دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز النفاذ، اليوم الأحد، يمثل خطوة مفصلية مهمة، ترتبط في جزء كبير منها، بتبريد منطقة مشتعلة، جراء الصراعات المتواترة التي خاضها الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من 15 شهرا كاملة، تبنى خلالها سياسات عدوانية تقوم في الأساس على فتح المزيد من الجبهات، عبر الانتقال من غزة، إلى لبنان، ومنها إلى سوريا واليمن، ولكن أيضا في تاريخ القضية الفلسطينية بأسرها، حال استغلال حالة الزخم المترتبة على العديد من المستجدات التي شهدتها القضية المركزية في الشرق الأوسط، خلال الأشهر الماضية، ربما تساهم في تشكيلة بيئة دولية أكثر إنصافا، حال الدخول إلى مرحلة التفاوض النهائي، في إطار المساعي نحو الانتصار إلى الشرعية الدولية، والقائمة على حل الدولتين.
والحديث عن تشكيل بيئة دولية أكثر إنصافا للفلسطينيين يمثل في جوهره الانتصار الأكبر للقضية، والتي تحققت رغم أنف العدوان الغاشم، وبفضل الدبلوماسية المصرية، والتي كانت بمثابة "رأس الحربة" الأساسي في الدفاع عن فلسطين، وحماية قضيتها من كل المحاولات التي خاضها الاحتلال لتصفيتها، عبر دعوات التهجير تارة، وفصل القطاع عن الضفة تارة أخرى، وهو ما يعكس تصدت له مصر، لتصبح عودة النازحين، وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، أحد أهم البنود التي توجت اتفاق وقف إطلاق النار، لتكون تلك البنود انتصارات أخرى في ميدان الدبلوماسية، رغم الخسائر الفادحة التي مني بها القطاع وسكانه، في إطار حالة الدمار التي طالت كل أنحاء غزة، ناهيك عن سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين، في ظل انتهاكات متلاحقة ارتكبتها قوات الاحتلال.
وبالنظر إلى المعطيات سالفة الذكر، نجد أن الدور المصري حمل مسارين رئيسيين، أولهما تجسد في الوساطة بين إسرائيل وحماس، من أجل الوصول إلى وقف إطلاق النار في القطاع لحماية سكانه من القتل والتشريد، وهو ما تحقق عمليا مع دخول الاتفاق حيز النفاذ قبل ساعات، بينما قام المسار الآخر على خدمة القضية الفلسطينية، عبر الوصول إلى قناعة دولية عامة بأهمية إنهاء الاحتلال، خاصة وأن استمراره لن يؤدي إلى استقرار الإقليم، وهي الرؤية التي ثبتت مصداقيتها أمام العالم عمليا، عندما توصلت الأطراف الدولية إلى وقف إطلاق النار في لبنان، بينما لم تصل المنطقة إلى الهدوء المنشود، على عكس ما حدث عندما تم الإعلان عن الاتفاق في غزة، حيث باتت حالة من الارتياح العام في المنطقة، يمكن البناء عليها حالة صمود وقف إطلاق النار، وتطبيق بنوده بالسلاسة المنشودة.
القناعة الدولية بضرورة إنهاء الاحتلال، ساهمت بصورة كبيرة في تشكيل البيئة الأكثر إنصافا للفلسطينيين، وهي ما بدت بوادرها في العديد من المشاهد، منها الاعترافات الدولية المتواترة بالدولة الفلسطينية، في دول أوروبا الغربية، رغم مواقفها الداعمة للاحتلال، وهو ما يمثل بعدا دبلوماسيا مهما من شأنه الضغط على حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى جانب الأغلبية الساحقة التي حصل عليها طلب فلسطين للحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، بينما تحمل الأحكام القضائية الصادرة عن محكمة العدل الدولية، فيما يتعلق بعدم شرعية الاحتلال، بعدا قضائيا مهما، يضفى مزيد من الزخم إلى حل الدولتين باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط.
الدبلوماسية المصرية ساهمت بصورة كبيرة في كشف التعنت الإسرائيلي أمام الحليف الأكبر للاحتلال، وهو الولايات المتحدة، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في حالة التوتر الملموسة التي شهدتها العلاقات الأمريكية الإسرائيلية خلال عهد بايدن، بينما دفعت الرئيس المنتخب دونالد ترامب نحو ممارسة أقصى قدر من الضغوط على نتنياهو للرضوخ إلى النداء الدولي المرتبط بضرورة وقف إطلاق النار.
البيئة الدولية المنصفة، تبدو أحد أهم الأبعاد التي افتقدتها القضية المركزية في الشرق الأوسط، منذ اندلاعها في أواخر الأربعينات في القرن الماضي، جراء حالة من الانحياز الصارخ لصالح الدولة العبرية، في الوقت الذي عانى فيه المعسكر الداعم لفلسطين من التشرذم والانقسام، وهو الأمر الذي نجحت الدولة المصرية في احتوائه باقتدار، عبر منهج قائم على الشراكة بين القوى المتنافسة، استبقت به العدوان، لتخلق قدرا من التوافق، ساهم في تعزيز حالة من الصمود، في مواجهة الاحتلال، وهو ما بدا في الإجماع بين القوى الإقليمية الرئيسية فيما يتعلق بالثوابت الفلسطينية.
وهنا يمكن القول بأن الانتصار الأكبر، الذي تحقق من رحم الدمار الذي شهدته غزة، يتجسد بوضوح في تهيئة بيئة أكثر إنصافا للقضية، التي عانت لعقود طويلة من الزمن من سياسات دولية ازدواجية وانحياز صارخ بعيدا عن أي قدر من الموضوعية، وهو ما يمكن البناء عليه في المستقبل، خلال مفاوضات الحل النهائي، وهو الأمر الذي لعبت فيه الدولة المصرية الدور الرئيسي، منذ بدء العدوان، عبر تأكيداتها المتواترة على ضرورة إضفاء حماية دولية للشرعية القائمة على حل الدولتين، وعدم السماح بتقويضها، عبر تصفية القضية.