ناهد صلاح

حب على الطريقة الفلسطينية

الخميس، 30 نوفمبر 2023 02:32 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الطفولة تُغتال مرة أخرى أمامنا ونحن نحدق إلى شاشات التليفزيون بعيون غاضبة، حانقة، ساخطة، مترعة بحزن "مالوش آخر" وخجل هَيَّاب من العجز: أدم سامر الغول (8 أعوام) وباسل سليمان أبو الوفا (15 عامًا) طفلان أعدمهما الاحتلال قنصًا في مدينة جنين، أمطرتهما رصاصًا في الشارع وتركتهما ينزفان حتى الموت، حيث منعت المواطنين والمسعفين من الوصول إليهما وإسعافهما، لتزيد جرائم القتل المتعمد وتصفية الأطفال، ويتجدد الهجوم على مخيم جنين المستهدف دائمًا، ربما يذكرنا هذا بمذبحة جنين خلال عملية الدرع الواقي عام 2002، وأجواء فيلم الفنان والمخرج الفلسطيني محمد بكري "جنين جنين" الذي تحول إلى قضية رأي عام، حيث تعرض الفيلم لملاحقة قضائيّة، ومنع من العرض على مدار 19 عامًا ووصفته إسرائيل بأنه "فيلم أقوى من ألف عملية استشهادية.." اليوم تعود الوحشية الصهيونية للتدمير والإبادة واستباحة البشر بعد الأهوال التي حدثت في قطاع غزة، فدخل الصهاينة "جنين" بجرافاتهم، دهموا عدة أحياء ونشروا قناصتهم على الأسطح، شنوا حملة اعتقالات واسعة، فرضوا حصارًا من جميع الجهات وسط مواجهات عنيفة، أعلنوا بعدها جنين منطقة عسكرية. 
 
 الطفلان أدم وباسل حاصرهما التوحش الصهيوني، أحدهما أصيب عمدًا في شارع مصاب أساسًا بالهلع، حاول صديقه إنقاذه فسقط هو الآخر، فلسطين تطلع من هذه الصورة كما تطلع من صوت كاميليا جبران وهي تسأل بصوت طليق، متوجع:"هل كان عندن بيت/ وصورة عليها ناس معلقين بخيط/ وقعوا عن سطوح العمر واستلقتهن حجار/ وقعوا مثل يوقع المشمش عاولاد صغار"..
 
 هناك في جنين الأطفال كما في غزة وعلى اتساع الأراضي المحتلة، جميعهم في متناول القتل، طفولتهم معلقة في سماء مفتوحة على الغيب، يصيرون جزءًا من بياضها المطلق، والذي لا نعرف هل هو بياض الأبرياء والطيبيبن أم غمامة البارود، الصورة الملتبسة بين أنين الفلسطينيين وتغول الصهاينة، ونحن جميعًا نتابعهم على شاشات الأخبار ونمضي إلى ما لسنا نعرف، إلى أسئلتنا عن المصير، لا شيء يوجع أكثر من هذه الصورة لطفل يدافع عن طفل، طفل يواجه رصاصات الغدر، طفل شهيد يسحبه على الأرض طفل قبل أن يصبح هو الآخر شهيدًا، إنه قصة حب إنسانية على الطريقة الفلسطينية، الصورة واضحة رهن البصيرة، لا تحتاج إلى مجاز، إنها في واقعها أقوى من الخيال، تعتصر كل الهواجس ولا يمكن أن تختلط علينا تفاصيلها.. الحب على الطريقة الفلسطينية كما غنت له كاميليا جبران بكلمات من شعر د. عبد اللطيف عقل: "أعيشُكِ في المَحْل تينًا وزيتًا.. وألبس عُريَكِ ثوبًا مُعطّر.. وأبني خرائب عينيكِ بيتًا.. وأهواكِ حيًا، وأهواكِ مَيْتًا.. وإن جُعتُ أقتاتُ زعتر وأمسح وجهي بشعركِ المُلتاع".
 
  لا أُقارب هنا حالة وطن كل نبض فيه يوجع وكل لحظة تتلو وصية شهيد، بحالة فنانة تنتمي لهذا الوطن الجريح وتصنع حالة خاصة في الغناء، فلسطينية مغنية وملحنة وعازفة، تحنو على عودها وترأف في النصوص التي تغنيها بإنسانية مستمعيها، مشروعها مغامر، يكسر الثابت والتقليدي، لكنه يمنح طاقة للحياة مثل وطنها الصلب الذي يواجه الحقد والغطرسة بمقاومة تنشد الحياة.. بدأت كاميليا جبران مع فرقة "صابرين" التي أسسها الموسيقي الفلسطيني سعيد مراد في القدس المحتلة، للاسم معنى وحضور في الحالة الفلسطينية، والتجربة كانت من أهم التجارب الغنائية العربية المعاصرة، اختيارات مميزة للنصوص والموسيقى التي تستلهم الوطن في وجهه الإنساني، والوطن محاصر باحتلال تاريخه مليء بالجرائم من مذابح ومجازر، تاريخ طويل من القتل والتشريد ومحاولات طمس وجود شعب وتهجيره واغتصاب أرضه.
 
 المغنية حاولت أن تصنع ثورة لحنية وتجدد التراث في ذات الوقت، موسيقاها كأنها ألعاب نارية، يتطاير شررها إلى روح وجسد متلقيها، ويعلن موسيقى حية نابضة بالمعاصرة الفنية وتحكي عن فلسطين من زاويتها، فتلامس ذاتها وتخوض في قضايا وجودية. 
 
 أليست كلمات الطفل الجريح من غزة قضية وجودية، عندما حاول المراسل الصحفي أن يخفف عنه ألمه، فسأله: ماذا تريد أن تفعل عندما تكبر؟ فأجابه: "الأطفال في غزة لا يكبرون يموتون صغارًا".. هكذا أطفال فلسطين إن لم يستشهدوا مثل أدم وباسل ويوسف الذي نادته أمه الملتاعة:" شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"، فإنهم يكبرون سريعًا ويدفعون ثمن الوحشية الاسرائيلية، لا وقت حولهم للكلام العاطفي، فهم الحقيقة وهم السؤال وغدًا يشاركون في تدابير الحياة لوطن يرسمونه على طريقتهم، ينسدل صوت كاميليا جبران في الفضاء:"وأولد في راحتيك جنينا.. وأنمو وأنمو وأكبر".






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة