القارئة نرمين عبيد تكتب: جنب الشباك

الأربعاء، 15 يوليو 2020 04:00 م
القارئة نرمين عبيد تكتب: جنب الشباك ميكروباص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ترى الأطفال دائما يرغبون في الجلوس "جنب الشباك". وظننت الأمر في بادئه مندرج في قائمة تراهات الأطفال وسلوكياتهم غير المبررة، ولكني سرعان ما كبرت ورأيتني أحرص كل الحرص على هذا المقعد، ثم ما تلبث أن تسير السيارة، وأشرع في مراقبة الناس، والطريق، وقراءة اللوحات المعدنية منها النفيس ومنها الرخيص، منها الجديد ومنها ما مر عليه من الزمن ما كفى فبلي.

 

الأمر أكثر فلسفة من كرسي في سيارة، والبعض ظن السبب هو: التشابه بين أي رحلة والحياة برمتها، وأرى فيه تشبيها مبتذلا مللناه جميعا.

 

السر في ذاك المقعد: ربما لأن الإنسان يغلبه الفضول أكثر مما يغلبه أي شيء آخر؛ فيريد كل مرة أن يرى الطرق والناس بصورة أشد وضوحا حتى وإن حفظ الطريق مرارا وتكرارا ...

 

والأقرب لي أن المرء يحب أن يتقدم بخطوات سريعة، ممسكاً في جهده، مسرفاً في تقدمه، فيحس عظمة التقدم، فهو يسلك طريقاً طويلا وهو جالس، وفي أحيان أخرى: واقفاً على قدميه، ولأننا بفطرتنا التي فُطِرنا عليها محبين للتأمل والتدبر ولضيق أوقاتنا وسرعة أزماننا، سُلِبنا هذه الخلقة؛ فنجد "بجانب الشباك" متنفساً للتأمل والتدبر، والنظر في السماء والنجوم، في الخلق والوجوه، في الطفل والكهل، في الأكواخ والقصور، الفقير والغني، الصحراء والحدائق.. سترى كل حال ونقيضه لأنك تراقبهم بلمح البصر. وناهيك عن التيه الذي يغوصه الفرد بعد ذاك التأمل المتقطع، فيقطع أشواطاً في خيالاته، مطلقا لها لجام الحرية، فتراه أحيانا يخيم الحزن عليه وتارة يُغْمر بالسعادة.

 

ولأننا لا نحب أن نعيش الواقع، نحب الانعزال، ونعبر عنه بأغنية نسمعها، أو كتاب نقرأه، أو هاتف تنغمس فيه، المهم أن تعيش في جزر معزولة، ولن يتحقق ذلك في السيارة إلا "جنب الشباك" فتهرب من تفاصيل الحافلة التي تنقلك، وربما الضجيج والعجيج الذي يكسوها، لتنتقل بنظرك إلى الآخرين؛ فتشفق على طفل يسير باكياً، وتتأمل عجوزا استسلم لزمنه ، وتدعوا لشاب يحمل هما، ولصاحب المحل أن يوسع رزقة و...و...و...إلخ المهم أن تعيش واقع الآخرين ولو ثوان معدودة...ويعكس ذلك تعاليا واضحا، فنحب أن نرى في تلك المشاهد العشوائية انعكاسا لحياة الآخرين ورغم أشفاقنا عليهم، فإننا نفضل أن يتوقف الأمر خلف الإحساس بهم  ثم نردد "الحمد لله أن دي مش حياتي "الحمد لله اني أراقبها فقط من "جنب الشباك".

وأخيرا، فنحن عاشقون للحرية، والحرية المرئية تمثل جزءا كبيرا من رغباتنا دوما. فأنت تريد أن ترى الطريق وترى الناس وترى السماء، فترفض أي قيد يحجب عنك الرؤية، وإن كانت تلك الرؤية بلا أهداف واضحة للجميع. ولكن يكفيك أنها مفهومة لنفسك ومريحة لخاطرك ... وإن سألك شخص ما يوما: لماذا تريد أن تجلس "جنب الشباك"؟ فابتسم في وجهه ثم أدر وجهك ناحية الشباك وتابع التأمل.

 

 







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة