ناهد صلاح

أيقظني.. الخوف ليس حقيقيًا

الأحد، 21 مايو 2023 02:30 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ملمحان مهمان يمكن للمتفرج أن يلحظهما ويتمتع بهما في الفيلم السعودي القصير "أيقظني"، تأليف وإخراج ريم البيات: الشِعر والمرأة، الركيزتان اللتان يقوم عليهما الفيلم، ومن خلالهما نستمع لصوت مارسيل خليفة يلقي شعرًا كتبه الشاعر أحمد الملا، بالمناسبة الملا هو أيضًا الشريك في كتابة السيناريو والحوار والمنتج التنفيذي، كما نشهد الممثلة سمر البيات تتألق في أدائها شخصية "سلام"، امرأة أربعينية تمر بأزمة وجودية في منتصف عمرها، أم موزعة بين وحدتها وعزلتها في حياتها الرتيبة بدون أولادها الذين يعيشون بعيدًا عنها، مدربة رقص في الخفاء تعاني من نظرة المجتمع وتتطلع إلى التحليق في فضاء الرقص، إنه ولعها الخاص بالحياة بعيدًا عن حصار المادة والتزمت، يتسرب إلينا هذا الولع الحاضر في السياق الدرامي للحكاية، تبرزه الممثلة ويظهر تأثيره وتناقضات استقباله من خلال فريق التمثيل الذي يشترك فيه: إبراهيم الحساوي وعهد كامبل وآخرون.
 
شاهدت الفيلم ثلاث مرات متتالية في ليلة واحدة، ليس لأنه فقط تجربة جديدة تحتاج التعرف عليها، فالفيلم عُرض لأول مرة في الدورة الثالثة عشر من مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2016، وسبق أن فاز بجائزة أفضل إخراج في مهرجان مدريد السينمائي الدولي عن فئة الأفلام القصيرة، وجائزة أفضل إخراج في مهرجان ميلان السينمائي أيضًا، كما أنه يعد الفيلم الثالث لمخرجته الحاصلة على الشهادة الوطنية في التصوير من معهد الفنون ببريطانيا عام 2005، وبكالوريوس في الإخراج السينمائي من بريطانيا عام 2008، بعد فيلميها "ظلال" (2009) و"دمية" (2010)، إنما جاء توقفي عنده لعدة أسباب: أولًا لأنه يقدم حالة فنية بصرية مترعة بجاذبية في تفاصيلها وزواياها، وثانيًا لأنه على مستوى الجرأة الفنية والفكرية يلفت الانتباه إلى خيال مختلف يزدهر في هذا الفيلم، وهو الانطباع الذي خرجت به من مشاهدتي الأولى له، والذي يتوازى مع تجارب أخرى ظهرت مؤخرًا في السينما السعودية تطرح وجهات نظر مغايرة للاعتيادي، أما ثالثًا فيتعلق بمسيرة جيل جديد من السينمائيات السعوديات التي هي حديثة بدورها، وهذا أمر بديهي، يهتم بقضايا المرأة وواقعها الاجتماعي. 
 
روح سجينة ...
 
"أيقظني" فيلم سينمائي مميز يروي فصلًا من معاناة إنسانية في سياق متناسق وشفاف، المعاناة هنا بطلتها امرأة تعيش في مجتمع ضاغط، إذن مشقتها مضاعفة، كامرأة وكإنسانة في الوقت ذاته، وعلى أساسه يصوغ الفيلم العلاقة المتشابكة بين الجسد والروح والمكان والفضاء الإنساني الأعم، يضخ بعض الحيوية الجسدية في روح محطمة وسجينة وحدتها وحصارها الاجتماعي. 
 
تجلت مفردات البيئة منذ فاتحة الفيلم: النخيل والمطر والمؤثرات الصوتية من الواقع، حتى القطة المذعورة، دائرة النيران والنساء الزاحفات والمطمورات في ردائهن، إلى الرجل الغليظ، الغاضب، ثم المرأة العجوز التي تمنح هذا الإحساس بالخشونة والذي يتلون إلى الحكمة، لكنها حكمة مجتمعها العَسِر.. أرادت المخرجة تِبيان جغرافيا المكان والبشر، مازجة الواقع بالخيال في تواز يفصح عن أزمة هذه المرأة التي تكابد وجودها من الأساس، ما جعلها تعيش اضطرابات في التفكير، الشعور، الإحساس بالذات والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين، حالة يصعب معها تحديد ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي.
 
"سلام" لا تستطيع مواجهة المجتمع الذي ظلمها وتربص بها حتى لا تحقق طموحها الفني، فتمارس هوايتها في الخفاء، ما أدى إلى شعورها بالذنب وصوت داخلي يناديها :"توبي"، ما يعني إصابتها بالذهان، بخلل في التفكير المنطقي والإدراك الحسي، وهو الأمر الذي تزداد وطأته بتعاطيها الأدوية الموصوفة من طبيبها المعالج، لا مفر لها سوى الرقص.. صوت مارسيل خليفة يعلنها منذ البداية: "كان علي أن أرقص/ كان على أحد أن يرفع الموسيقى فوق كتفي/ ويدور في اتجاه الشمس....."، ثم صوت سمر البيات يتماهى مع "سلام" التي تجسدها بتوقد واعِ على المستوى الانفعالي:"علمت جسمك رقصة واحدة وانسجن فيها .. اليوم نحاول نعلمك يكون حر، مكتشف.. اتعلمي تسمعين وتحسين"، ما يعني أن الخوف ليس حقيقيًا، وأن الأماكن الوحيدة التي يستطيع أن يتواجد فيها الخوف هي أفكارنا حول المستقبل، كما ورد في حوار الفيلم، وكما أكد أن الوهم يحيط بنا:"كأن الجنون استحوذ على كل شيء في كل مكان، ولهذا السبب لم نعد نخرج، نجلس في البيت ويصغر عالمنا شيئا فشيئا وكل ما نقوله: أرجوكم، اتركونا لوحدنا في غرف جلوسنا، دعني أبقى مع محمصة خبزي وتلفازي...".
 
تجد البطلة في روحها تحرّرًا أقوى وأفعل من الواقع المحيط، تعيش مع أوهامها وتحاول أن تختبر كيف تخرج من عزلتها إلى حيّز العيش، أسيرة ثقل الجسد والمادة وتعب الروح.. الرقص مفتاحًا لإطلاق المكبوت فيها، وإن اصطدم بالمألوف والتقاليد، حائرة بين طرفي نقيض يتصارعان بحدّة، الضياع (الروحي، المعنوي، المجتمعي).. لا شكّ في أن ريم البيات سعت إلى بلورة هذه العناوين كلها في فيلم أرادته حكاية بصرية، لذا فإنه على المستوى التقني، بدا التصوير جميلًا، سلاسة بصرية في سرد التفاصيل، كاميرا (علي الشافعي) تُكمل كلامًا، كما أن المونتاج لعب دوره في هذه الصياغة البصرية.
 
يا حريمة ...
 
القصة قاسية، لكنها معنية بالتقاط وقائعها من دون تفسيرات أو تبريرات، تتكاثر معها الأسئلة، لن يطول الوقت حتى يتضح الأمر تدريجيًا، والشعر المروي يرسم ملامح من الرغبة قبل الغليان والتعبير عن قهر، إنها التيمة غير التقليدية التي اتخذتها ريم البيات لترسخ تجربتها في إطار غير مألوف، محصنة بجموحها الفني ورغبتها في توريط المتلقي معها في هذه الحالة الفنية، المخرجة تلعب في هذه المساحة شديدة الحساسية، سينما "ذهنية" تعترك مع العقل وتستخدم الرمزية للوصول إلى غرضها والتأثير في عقل المتفرج والمتابع، والشعر عنصرًا رئيسيًا في مشروعها، إن جاز توصيفه بالمشروع، خصوصًا أنها تستند على الشعر في اشتغالها السينمائي، تقول ريم في واحد من حواراتها الصحفية:" منذ أن بدأت صناعة الفيلم مع فيلم ظلال وأنا أعمل شعرًا، حتى عندما أفكر أفكر بطريقة شعرية".
 
الفيلم مجموعة من أحلام وكوابيس وخيالات جامحة تتخذ شكل القصيدة البصرية، بناؤه السردي فيه هذه القصدية، بما يسمح بتأويلات عدة لأفكار تجريدية قد "يستصعبها" البعض، لكنها تقدم سينما صانعة للجمال حتى ولو من قلب حكاية حزينة وقلقة، لذا كان من الملائم أن تأت الأغنية الأخيرة في نهاية الفيلم، لتكون تعبيرًا شفافًا عن قوة الوجع والانكسار، وتوقًا إلى تغيير حقيقي، الأغنية للفنان العراقي حسين نعمة بصوت نورس:
"يا حريمة سنينك العشرين ما مرها العشگ والعشگ خايف
إلى ..... هاك عمري الضاگ حنظل وانت برحي".
 
مناضلات ...
 
وفرة التفاصيل والهوامش في فيلم يغوص في أعماق روح معطوبة، والرغبة في الخلاص من بشاعة السطوة القامعة، تأخذنا إلى تجربة السينمائيات السعوديات إجمالًا وتؤكد لنا أن ريم البيات ليست وحدها التي حرضت ولا تزال على ابتكار شكل ما لخلاص منشود، فهناك أسماء عدة لمخرجات اشتركن في ذلك، تتصدر هيفاء المنصور القائمة كأول مخرجة سعودية خاضت تجربتها في وقت صعب بأفلام قصيرة وطويلة، هناء العمير كاتبة ومخرجة سعودية، وحاليًا هي رئيسة جمعية السينما السعودية، بخلاف هند الفهاد وعهد كامل وسميرة عزيز وشهد أمين وغيرهن من فتيات طموحات، تجرأن ودخلن هذا المجال بروح نضالية حقيقية ومهارة تتجاوز المألوف والمعتاد، وتبقى ريم البيات واحدة منهن تسعى لتمييز تجربتها بمخيلة واعية ومبدعة، مفتوحة على أسئلة كثيرة وحكايات أكثر كما نأمل لهن جميعًا في المرحلة المقبلة.






مشاركة



الموضوعات المتعلقة


لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة