ناهد صلاح

رأفت الميهي .. الخيال الحائر

السبت، 23 يوليو 2022 03:14 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"الحياة مقرفة جدًا يا عبد الجبار والحقيقة إنك لو رفضتها علشان مقرفة. هتبقى مقرفة أكتر، الحل إنك تعامل الحياة بقوانينها عشان تتمتع بجمالها يا عبد الجبار"، فلسفة حسن سبانخ وإحدى الجمل الشهيرة في فيلم "الأفوكاتو" (1983)، تأليف وإخراج رأفت الميهي، إلتقطها بسرعة المُشاهد العادي وردد هذه الجملة في أكثر من موضع، ربما اعتبرها تعبيرًا ملائمًا عن مزاجية عامة أو هروبًا من واقعه القاسي، الشاق.
 
وربما كانت حيلة من حيل رأفت الميهي لمواجهة غلظة هذه الحياة، وإن كان الميهي يختلف كثيرًا عن سبانخ، فـ"رأفت" الذي كان يدرك التفاصيل الإنسانية ويستطيع أن يحولها إلى عمل فني، هو مبدع إمتلك مشروعًا حاول أن يرسخ لقواعده، بداية من حضوره كواحد من مؤسسي جماعة السينما الجديدة، وفكرة تدشين سينما مصرية مغايرة، يكون لها دورًا فارقًا في عملية التغيير المجتمعي، إلى تفرده وانفراده بمساحته الخاصة، غير مكترث بأي ضجيج يواجهه، سواء من الجمهور أو الرقابة أو حتى القضاء، بل سعى بجدية لتحقيق شيئًا في خياله.. شيء جعل كل فيلم من أفلامه بقدر ما كان محط جدل ونقاش، كان أيضًا مصدر متعة بصرية وفكرية، كما نحت علامة بارزة علي خارطة السينما المصرية.
 
أما حسن سبانخ فهو الأفوكاتو، هو حسن عبد الرحيم المحامي المخادع، صاحب الحيل الواسعة لتطويع القانون لمصلحته وأهدافه في اللعب والمغامرة، وحكمته كما قال حوار الفيلم :"إحنا عايشين في مجتمع غير علمي وأي محاولة للتعامُل بشكل علمي هي محاولة غير علمية بالمرة".
 
حكمته موجعة، لكنها تدفعنا إلى الضحك المفرط، كما يجدر هذا ما فعله بنا حسن حسن سبانخ، وفق ما رتبه رأفت الميهي من أجواء الفانتازيا والكوميديا السوداء، مع أنه هنا فيلمه الثاني كمخرج يقدم جرعة الفانتازيا أقل من أفلامه اللاحقة، ومع ذلك نجح في أن يشدنا لنقف معه على الخط الفاصل بين الفانتازيا والواقعية، وهو أمر ليس يسيرًا بالمرة، لكن الميهي كان جسورًا ومتمكنًا لدرجة أن يجعل الجمهور يعتاد أنماط سينمائية مختلفة وجريئة.
 
هذه الجسارة ظهرت في تجربته الأولى للإخراج، "عيون لا تنام"، (1981) الذي كتبه عن مسرحية "رغبة تحت شجرة الدردار" للكاتب الأمريكي يوجين أونيل، ليشرع المخرج القادم من مجال الأدب وكتابة السيناريو في مشروعه، ويكون من أبرز صناع السينما العربية (كاتبًا ومخرجًا ومنتجًا)، درس الأدب الانجليزي في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ودرس في معهد السيناريو الذي أنشأه المخرج الكبير صلاح أبو سيف، "جفت الأمطار" (1967) إخراج سيد عيسى أول كتاباته الاحترافية على الشاشة، يينما كانت البلاد لم تزل تعاني من نكسة يونيو 1967، جاء هذا الفيلم مختلفًا عن السائد، ليدور حول الرغبة في التحرر من الحيز الضيق الذي يستوطنه الناس إلى أفق أوسع لاستصلاح الأراضي.
 
مضى في كتابة سيناريو أفلام شهيرة، منها: "غروب و شروق" (1970) إخراج كمال الشيخ، "شيء في صدري" (1971)، "صور ممنوعة" (1972) إخراج محمد عبد العزيز، "الحب الذي كان" (1973) إخراج علي بدرخان، "الهارب" (1974) إخراج كمال الشيخ، "أين عقلي" (1974) إخراج عاطف سالم، "على من نطلق الرصاص" (1975) إخراج كمال الشيخ، وغيرها من أفلام كانت غالبيتها مع المخرج كمال الشيخ أو مأخوذة عن نصوص وروايات أدبية، والقاسم المشترك بينها أنها حملت شجاعة التغلغل في الموضوع السياسي والاجتماعي.
 
 تحوله من كتابة السيناريو إلى الأخراج جاء كما أشرنا سالفًا مع فيلم "عيون لا تنام" (1981)، إنه تحول منطقي وعادل، كما يقول الميهي نفسه في أحد تصريحاته:"ربما كانت بداخلي رغبة في إمتلاك العمل بصورة كاملة"، إنه حاول أن يبرهن نظريته تجاه رغبته في صناعة سينما تعبر عن ذاته، ورغبته في إحداث شكلًا من أشكال التغيير سواء على الشاشة أو في الواقع، حتى أنه في فيلمه الأول وعلى الرغم من اقتباسه عن مسرحية معروفة، لكن الفيلم اتخذ منحى مغايرًا للمسرحية الأمريكية التي ارتكزت في صراعها الإنساني الدائر على فكرة الرغبة في السيطرة والامتلاك، كنوع من النزوع إلى الغرائز التي تؤجج هذه الفكرة المرتبطة بالطبيعة الإنسانية، بينما الميهي في فيلمه تلمس الصراع داخل النفس البشرية، في إطار من التلوين الدرامي يجعل من الصعب إدانة أي شخصية، أو حتى التعاطف معها، لكن على الأقل ينفجر هذا الشعور بالقلق في مواجهة واقع هو أقسى من الصراعات الداخلية التي قد تحطمها، كاشفًا عن الصورة البائسة لمجتمع أكثر بؤسًا يعيش على هامش مجتمع الإنفتاح.
 
صدى البؤس واحد سواء عند مهمشي "عيون لا تنام" أو عند المنتميين للطبقة المتوسطة في "الأفوكاتو"، الصراع هنا ليس سببه علة نفسية أو غرائزية منزوعة عن مجتمعها، إنما هو صراع مجتمعي شديد الحدة أضفى عليه الميهي هذا الطابع من السخرية الذي يليق بالوجع، وبصرف النظر عن أن الميهي قرر في هذا الفيلم تحقيق المعادلة الصعبة وطرفيها الفن كما يريد والتجارة كما تريد السوق، حيث اعتمد على نجم الكوميديا عادل إمام، ليكون البطل الفهلوي خفيف الظل الذي يجذب الجماهير، لكن لابد من الوقوف عند هذه الصورة التي رسمها الميهي لبطله حسن سبانخ المحامي، المشاغب في قاعات محاكم خانقة ومخنوقة، والذي تتجلى أحلامه في تليفزيون ملون ودراجة لابنه وبعض المال من أجل عملية جراحية تحتاجها زوجته لكي تتخلص من "الشخير"، أحداث تدور في مجتمع الانتهازية هي قانونه الأبرز ويعيشه حسن سبانخ بنفس الطريقة التي يحاول بها يوميًا أن يجتاز شارعه الطافح بالمجاري، بخفة وفهلوة كما أفراد السيرك أو أبطال حكايات الشطار والعيارين في التراث الشعبي، إنها الخفة ذاتها التي يمارسها داخل السجون بعالمها الغرائبي.. لكن السخرية الجامحة في "الأفوكاتو" اكتملت خارج الفيلم، ليعيش رأفت الميهي تجربة مريرة في الواقع حيث حوكم هو وفيلمه وبطله عادل إمام بتهمة تشويه مهنة المحاماة!! وقف الإثنان في قفص الاتهام وحصل على حكم بالحبس ـ أول درجة ـ لمدة عام ثم حصل على البراءة في الاستئناف. 
 
تكرر الأمر مع فيلمه "للحب قصة أخيرة" (1986)، حين أتهم مع بطليه معالي زايد، يحى الفخراني، ومنتجه حسين القلا)بتهمة تصوير فعل فاضح وإحالتهم إلى نيابة آداب القاهرة، وكان المشهد المقصود هو في حقيقته مشهد موجع لعلاقة شاعرية مصيرها الموت، يبرز فيه الصراع بين الحياة والموت، بينما تتحمل المرأة على عاتقها الهم الكبير، بعد أن عاشت قصتها في الحب من علاقة تقليدية إلى مشهد أسطوري.
 
أما المرأة في "السادة الرجال" (1987) فلها قصة أخرى، معها انطلق الميهي لتكريس مشروعه في تقديم فانتازيا تكشف المجتمع وتشوهاته وتناقضاته على أكثر من مستوى، المرأة هنا تبحث عن حريتها في مجتمع ذكوري أناني، لا يجد حريته سوى في اصطياد النساء أو تدخين الشيشة.. المرأة مجرد وسيلة لتحقيق وسيلة لتسهيل الحياة، عند هذه النقطة في الفيلم تقرر المرأة أن تكون رجلًا، فانتازيا جامحة لباكورة ثلاثيته الشهيرة في عالم الفانتازيا: "سمك لبن تمر هندي" (1988) بأجوائه اللامعقولية التي تزيد من حالة العبث، وتكتمل الثلاثية بفيلم "سيداتي سادتي" (1990) الذي يعود فيه الميهي إلى مس العلاقة بين المرأة والرجل، من خلال تبادل الأدوار الذي يزيد من عبثية الصورة واضطرابها وسخريتها.
 
تلك السخرية فاقت المدى في فيلم "قليل من الحب .. كثير من العنف" (1995)، يعود فيه الميهي إلى النهل من الأدب عبر رواية فتحي غانم التي تحمل نفس العنوان، وبعده يتوغل أكثر في السخرية من خلال أفلامه: "ميت فل" (1996) الذي يدور حول حبيبين يبحثان عن أبوين ثريين ليتوجا قصة حبهما بنهاية مشروعة، فيتبناهما شخص واحد يمارس عليهما نزواته الأبوية، وفيلم "تفاحة" (1997) الذي يستسلم فيه بطليه بالرغم من دفاعهما المستميت في البداية عن حبهما، هزيمة تشبه هزائم كل أبطال الميهي تقريبًا، وإن كان في هذا الفيلم صنع نهاية سعيدة.
 
النزعة الفنية الخاصة برأفت الميهي دفعته ليقدم أفلام: "ست الستات"،"عشان ربنا يحبك"، "شرم برم"، لم تلق هذه الأفلام تجاوبًا جماهيريًا أو نقديًا، وقد توقف الميهي عن العمل بالسينما منذ العام 2001، لكنه أقدم في العام 2001 على كتابة وإخراج مسلسل "وكالة عطية" عن رواية الأديب الراحل خيري شلبي التي تحمل نفس الاسم، كأنه من الأدب بدأ وإليه يعود، بينما اتسعت حدود أزمته مع السينما، بعد أن تعثر مشروعه لإنتاج فيلم "هورجادا.. سحر العشق" لعدم وجود منتج يمتلك قدرًا من الجرأة لمناقشة قضية شديدة الحساسية كالنزاعات الطائفية.
 
يبقى أن رأفت الميهي الذي تمر ذكرى رحيله في هذا الشهر (24 يوليو)، لم يبرح موقعه كواحد من أهم وأفضل كتاب السيناريو في السينما العربية، وتظل تجربته التي احتوت 27 فيلماً كمؤلف، 12 فيلماً كمخرج، 11 فيلمًا من إنتاجه، إضافة إلى مسلسل واحد أخرجه للتلفزيون هو (وكالة عطية) في العام 2009 عن رواية للكاتب خيري شلبي، تجربة ثرية لا يمكن إسقاطها من ذاكرة السينما، كما أنها حملت بريق مغامرته كفنان امتلك قدرًا كبيرًا من الخيال الجامح، الخيال الحائر بين الحلم والواقع، والذي كوًن مبدعًا مقدامًا، حاول أن يراهن على التغيير بالرغم من كل الأزمات التي حاصرته.








الموضوعات المتعلقة

يا رايحين للنبي الغالي

الأربعاء، 06 يوليو 2022 04:07 م

بسنت حميدة.. الغزالة لا تركض وحدها

الثلاثاء، 05 يوليو 2022 10:28 ص

عنابي

الجمعة، 01 يوليو 2022 12:00 ص

وعشان أنول كل الرضا

الثلاثاء، 28 يونيو 2022 07:00 ص

مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة