أكرم القصاص - علا الشافعي

ياسر منجى يكتب:"كورونا"كيف انتشرت على طريقة "ابن داهر" وكيف نواجهها بخطة "كوتوزوف"

الإثنين، 23 مارس 2020 10:10 ص
ياسر منجى يكتب:"كورونا"كيف انتشرت على طريقة "ابن داهر" وكيف نواجهها بخطة "كوتوزوف" الدكتور ياسر منجى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من أشهر القصص التي تروى في سياق الحديث عن اختراع الشطرنج، قصة لم يؤيدها دليل تاريخي حاسم، غير أنها وردت في بعض كتب التاريخ والمصنفات الأدبية العربية.
 
وخلاصة هذه القصة أن وزيرا هنديا، يدعى"صصة بن داهر"، اخترع الشطرنج لإهدائه للملك الذى استوزره، وبعد أن افتتن الملك باللعبة، أمروزيره أن يطلب منه ما يشتهي، فقال "صصة" إنه لا يريد أكثر من إعطائه حبة قمح واحدة، توضع في الخانة الأولى من خانات رقعة الشطرنج، البالغ عددها 64 خانة، بحيث تضاعف إلى حبتين في الخانة الثانية، ثم أربع حبات في الثالثة، فثمانية، فستة عشر... الخ، وظن الملك في بداية الأمر أن وزيره قد طلب شيئا يسيرا تافها، ليفاجأ، مع توالي تضاعف عدد حبات القمح، وفقاً لهذه المتوالية الهندسية، أن مقدار القمح في مملكته لا يمكن أن يَفي بالكمية المطلوبة.
 
وقد استعان بعض باحثي الرياضيات في عصرنا الحديث بالحاسبات الإلكترونية، لتقدير عدد حبات القمح التي يمكن أن تلبي عطاء "صِصة"، فكان الناتج: 616 551 709 073 744 446 18، أي ما يزيد على (18 تريليون و446 بليار و744 بليون، و073 مليار و709 مليون حبة قمح).
 
0b4a2feb-75e0-46fe-aaf3-52981084b652
 
ومِن لعبة السجال العقلي إلى ساحات السِجال الفعلي الدموي، تأتينا قصة – مؤكدة تاريخيا هذه المرة – من وقائع السيرة العسكرية الصاخبة، للقائد الفرنسي الأشهر "نابليون بونابرت"، ذاك الذي كادت أسطورة براعتِه في لعب الشطرنج تنافس أسطورة براعتِه العسكرية، إلى درجة اقتران اسمه بافتتاحية شعبية من افتتاحيات الشطرنج، معروفة لدى المبتدئين ولاعبي المستويات الدُنيا باسم "خطة نابليون".
 
c9a43cc2-daf0-4ac7-9493-1e28d7d80d30
تفصيلية من لوحة "نابليون والكاردينال فيش جوان" يلعبان الشطرنج، للفنان الفرنسي "جيان جورج فيبر".
 
غير أن المختلف في هذه القصة، عن أغلب القصص التي كَرَّسَت لصورة "نابليون" الأسطورية، باعتباره قائدا لا يهزم، هو أنها تجسد واقعة من وقائع أقسى الهزائم الثقيلة التي مني بها "بونابرت"، بوضوح، وبساطة، وواقعية مجردة من بريق الشهرة وتأثير الدعاية.
 
هي قصة معركة معروفة لدى الفرنسيين باسم "معركة موسكو" Bataille de la Moskowa، التي اندلع قتالها بتاريخ 7 سبتمبر 1812، بين قوات"نابليون" والجيش الإمبراطوري الروسي بقيادة الجنرال "ميخائيل كوتوزوف" (1745 – 1813)، خلال سعي "نابليون" لغزو روسيا عسكرياً، في سياق حربه المعروفة باسم (الحرب النابليونية الأوربية).
 
f6133ce0-f79d-4d2d-a3f6-1d542f24cd62
لوحة "معركة موسكو في 7 سبتمبر 1812"، للفنان الفرنسي "لوي ليجيون".
 
كانت روسيا، قبل هذه المعركة بحوالي ثمان سنوات، أي عام 1804، قد انضمت لتحالف قوات الدول الأوربية المعادية لنابليون. وبعد تعقد الأحداث، وتطورسير المعارك، طيلة السنوات الثمان المذكورة، كلّف الجنرال والدبلوماسي الروسي"ميخائيل إيلاريونوفيتش كوتوزوف" بتولى قيادة الجيش الإمبراطوري، في مواجهة قوات "نابليون" التي تتفوق على الجيش الروسي في عدد الجنود وتسليح المدفعية.
 
هنا، قرر "كوتوزوف" اتباع استراتيجية عامة، تقوم على فكرة انسحاب قواته إلى عمق روسيا، مستدرِجا القوات الفرنسية للداخل، حتى يقطع طريق الإمدادات على جيش "نابليون"، بفضل مساحة روسيا الشاسعة، من جهة، وحتى يستفيد من ميزة قدرة الجنود الروس على القتال في صقيع روسيا الرهيب، الذي لم يعتد خصومهم الفرنسيون على احتمال مثله. 
 
وعنداقتراب جيش "نابليون" من موسكو، قرر "كوتوزوف"خوض معركة حاسمة، وقعت بالقرب من بلدة "بورودينو" في 26 أغسطسمن عام 1812، وبرغم خسارة الجيش الروسي لقرابة نصف عدد جنوده، فقد كبد الجيش الفرنسي خسائر فادحة، بلغت 35000 جندي، ما بين قتيل وجريح وأسير، ونتيجة لهذه الخسارة الكبيرة، عجز "نابليون" عن التقدم لاقتحام موسكو خلال تلك المعركة.
 
غير أن "كوتوزوف" لم يكتف بذلك، واتخذ في الليلة التالية مباشرة، ليلة 27 أغسطس، قراراً بانسحاب ما بقي من قواته إلى ما وراء موسكو، تاركا إياها – ظاهريا – غنيمةً سانحة لـ"نابليون". وفور نجاحه في الانسحاب، شرع "كوتوزوف" في تبني مناورة كبيرة، نجح في ختامها في التَمَركُز خلف مؤخرة القوات الفرنسية، قاطعاً عليها طريق الوصول للمناطق الروسية الجنوبية، وحارماً إيّاها تماماً من وصول الإمدادات.
 
وحين انتبه "نابليون" لوقوعه في فخ "موسكو"، حاول عرض اتفاقية سلام على القيصر الروسي، الذي رفض العرض لتفوق روسيا بفضل خطة "كوتوزوف" الانسحابية. 
 
وبعد مرور أكثر من شهر، تساقط خلاله المزيد من الجنود الفرنسيين جوعا وتجمدا ويأسا، بدأ "نابليون" في إجلاء جنوده عن موسكو في 7 أكتوبر من العام نفسِه، محاولاً بلوغ خط الإمدادات المقطوع.وهنا، كان "كوتوزوف" مستعداً، بقواته المنسحبة ظاهرياً، لِيعيد إلحاق الهزيمة بـ"نابليون" في مدينة "مالوياروسلافيتس"، مجبراً إياه على الفرار من خلال طرق غير ممهدة، ومدن مهجورة خالية من مقومات الحياة.
 
وقد خسر "نابليون" خلال هذا الفرار البائس جزءاً آخر من قواته، جراء التعرض لهجمات مباغتة، كان "كوتوزوف" يشنها عليه من طُرق جانبية، وكذلك لغرق عددٍ كبيرٍ من جنوده في نهر "بيريزينا"، وفي نهاية المطاف، لم يجد إمبراطور فرنسا بداً من الهرب منفرداً إلى بلاده، تاركاً من بقي من جنوده فريسةً لزمهرير روسيا الرهيب.
 
52a9c2ff-85b2-41f1-854a-c5667586bd77
لوحة "نابليون ينسحب مهزوماً من موسكو"، للفنان الألماني "أدولف نورثن".
 
f87ccbb5-fe46-4844-afdd-9a0a0c4156e2
النصب التذكاري للجنرال "كوتوزوف" بمدينة "سان بطرسبرج".
 
لكن، ما الرابط بين القصتين: قصة اختراع الشطرنج، بما اشتملت عليه من أحجية حسابية عجيبة، وقصة هزيمة "نابليون" الثقيلة في روسيا، بسبب استراتيجية تبدو في ظاهرها سلبية تماما؟ بصيغة أخرى: إذا ما استثنيا ولع "نابليون" بلعب الشطرنج، ومهارته فيه، وإذا ما استثنينا هذا الربط الرمزي بين مهارته مقاتلاً على الرقعة ومهارته مقاتلاً في ميادين المعارك، ماذا يمكن أن يجمع بين القصتين، المُتَخَيَّلة والتاريخية؟ 
 
مِن عجائب المحن أنها قد تفاجئنا، حين نمعن التأمل في أحوالها، باكتشاف روابط عجيبة، تجمع بين أفكار ووقائع وظواهر، قد لا نتصور أن ثمّة ما يربط بينها ظاهرياً، فإذا بها وقد أظهرت من أوجه الاتّفاق ما قد لا يتاح الالتفاتِ إليه في أوقات استشعار الأمان.
 
 جالَ شيء من ذلك في خاطري، وأنا أتدبّر في أحوال الجائحة الوبائية، التي ألمّت بالعالم مؤخراً، فأظلت سحبها الداكنة أغلب سكان الأرض، ليشملهم – ربما للمرة الأولى في التاريخ – إحساس عام بأن ثمة مصيراً مشتركاً، بات يوحد بين البشر، برغم اختلاف حظوظهم من التقدم والثراء، وأن مقايس المفاضلة، التي طالما كانت بمنزلة قوانين للفرز والتقدير بينهم، كالشهرة، والنفوذ، واتساع شبكة العلاقات، صارت هباء، لا يقدم ولا يؤخر في مواجهة فيروس لم يعرف له علاج قطعي الفاعلية بعد.  
 
ربما كان سبب هذا التفكير ما قرأته مؤخراً في بعض المصادر، التي ذهبت إلى أن كل مريض من المحتمل أن ينقل العدوى إلى شخصين آخرين – كحد أدنى – ليصير كل منهما بِدوره مرشحاً لنقلها إلى اثنين آخرين، وهكذا، بمعنى أن مسار العدى يتفرع كالتالي: 1، 2، 4، 8، 16، 32، الخ، ليكون تسلسل عدد المصابين بالتالي: 1، 3، 7، 15، 31، 63. ووفقاً لهذا التسلسل – في حال افتراض صحته - فإن العدوى بالفيروس تنتشر وفق ما يسمى بلغة الرياضيات (المتوالية الهندسية) Geometric progression أو Geometric sequence. لقد عدنا مرةً أخرى لمواجهة متوالية "صصة بن داهر"، وإن كانت مواجهة واقعية هذه المرة، انتزعتنا من أقاصيص كتب التواريخ والأدب، لنلمس آثارها الرهيبة في مختلف أقطار الأرض، دونما حاجة إلى إطلاق الخيال؛ إذ صار الواقع، في واحدة من تجلياته النادرة، منافسا شرساً لشطحات الخيال. 
 
والغريب أن الاستراتيجية الوحيدة، التي أظهرت نوعاً من الفاعلية في صد غائلة هذا الفيروس، حتى الآن على الأقل، كانت استراتيجية (الانسحاب)، من خلال الخضوع للعزل الاختياري بالمنزل، تحاشياً لمخالطة المُصابين المحتملين، وكذا بالخضوع للعزل الجبري، في حال الاشتباه في احتمالية الإصابة، ناهيك عن العزل العلاجي التام، عند ثبوت الإصابة، في جميع الأحوال هي استراتيجية سحب وانسحاب، كشفت عن درجة لا بأس بها من النتائج الإيجابية، وفقا لما يتداول من إحصائيات رسمية شرقا وغربا.
 
ها هي استراتيجية "كوتوزوف" تعاود الإطلال علينا من عمق الصقيع الروسي، لتنبهنا إلى أن الهجوم ليس دوماً خير وسيلة للدفاع، وأن ما يبدو سلبيا انهزاميا في ظاهره، قد يكون تدبيرا حكيما، يطوع المعطيات المتاحة في ضوء فهم عميق للواقع والإمكانات.
 
هي إذا حرب، بالمعنى الحرفي للكلمة، حرب علينا أن نخوضها في مواجهة هذا البلاء، حرب لها ضحاياها، وتستوجب أن نتبنى من الاستراتيجيات ما يمكن للعقل معها أن يستهدي في اختياراته ببعض قوانين المنطق، والبيانات الرياضية، وإن يَكن في سياق لا يخلو من القدرية، ولا نعدم فيه مفاجآت الصدفة والنتائج الاحتمالية المراوِغة لليقين التام. 
 
ليس عجيباً إذَاً أن يفاجئنا سجال البشرية الراهن ضد "كورونا"، بتقاطع سياقاته ووقائعه بسياقات مجالين من مجالات السِجال، العقلي والفعلي، أولهما لعبة، تتجلى فيها إمكانيات اشتباك العقل بقوانين المنطق، وتمرده عليها في الآن نفسه، والثاني قتال لا هوادة فيه، يحتشد خلاله العقل للاستفادة من كل الاحتمالات، وتسخير كافة الظروف، لإلحاق الأذى بالخصم، والخروج من النزال بأقل الخسائر الممكنة، الشطرنج والحرب.
 
بقيَ أن نتأمل أمرا، ينطبق على حالِنا في مواجهة "كورونا"، بمثل ما انطبق على سياقي القصتين السابقتين، الخيالية والتاريخية، وهو أنه ليس بالضرورة أن يكون صاحب الإنجاز في نفس شهرة ما أنجزه، ولا أن يكون المنتصر في نفس شهرة المهزوم، كلنا نعرف "كورونا"، ولكن من منا يعرف شيئاً عن ضحاياه؟ – بخلاف القريبين منهم – ومن منا يعرف شيئاً عن الجنود المجهولين، وهم بعشرات الألوف، من الأطباء، والباحثين، والممرضين، والإعلاميين، ومتخصصي التوعية، والمنخرطين في حملات المقاومة التطوعية، ورجال الدفاع المدني، والحرب الكيماوية، وعناصر الشرطة، وفرق الجيش، الذين يكافحون، كل على طريقته، شبحاً مجهولاً لا يرى، ولكن ترى آثاره الفاتكة. 
 
وأغلب الظن أنه لو ظهر علاج ناجع حاسم ضد "كورونا"، فسوف ننشغل بحفظ اسمه عن ظهر قلب، ولن ننشغل بمعرفة أسماء من يمكن أن يوفقوا في ابتكاره، اللهم إلا إذا جرى تكريمهم أو منحهم إحدى الجوائز الدولية، وسرعان ما سننساهم، كما نسينا عشرات غيرهم ممن أسدوا للبشرية أياد بيضاء في مجالات العلم والفكر المختلفة.
 
ستبقى في التاريخ ذكرى جائحة "كورونا"، بذكراها المدوية المقيتة، كما بقِيت في التاريخ أسطورة "نابليون" الذي لا يقهر، يغشي بريقها العيون عن ذكرى "كوتوزوف"، وسينسى أمر المكافحين المجهولين لـ"كورونا"، كما نسي أمر مخترع الشطرنج، وكما نسب جهده إلى من هم أكثر منه بريقا، لِيسمى إنجازه (لعبة الملوك)؛ فقد أثبتت قوانين التاريخ أنها لا تعبأ كثيراً بالوفاء لقوانين المنطق، حتى ولو عززتها ثوابت الرياضيات.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة