د. ياسر منجى يكتب: رحلة لحن عالمي أبدعه مصري مجهول

الإثنين، 03 فبراير 2020 08:26 م
د. ياسر منجى يكتب: رحلة لحن عالمي أبدعه مصري مجهول الدكتور ياسر منجى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

برغم كونه مبدعاً، أثّرَ في عددٍ من أهم فناني جيله، وترنَّم الشارع المصري بألحانه، فقد أبى حظُّه إلا أن يموت مجهولاً، بعد أن ألَّف لحناً كان يجري على ألسِنة العامة خلال ثورة 1919، ثم صار يجري على ألسنة الأُمهات تارة، وعلى ألسنة المازحين الماجنين تارةً أخرى!

كان اللحن يصاحب كلاماً أوَّلُه مما يجري على ألسِنة العوام دون حرج: "خُد الـ(...) واسكُت، خُد الـ(...) ونام، أمك السيدة وأبوك الإمام". ثم ينقلب اللحن بعد ذلك إلى كلام في الوطنية، وعن الثورة، وعن الحرية، يأتي على ذكر "سعد زغلول"، و"عدلي يكن"، واللورد "كرزون".

ومن شذراتٍ قلائل متناثراتٍ في طوايا ذاكرة الصحافة المصرية، نعلم أن صاحب اللحن كان يُدعَى "بدوي أمان"، وأنه كان مجاوراً في الأزهر الشريف، واشترك وهو لم يزل بعد في الثانية عشرة من عمره في تقليدٍ احتفالي - اندثر بِدَورِه من مصر منذ عقود – وهو (زَفّة الفَجر)، التي كان طلاب الأزهر الصغار يخرجون فيها فَجر يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يحملون المشاعل، ويترَنّمون بالتواشيح الدينية، على نغمات الطبول والدفوف، ليقطعوا المسافة الفاصلة بين الجامع الأزهر ومسجد الحسين. وكان الصبي "بدوي أمان" وقتها أحد ضاربي الدفوف.

 

بدوى امان
بدوى امان

 

وفي واحدة من (زَفّات الفجر)، رآه الشيخ "حسن الحويمي"، أحد فحول الطرب في الرُبع الأخير من القرن التاسع عشر. وأُعجِب الشيخ بمهارة الصبي ضارب الدف، فضمه إلى فرقته نظير أجرٍ طيب. ومن حينها، لازم الصبيُّ شيخَه في المجالس والأفراح، ليلتقي بعمالقة الموسيقى، من أمثال "يوسف المَنيَلاوي"، و"عبده الحامولي"، و"محمد سالم"، و"محمود البولاقي"، وظل مع أستاذِه إلى أن توفي، فالتقطته السيدة "نعيمة المصرية".

وعاش الشيخ "بدوي" يلقن المغنين والمغنيات الألحان التي ورثها عن معلمه الشيخ "حسن الحويمي". ثم بدأ يلحن بنفسه ألحاناً جديدة للصالات، التي كانت منتشرةً في "الأزبكية"، بين شارِعَي "وِشّ البِركة" – "نجيب الريحاني" حالياً – و"عماد الدين". ومن الأزبكية إلى الإسكندرية، عمل "بدوي أمان" مع "سيدة الإسكندرانية"، التي كان شبابُ ذلك الزمن يطرزون اسمها على أكمامهم لفرط شهرتها وافتتانهم بها. وهناك، التقى "أمان" بـ"سيد درويش"، لتتوثق بينهما العلاقة لمدةٍ قصيرة.

وبعودته للقاهرة، كانت دعوة "مصطفى كامل" الوطنية في أوجها، مما أدى لتقلُّص نفوذ التواشيح التركية على الغناء المصري، ولرواج الطقاطيق الصغيرة ذات الألحان المتحررة من البَشارِف. ورأى "أمان" أنه سيموت جوعاً ما لم يساير التطور الوطني الجديد، فراح يجرب تلحين الطقاطيق الصغيرة حتى برع فيها، منافساً في ذلك ملحناً آخر، هو "محمد علي لعبة".

وعندما انتقلت المطربة الشهيرة "نعيمة المصرية" بفرقتها إلى كازينو "مونت كارلو" في "روض الفرج"، أخذت تقدم كل يومٍ فصلاً تمثيلياً. وفي أحد هذه الفصول، تأخذ ابنة السلطان شقيقها الرضيع وتهرب به إلى الجبال، لإنقاذه من القتل على يد عمهما الطامع في المُلك. ويبكي الرضيع، فتحاول الأخت تهدئتَه بهذه الكلمات المُغَنّاة: "خد الـ(...) واسكت خد الـ(...) ونام/ خد الـ(...) يا نونو وادبح لك حمام/ آه لو يسمعونا أولاد الحرام/ ييجوا يدبحونا ونموت والسلام"

ولحن الشيخ "بدوي أمان" الكلمات، فقوبِلَت من الجمهور بإعجابٍ شديد، وأصبحت أكثر الأغاني وقتها ذيوعاً وانتشاراً.

ومع اندلاع ثورة 1919، حَوّر الشعب كلمات الأغنية، على نفس اللحن الذي وضعه "بدوي أمان"، مع الاحتفاظ بمطلعها (خُد الـ(...) واسكت)، ليزيد انتشار الأغنية انتشاراً كاسحاً بفضل هذا الحدث الوطني الفارق.

ومع مرور السنين، وانحسار مَدّ الأغنيات والأناشيد التي رافقت مسيرات ثورة 1919 ومظاهراتها، ألقى النسيان بظلاله على الأغنية، ليتبقى مَطلعُها وحده، تردده ألسنة الصِبية العابثين، والأمهات اللائي يُهَدهِدن أبناءَهن، والمازحين الهازئين بغيرِهم، مقطوعاً عن سياقه السياسي وعن أصله الفني معاً.

 

ياسر منجى
ياسر منجى

 

وفي عام 1957، يلتقط المايسترو الأمريكي "رالف مارتيري" Ralph Marterie (1914 - 1978) اللحنَ المجهول المؤلف، ليقدمه للعالم تحت اسم "شيش كباب " Shish-Kebab، وليحقق من خلاله نجاحاً ساحقاً؛ إذ انتشر اللحن انتشار النار في الهشيم، ليصير على رأس المعزوفات التي تتصدر قوائم الإذاعات والمراقص والملاهي شرقاً وغرباً، فضلا عن تضمينه في الموسيقات التصويرية لمجموعة من الأفلام خلال عقدي الخمسينيات والستينيات.

وتزداد حِدّة المفارقة، عندما نقل بعضُ مُوَزّعينا هذه الصيغة الأمريكية للحن، باعتبارها (أحدث موضة) موسيقية، دون التفاتٍ لِكَونها بضاعتُنا وقد رُدَّت إلينا، ولكن بعد أن دَمَغَها ختم الحيازة الأجنبية. ومن أشهر الأفلام المصرية التي اتخذت من هذا اللحن تيمة أساسية، لدرجة البدء به في المقدمة الافتتاحية، فيلم "إسماعيل يس في مستشفى المجانين"، الذي أُنتِج عام 1958، بعد عامٍ واحد من انفجار دوي "شيش كباب".

وقد بلغ دخل الموسيقي الأمريكي من حق الأداء العلني لهذا اللحن، خلال المدة ما بين عامي 1957 و1959 فقط، قرابة مليون جنيه مصرى بتقديرات تلك الفترة. وظل يُدِرُّ المزيد خلال السنوات التاليات. ذلك أن قانون "حق المؤلف" يحفظ حق التأليف للمبدع طيلة حياته، ثم يحفظه لورثته مدة خمسين عاماً، وبعدها يصبح المؤلَّف - بفتح اللام - مِلكاً شائعاً للجميع. وهذا السبب في أن لحناً واحداً، أو كتاباً واحداً، يمكن أن يجعل من صاحبه مليونيراً في غمضة عين، في البلاد التي تحترم الملكية الأدبية وتطبق قوانينها بصرامة.

غير أن المفارقة تبلغ ذروتها، حين نطالع كتابات المتخصصين في توثيق التراث الموسيقي، وبعض مشاهير النقاد، لنراهم يذهبون في توثيق تراث "بدوي أمان" مذاهب شتى، فينسبونه تارةً إلى مجهول، ويُصَنِّفونه تارةً أخرى ضِمن تراث خالد الذكر "سيد درويش"، وتارةً ثالثة ضِمن تراث الشيخ "يونس القاضي"، صاحب نشيد "بلادى بلادى"، فضلاً عن الخلط بين عدة صِيَغ نًصّيّة وتصرُّفات لحنية، كانت بمثابة تنويعات عليه، دون تحديدٍ لتاريخ كل صيغة أو لِهُوِيّة مَن غناها. نجد نموذجاً لذلك فيما ورد بأحد أعداد جريدة "الشروق" – على سبيل المثال – نُشِرَ بتاريخ 2 مارس 2019، مِن أن: "مركز توثيق التراث الحضاري بمكتبة الإسكندرية سجل الأغنية باعتبارها "غير معروفة التاريخ. لكن الأكيد أن النسختين من ألحان الشيخ سيد درويش والأرجح أنهما من نظم رفيقه المبدع بديع خيري رغم زعم البعض أن الكلمات تحمل بصمات الشاعر الشهير محمد يونس القاضي".

وفي مقالٍ له بعنوان "نعيمة المصرية، نُشِر في جريدة "المصري اليوم" بتاريخ الأحد 20 يناير 2019، جَزَم الناقد السينمائي الأستاذ "طارق الشناوي" بالآتي: "تلك الأغنية للمطربة نعيمة المصرية، انطلقت قبل نحو 100 عام، فهي، كما هو واضح، مواكبة لثورة 19 التي قادها سعد باشا زغلول، التي عبرت عن رغبة المصريين في الاستقلال، (خد الـ...) تأليف بديع خيرى وتلحين سيد درويش، ولهما أيضا مع نعيمة العديد من اللقاءات تخللتها الأوبريتات مثل (كيكى كيكو)".

وفي المقال نفسِه، نجد خلطاً بين كلمات الأغنية التي غنتها "نعيمة المصرية، وتلك التي غناها – على نفس اللحن - المطرب الشهير "زكي مراد"، والد الفنانة الكبيرة "ليلى مراد"؛ إذ يقول "الشناوي": "(نينتك مصر يا ابني/ اصحى عنها تنام/ الليلة افديها بمالك/ ماتسوقش عليها دلالك/ صونها ح تصون أحوالك/ خليك عاقل ياعنيا / إنت تحن عليا/ إنت تحب الحرية والاستقلال التام/ نينتك مصر يا ابني اصحى عنها تنام/ خد البزة واسكت/ خد البزة ونام). كم كانت نعيمة المصرية صائبة في دعوتها لمصر أمس واليوم وغدا".

والصواب أن الكلمات السابقة وَرَدَت بتنويعة "زكي مراد"، أما كلمات أغنية "نعيمة المصرية فكانت على النحو التالي: "خد الـ(...) واسكت.. خد الـ(...) ونام/ بكره تعيش وتكبر.. وتبقى تمام/ فرفش يا ضنا أمك.. قوم رد عليا/ في حضني أضمك.. وأرخي الناموسية/ بكره ييجي عمك.. يديك العيدية/ بس ماتعيطشي.. خلي أبوك ينام/ إن شالله أشوفك.. في وسط الجدعان/ ولابس طربوشك.. نازل في الميدان/ وتبذل مجهودك.. وتفدي الأوطان/ وتمجد بلادك.. وتعزّ الأهرام".

ويتضح مما سبق أن هذه النسبة، التي تربط ما بين هذه الأغنية و"سيد درويش"، لدى الأستاذ "طارق الشناوي"، وغيره ممن يرون هذا الرأي، قد اعتمدت فقط على ما هو معروف من ارتباط "نعيمة المصرية" بـ"درويش" في مرحلةٍ من مراحلها الغنائية. فهو إذن ربطٌ ترجيحي، قائمٌ على نِسبة المجهول من التراث للمشاهير، وهي ظاهرة معروفة في تاريخ الإبداع، وبخاصةٍ في الشِعر؛ حيث كانت الأبيات والقصائد الجيدة المجهولة المصدر تُنسَب إلى فحول الشعراء، حين يعجز الرواة عن تحديد أصلها. بل إن كثيراً من الشعراء والقصاصين المغمورين كانوا يعمدون إلى تأليف الأبيات والقصائد، ويروونها باعتبارها من تأليف بعض مشاهير الأدباء؛ حتى تشتهر وتحظى بالاهتمام، بعد إذ يأسوا من التفات الناس إليهم.

ولما كان الشيخ "بدوي أمان" قد عاش شيخوخته مجهولاً، ثم طواه النسيان بعد رحيله لعقودٍ طويلة، فقد لَحِقَه ما لحق بغيره من مَغامير الموهوبين المجاهيل، الذين لم يُسعِفهم نصيبٌ من الصيت والحظ، لِتُنسى علاقته بتراث "نعيمة المصرية"، وليُنسى دوره في دعم حركة المسرح الغنائي في مطلع القرن العشرين.

والغريب أن تلك الصرخة الأخيرة، التي كان "بدوي أمان" قد أطلقها في مايو من عام 1958، قُبيل وفاته بقليل، وتداولتها آنذاك بعض الصُحُف والمجلات المصرية، لم تشفع له لاستعادة حقه، ولم يأبه أحدٌ لمجرد محاولة تعويضه مادياً أو أدبياً، عن لحنه الذي دار وقتها حول الكرة الأرضية. بل إن هذه الصرخة، برغم نشرها وتداولها في صحافة الخمسينيات – ومنها ما نشرته مجلة "المصور"، في عددها الصادر بتاريخ 8 مايو 1958، لم تنبه أحداً من مؤرخي الموسيقى، ولا من مُوَثقي التراث النغمي الشعبي المصري ودارسيه، كي يحاول توثيق سيرة هذا الفنان المَنسي، ولملمة شَتات تراثه، لمحاولة فهم سياق تطوراته العجيبة، التي ارتَحَلَت به من دنيا المسرح إلى هدير مظاهرات ثورة 1919، مروراً بفكاهات الماجنين، وانتهاءً بقوائم الألحان العابرة للقارات. رحم الله صاحب اللحن الأصلي، وعوَّض أصحاب الحقوق الضائعة خيراً.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة