في صباح يوم الثلاثاء، الموافق الرابع والعشرون من شهر يوليو، وبعدما تغلبت على الأرق، وبدأت مخاوفي في العودة إلى جحورها؛ خلدت إلى نوم أحسبه عميق، وبينما لم أكمل الأربع ساعات، يفزعني ضجيج قادم من الطابق السفلي.
هرج ومرج، وأصوات أقدام تتحرك على الدرج، وأيادي تقرع الأبواب بقوة تكاد تهز بنايتنا. يتخلل كل هذا صوت أمي وهي تتحدث مع أحد الجيران بصوت متهدج من البكاء. أنهض من سريري بسرعة، بجسم مرتعش، ونبضات متسارعة، وأسئلة مقبضة تفتك برأسي.
أذهب باتجاه الصوت وأرى أختي وقططي فيطمئن قلبي.
يجذب انتباهي حديثهم الذي يدور حول سقوط ابن جارتنا ذي الستة أعوام من الشرفة للتو!
أضع يدي على قلبي، ثم ألكمه حتى يكف عن نبضاته المزعجة التي تؤلمني وتضيق أنفاسي. أتذكر الآن قطي الأبيض، الذي سقط من الشرفة أيضًا، ولكن منذ عامين.
أتذكر بكائي وقتذاك بهيستيريا..
أعتقدت خطأً أنني تجاوزت حزني عليه، ولكن عيني بالمرآة ما كانت لتدل على هذا.
ثمة أشياء -قليلة- لا يمكن تجاوزها مع الوقت..
مر عامان وخمسة أشهر..
القطط تحديدًا لا يجب أن ننساها..
كان أول قط دخل منزلنا، وجدته أختي بالصدفة أمام باب شقتنا تائهًا. وقعت في غرامه من الوهلة الأولى، وقررت أن أعتني به، وأن يمكث معي، برغم معارضة أمي لأنه مجروح جرح غائر يصيب من يراه بالذعر.
أتفهم تخوف أمي، وغالبًا هي محقة، لن يتقبلنا الجميع ونحن جرحى ومتسخين.
نعم، ربما كانت محقة؛ جرحه، وهيئته يدلان على ضرورة حمله لمرض ما ربما سيطالني بالتبعية. ولكنني عندما أحب لا أكترث بالجراح، ولا التبعات، وأتحمل النتائج ببسالة لأنني من قرر.
كان "سيمبا" خائفًا و عنيفًا، يركض فجأة في الشقة كلها، ويطيح بكل ما في طريقه. يخدش يدي بأظافره، ويعضني بأنيابه بكل ما أوتي من قوة حتى ينبثق الدم، ويصيب جلدي بحمرة لا تزول. أعلم أنه تعرض لأذى شديد، وما كان مني إلا أن أتحسس بيدي اليمنى رأسه ليهدأ، بينما يستمر هو في جرح يدي اليسرى بأنيابه.
حتى أنني بت لا أعرف معالم لكفّيّ، دائمًا مصابة بخدوش وجروح وعلامات أنياب ولون أزرق، حيث يمتعض البعض ويشمئز البعض. كنت لا أهتم سوى بحبي ورعايتي له. كنت أردد أنه لا يجرحني شراسة منه، أو عدوانًا، وبالطبع لا يتعمد إيذائي، و لكن..
بمَ يفيد؟!
ها هي الجراح لا تطيب، وتعمده من عدمه هل سيغير بالأمر شيئا؟!
أتصور أن القطط مثل البشر؛ يحبون ويكرهون.
فهل تركني سيمبا لأنه لا يحبني؟
جذبته عصفورة ربما، وأراد أن يلحق بها، فقفز من الشرفة، ولم يعبأ بحزني على فراقه؟
علمتني الحياة -بعدما صفعتني- أننا نمكث مع من نحبه ويحبنا، و ليس مع من يحبنا فقط، وأردفت أيضًا -وسط ضحكة ساخرة- "المحبة مابتشفعش لأ".
أنتبه مجددًا إلى صوت أمي وهي تتحدث في الهاتف، تحاول أن تكتم صوت بكائها، وتخبر الأم المكلومة بأن "باتريك" يبكي بشدة، وعليها الحضور.
ولسذاجتي، وربما لإنكاري الدائم لكل ما هو سيئ ومؤلم حتى وإن كان متوقعا، حاولت إقناع نفسي بأن أمي صادقة، وربما كسرت إحدى ذراعيه أو ساقيه.
ركضت باتجاه الشرفة، لأشاهده بوسط الطريق، مغطى بملاءة بيضاء، محاط بتمتمات، وزحام، ومحاولات للاتصال بوالده. بكيت بحُرقة، وأنا أحاول أن ألملم ما تبقى لدي من قوة، وأنا أشد ساقي المرتعشة إلى غرفتي، لأرتدي ملابسي وأنتظر والدته.. بجانبه..
شعرت فجأة بالامتنان لباتريك؛ أخيرا بكيت، بحُرقة، ولن يسألني أحد عن السبب.
واجهت نفسي بحقيقة خوفي من الموت، والخطر، والجراح، والدماء، وأنني غرقت حتى الثمالة في هذا الخوف. غرقت لدرجة جعلتني أتألم أكثر، وأحب أكثر، وأهتم أكثر.
كنت أخاف أن أضيّع لحظة بجوار من أحب، فأصبح فريسة للندم لاحقًا. كما سيصبح الحال مع والدتك ووالدك للأسف.
غدًا.. ومع الأسف يا صديقي.. سينساك كل من يلتف حولك الآن.. يؤلمني أن أخبرك هذا..
هذه العجوز المنتحبة ستحضر عرس ابنها في اليوم التالي وترقص. أما هذا الشاب المنزعج الذي ينظر إلى هاتفه ويكتب، كالعادة سأسمع قهقهته على المقهى ليلًا. لن يتوقف الكون سوى عند من أحببك بصدق. حتى أنا سأنساك، وسأواصل الركض بحياتي..
حياتي المملّة..
ولمَ العجب؟
ألا ترى؟
تأخر والداك، فتملك من الناس الملل، تركوك بمنتصف الطريق وحيدًا.
أما أنا فأرى فيك نفسي، مكوثي بجانبك لم يكن طيبة قلب. أجد عذرًا لفعلتهم يا باتريك، ما الذي سيجذب البشر لجثة هامدة بلا حراك؟
حياتي مثل جسدك.
لم أرَ وجهك ولا مرة سوى الآن.
هذه أصدق لحظة يمكنني أن أشعر فيها بالمحبة تجاهك.
لم أحبك وأنت تركض، وتتكلم، وتضحك. أحببتك وعرفتك الآن، هذا أصدق، وإن كان بلا جدوى، ويميل إلى الجنون.
أنتفض إثر صوت قادم على بعد خطوات..
ها قد جاء والدك، صارخًا، باكيًا، يلطم وجهه. يستلقي بجانبك، يحتضنك، يُقبِّلك، يكشف عن وجهك، يهمس لك بكلمات لا يسمعها أحد، يجذبه الحاضرون، الذين تجمهروا مرة أخرى لأنه حدث جديد بالأمر يثير الفضول.
يغيب والدك عن الوعي، ثم يفيق، وصوت "آه" تدوي في المكان. يُبكي جميع المحيطين. وتبكي النساء في الشرفات بصوت جهور، وأنا معهم.
في هذا اليوم، تلاشت قيمة الدنيا بعيني.
تسلل الخوف والوحشة أكثر وأكثر إلى قلبي. أمسكت بهاتفي، ووددت الاطمئنان على من انقطعت معهم سبل الوصال. ولكنني -كالعادة- تذكرت أن المحبة لا تشفع، و لا مكان لي.
كان يوليو شهرًا حزينًا؛ أوله فراق، وأوسطه فراق، وآخره فراق. ولا داعي لشرحٍ لن يطيب جراحا.
بت لا أحب يوليو الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر. ويؤلمني كثيرًا ألا أحبه يا باتريك.
لروحك السلام..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة