يعملون على بناء جدار صلب ليدخلوا إلى الغرفة الجامعة كتلة واحدة، ولا تكون البداية من حيز المسؤولية عن أحداث السنتين الماضيتين، ولا حتى من نقطة الصفر بين متساوين وذوى مراكز مُتكافئة؛ إنما على صورة القطب الموازى للسلطة ومنظمة التحرير، والباحث عن قسمة فى مرحلة بلا أية مغانم، بل عنوانها المغارم الخُلّص للأسف.

والخشية ليست من إفساد اتفاق التهدئة أو إعانة الصهاينة المتطرفين على إشعال الحرب من جديد. إذ الحاكم هنا ما تُريده إدارة ترامب وتضغط لإنفاذه على الطرفين.

لكن إرجاء المراحل المتتابعة كما نص عليه الاتفاق تُهدد بمخاطر أكبر مما كان قائما طوال الوقت؛ ذلك أن ورقة الأسرى تبدّدت، ولا سبيل للمقاومة بمنطقها القديم، أما تعطيل الانتقال فيمنح الاحتلال فائدة القتال من دون أعبائه، ويُرجئ تفعيل المسار السياسى الذى لا متسع له أفضل من اليوم، أقلّه بأثر النكبة الساخنة فى الضمائر وما تولّد عنها من زخم إقليمى ودولى.

حماس على طاولة الاختبار؛ ليس لجهة الالتزام بما أقرته واشنطن ولن تتهاون فيه، إنما لإثبات أنها قادرة على الانفكاك من هالة الوهم والقداسة، والنزول على أرض الواقع لتقتسم حنظل الطوفان وأشواكه مع ضحاياه المجبرين، أو بالحد الأدنى إعفاؤهم من سداد التكاليف عنها، ومواصلة السباحة فى المجهول لأن المتسلطين عليهم لا يحسنون قراءة الإشارات، واتخاذ القرار المناسب فى الوقت الأنسب.

وهنا تحديدا يقع سؤال الجدارة وامتحان القيمة، بالخروج من الخاص إلى العام، وتأكيد أنهم قادرون على أن يكونوا بشرا طبيعيين، يقدرون على اجتراح الصواب مهما كانت أخطاؤهم، ويعرفون واجبهم ولا يستنكفون المراجعة والاعتذار.

ما تزال سردية النصر محشورة فى قاع جماجمهم. ولا دليل أكبر من أنهم يراوغون فى الإقرار بالهزيمة واحتمال تبعاتها، ما يعنى أنهم مصرّون على السير فيها إلى منتهاها، ولا مانع لديهم من تكرارها مجددا. والسؤال الحَرِج الذى يتهربون منه: هل كان الطوفان عملا عاقلا أم لحظة انتحارية بلا ضرورة أم مبرر.

واحدٌ منهم فقط تصدّى للإجابة ثم التفَّ عليها سريعًا، كان ذلك الرجل موسى أبو مرزوق، عندما قال إنه لو يعلم التكلفة ما وافق على الفعل. والباقون ملزمون بالرد أيضا: هل تحبون تكرار «طوفان السنوار»، أم لو عاد بكم الزمن للوراء كنتم ستنهونه عن القفز فى النار؟ الانتصارات لا تُزهَد مهما طال عليها الزمن، والهزائم وحدها يتهرب منها أصحابها بالإنكار، ويفرّون أمامها من أى احتمال للتكرار.

وإذا تحقق الصدق لحظة واحدة؛ ولو مع الذات فى غرفة مظلمة. فالواجب يقتضى العودة عن كل ما تسبب فى النكبة الثقيلة، والانقطاع عن كل ما يهدد باستمرارها أو إنتاج نسخة ثانية منها.

والحال؛ أن شرارتها الأولى كانت فى مناكفة السلطة الوطنية ومسار أوسلو، وخدمة اليمين الصهيونى والاستفادة منه بالتغذية الراجعة، وقبلها الطعن علنا وضمنيا فى شرعية منظمة التحرير، والتحالف مع الموت بعدما نال من كاريزما عرفات التى لا تُضاهَى، ثم الانقلاب، والاستبداد بالقطاع وعزله عن مجاله الحيوى، وإقامة سلطة شمولية شبه فاشية وإن ادّعت العكس، وصولا إلى الاستتباع ورهن البلاد والعباد ومصائرهم لحسابات المحاور والأحلاف.

القصة بكاملها فى حاجة للمراجعة، من البدء للمنتهى، وليس مع السابع من أكتوبر وما بعده. إعادة تعريف القضية على وجه دقيق، والدخول فيها بمنطق الشريك لا الوصى، ومن منطلقات وطنية لا أيديولوجية؛ إذ لا قيمة لصراعات العقائد والتوجهات السياسية قبل أن تتجسد الدولة، أو يتوفر لأهلها ما يختلفون عليه فيما بينهم، بعدما يحسمون خلافاتهم مع الآخرين.

المسألة أكبر من انتزاع الشريط الساحلى واختزاله فى الراية الخضراء، ومن إغراق ساكنيه بالطوفان غير المحسوب، وأكبر أيضا من ادعاء النصر والتعالى على الهزيمة، أو البحث عن جُحر للوجود فى بيئة تخوض صراعا مع لائحة طويلة من المهددات بالفناء.

والمسألة أيضًا أكبر من سقوط القتلى قبل أسبوعين بقذائف المحتل، وسقوطهم اليومَ برصاص المُقاومين؛ إنها سؤال الهوية والكيان والرابطة الجامعة، وهل ما بين المختلفين فى فلسطين أكبر، أم ما يجمعهم بأشباههم الخارجيين فى اللون والخطاب؛ ولو تأكد بالدليل أنهم يتاجرون بوجيعتهم ويستثمرونها فى ألعاب أوسع من الجغرافيا، وأكبر من طاقة الديموغرافيا على الاحتمال؟!

قد تعود الحرب أو لا تعود؛ لكنها خرجت غالبًا عن إرادة المُتحاربين. القرار لم يعد فى يد نتنياهو، وبالتأكيد لا تملكه حماس؛ إنما تملك أن تُوظِّف خسارتها المُتحقّقة بأدلة مادية لا تنفيها المُشاغبات المعنوية؛ لأجل أن يربح الذى تسبّب لهم فى خسائر ستطول مُهلة تعويضها والتعافى منها.

وذلك؛ مع واجب العالم بأنَّ الدمار طال الإنسان كما طال العمران؛ وليس الحل فى الخلاص من كلِّ مُرتبكٍ أو مُعتلٍّ؛ لأن البيئة بكاملها مطويّة على أمراض شتّى، ولأن فى ذلك سلوكًا نازيًّا لا يختلف عمَّا أنزلته الصهيونية بالقطاع.

وإعادة الإعمار لا يُقصَد بها الحجر فحسب؛ بل البشر أوّلاً. الجائع الذى سرق لا يُلام، بل قد لا يُلام التاجر الذى كان يتحسَّب لمحرقةٍ لا يعرف مداها.
والمتعاونون مع العدوّ فيهم الخائن من دون شَكٍّ، ومنهم المضطر والمُخَوَّف بالنفس والأهل. وبالمنطق الفقهىّ الذى يرطنُ به الحماسيون قبل غيرهم؛ فالحدود تُدرَأ بالشبهات، ولا تُقطَع أيادى الجوعى فى أعوام الرمادة.

تنَحِّى الحركة فريضةٌ لا فضيلة؛ لأنها إن كانت تمنحُ للعدوَّ هالة النصر التى يتمنّاها، ولا تنقصه بالمناسبة؛ فهى تسلبه الذريعة أيضًا، وتفتح باب الأمل لإعادة توحيد جناحَى الدولة، وإدخال البقعة النافرة تحت مظلّة الشرعية المُعترَف بها منه قبل المُنحازين والمُحايدين، والتى تتّجه إليها كل الاعترافات ورسائل الإسناد الإقليمية والدولية.

أمّا المُحاسبة فواجب لا فرار منه؛ إنما بعد تطبيع الحياة أوّلاً، وإحلال إدارة تنعقدُ لها شرعية القبول والإجماع، ولا يتدنّس ثوبها بالأطماع والاستتباع، وعلى شرط أن تكون العمليةُ عموميّةً ومُتجرّدة، تُسأَلُ فيها حماس قبل غيرها، وتُقام الحُجّة على المُغامر والمُقاتل وأصحاب القرار، ثم يُنظَر بعدها للآثار الجانبية التى أدخلت الناس فى التجربة، وما كانوا ليسقطوا لو لم يدخلوها جَبرًا.

الادّعاء على الجميع بلا استثناء، ولصالح فصيل دون الآخرين؛ فمن قبيل التطهُّر والزعم بالشرف، وعلى طريقة «رَمتنى بدائها وانسلّت».. المُصالحة شرطُ اللحظة؛ وتتأسَّسُ على الاعتراف وعدم إبراء الذمّة، وعلى قراءة المأساة من سطرها الأول؛ وليس الوقوف على خواتيمها.

يتوقّف القتل فورًا؛ لأنه تصفية حسابات وبحث عن مُكتسبات؛ وليس وطنية زائدة؛ طالما يُوضع فيه الوطن بكامله على طاولة المُقامرة.
مُنظمة التحرير عنوان لا بديل عنه، والانطلاق من أجندتها يُقصّر المسافات ويعفى من لَجَج طويل.

الصورة أوضح ما يكون، ولا حاجة للاختلاف فيها أصلاً: كل ما كان يُؤخَذ على عرفات، بل وعباس نفسه؛ صار من الأحلام المُستحيلة. السلاح ارتدّ إلى صدور أصحابه، والسياسة ليس مُجرّد وجه من وجوه المقاومة؛ لكنها صارت شرطا ظرفيا للنجاة.

لا شىء يُبرّر على الإطلاق قتل الغزّيين برصاص إخوتهم؛ ولو كان ثابتًا على بعضهم التردّى والوقوع فى الخطأ. ذلك أن حماس أخطأت قبلهم، وتردّت، وارتكبت ما يُنسَب إليهم جميعًا. وفيها العملاء والمُتربّحون وتجار الحروب أيضًا، والمُنعّمون على حساب المنكوبين وباسمهم.

لا وقاحة أكبر من أن يعجز الرصاص عن إصابة الجناة؛ فيرتدّ إلى صدور الضحايا. كأن شخصا فى قفص الاتهام يُحاسب جاره على التهمة نفسها، وكأن الذى كنت تستأمنه، اختيارًا أو اضطرارًا، يُلقى بك إلى التهلكة؛ ثم يقتصّ منك على التوّجع وصرخة الألم!




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب