ناهد صلاح

مصر تغني

الخميس، 20 أبريل 2023 01:07 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

إنها في الأصل أغنية، واللي بنى مصر كان في الأصل ... وقبل أن أُكمل العبارة، تسلل إليّ صوت عذب ومستطاب يغني: (يا حلو ياللي لابس الحلو يا صغير يا عجباني)، إنه صوت حميد إبراهيم، أشهر مطربي شمال سيناء الذي أوصل أغاني التراث البدوي السيناوي إلى العالمية خلال مشوار حافل قبل وفاته في العام 2015، استطرد صوت حميد غنائه: (عشان إنت فيك حاجة بتعجبني/ وفيك حاجات ما بتعجبنيش/ راح نجول ع اللي بيعجبني ونجول ع اللي ما بيعجبنيش)، ثم انتقل الغناء على موجة أخرى مع فرقة "الجركن": (القهوة السمرا مع الجمرا ومعاها راح تحلى السهرا/ اسجينا يا حلوة اسجينا وتعالي نرجع ماضينا...).

"الجركن" اسم لفرقة غنائية حولت جركن الجاز وصندوق الذخيرة إلى آلات موسيقية، ما يعني تحديًا كبيرًا ومواجهة عظيمة مع الحرب والموت بالغناء والحياة، هذا التوهج الخاطف تنبهت إليه بالصدفة عبر إيقاع سريع لم يخطر على بالي، فوجدتني مشدودة لهذا البرنامج المدهش الذي عرضته القناة الأولى المصرية يوميًا طيلة شهر رمضان، برنامج "مصر تغني" إخراج أحمد زكريا، محمد نديم، بينما قدمه الصحفي والكاتب والباحث والشاعر  أحمد عطا الله، إذ تجول بكاميرا كاشفة لربوع مصر من زاوية مختلفة، رحلة في وجدان مصر الموسيقي عاينت الفرق المختلفة، فعالياتها وانشغالاتها، أحلامها وطموحاتها، حتى وصلت بنا إلى قضية كبرى ليست متعلقة بالفن فقط وإنما بالهوية أيضًا، من دون الانزلاق إلى فخ البروباجندا أو  الدعاية الفارغة، فالموضوع أعمق من ذلك بكثير.

حمل أحمد عطا الله حقيبته الصغيرة على ظهره، ومشي بدأب الحريص على تجميع الصورة، وإبراز بريقها الذي يبدو ظاهريًا أنه خفت، جال وصال في أماكن متعددة وجغرافيا عبرت عن نفسها كما فعل البشر الذين وجدوا الفرصة للتعبير عن طقوسهم وكنوزهم التراثية، ما يمنح هذا البرنامج قدرًا كبيرًا من الحساسية الإنسانية المرافقة لظهور كل هذه الصور الفنية المتنوعة على الشاشة.

في رأيي أن هذا البرنامج يعد متنفسًا حتى لأمكنة تتوق لخطوات مختلفة، لحظات صدق ترفض الانصياع إلى الأشكال التقليدية، إنما تقود إلى المعرفة والمتعة والبهجة والإصغاء، حيث يبدو الإصغاء الذي يلتزم به مقدم البرنامج، سواء للموسيقى والغناء أو لكلام الضيوف من الوسائل المانحة للمعرفة، كما أن الصورة البصرية المختلفة تسهم في تحريك الجمود وإضافة روح على روح، وهذا بقدر ما هو ملهم بقدر ما يدل على جهد جماعي بذله فريق البرنامج بأكمله.

ربما يرى البعض أن رحلة عطا الله هي الاستكمال الفعلي أو بمفهوم أخر الإحياء الضروري لما فعله زكريا الحجاوى، قبله من زمن طويل بتجميعه للتراث الشعبي المصري وتقديمه وإبرازه إعلاميًا.. قد تكون هذه الرؤية وجيهة وفيها أصداء من الحكمة وكذلك الأمل، وربما أنا لا أعرف دوافع أحمد عطا الله وسر حماسه للقيام بهذه المهمة، سوى بضعة تصريحات أعلن فيها أن هذا جزء من تكوينه الثقافي، وذائقته الفنية التي نشأ عليها في بيئته الجنوبية:" أنا بحب النوع ده من الموسيقى، وبسمعه من وأنا صغير، بسمع السيرة الهلالية والرنان وعارف الجماعة بتوع الكف وكل الحاجات الحلوة دي وبشوف فيها غناء ممتع على مستوى الألحان والكلمات، فكان عندي شغف شخصي إزاي المتعة اللي أنا حاسس بيها وأنا بسمعهم أوصلها للناس، وده كان المحرك ليا طول الوقت"، لكن ما ألحظه هو سعيه الجاهد للإمساك بواقع الهوية المصرية.

 إنه هنا ليس مهمومًا بمواكبة يوميات تلك الفرق، بل يتلمس نبض البلد وتبدلات أحواله، وعلى أساسه قدم هذه التنويعات الثرية من سيناء ورأس غارب والاسكندرية ودمياط إلى النوبة والفلاحين والمنشدين والمداحين وغيره في برنامج هو استحقاقنا الحضاري، كما أنه الجسر بين المعرفة والجمال، الشكل القادر على إيصال الإيقاع المصري بتعدديته وتنوعه.

 الأمر إذن لا يتعلق ببرنامج تليفزوني لطيف، أو حتى غير تقليدي وإنما ببرنامج يرصد حنينًا في قالب موسيقي تم توثيقه بشكل أقرب إلى السرد، ظهر ذلك بعفوية الناس وقصدية الأسئلة التي يطرحها عطا الله، ما يرسم مصر في النهاية صورة متكاملة الملامح، حية نابضة زاخرة بأهلها وتراثها، إنه ليس برنامجًا يقدم في دورة برامجية وينتهي، بل إنه بحث عن الوطن، واستلهامه في وجهه الإنساني من خلال موسيقاه وأغانيه، موسيقى هي كالألعاب النارية، يتطاير شررها إلى روحك وجسدك، وعلى هذا الأساس أعتقد أنه من الضرورة التفاعل مع هذه النوعية من البرامج على أرض الواقع، وإيجاد وسائل للتواصل مع حافظي ذاكرة الوطن ودعمهم من أجل الحفاظ على تراثنا وهويتنا.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة