"طقوس الإشارات والتحولات".. عبقرية النص وعشوائية المعالجة

الجمعة، 06 سبتمبر 2019 06:00 ص
"طقوس الإشارات والتحولات".. عبقرية النص وعشوائية المعالجة جانب من العرض
محمد عبد الرحمن

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كُثر الحديث فى الآونة الأخيرة عن أزمات المسرح المصرى بخاصة، والعربى عامةً، وتعددت الرؤى حول الأسباب التى تقف وراء هذا الحال الذى وصل إليه أبو ألفنون، بين ندرة النصوص الجيدة مرة، وتراجع جهات الإنتاج مرة ثانية، وغياب الطواقم التمثيلية الكفء مرة ثالثة وهكذا.
 
لكن الحديث عن المسرح فى العالم العربي، ليس منفصلاً عن الحديث عن المسرح بصفة عامة، وفى أغلب أرجاء العالم، فالأوضاع متشابكة ومعقدة على نحو عالمي، وتكاد الأزمة تكون وأحدة، وليست بعيدة عن بعضها.
 
 ومع الاعتقاد فى ندرة النصوص الجيدة فى ظل توافر القدرات التمثيلية والإمكانيات الفنية، اتجه كثير من فنانى المسرح إلى المعالجات ألفنية لنصوص مسرحية ذائعة الصيت، لكبار الأدباء المصريين والعرب والأوربيين، التى سبق إنتاجها من قبل وربما أكثر من مرة وفى أكثر من سياق.
 
ولهذا السبب، ازدحمت خشبات المسرح خلال الفترة الأخيرة بالعروض المعاد معالجتها عن عروض سابقة، لجوءًا إلى النص المتماسك والمعروف بجودته، لكنّ أغلب هذه المعالجات خرجت على نحو مرتبك وعشوائي، وجاءت الصورة الأخيرة لهذه المعالجات لتشير إلى أنها أزمة رؤية وليست أزمة نصوص، الأمر الذى ينطبق على عرض «طقوس الإشارات والتحولات» لفرقة ألفيوم المسرحية.
 
جرى تقديم العرض مؤخرًا ضمن فعاليات مهرجان المسرح القومى فى دورته الثانية عشر، على مسرح الجمهورية، من بطولة فرقة ألفيوم المسرحية، وإنتاج الهيئة العامة لقصور الثقافة، وألفائز بأربع جوائز ضمن جوائز المهرجان هى (جائزة لجنة التحكيم الخاصة للمخرج سامح الحضري، جائزة التمثيل الأولى "نساء" للفنانة جيهان رجب، جائزة لجنة التحكيم الخاصة للأداء المتميز فى التمثيل للفنان محمود عبد المعطي، شهادة تميز فى التمثيل للفنان حسام خالد).
 
ومع هذه الجوائز التى تعد إشادة بالعرض، هل حقًا كان على القدر الذى يأمله الجمهور من تجديد وابتكار؟ خاصة وأنه مقتبس من نص قوى ومتماسك، وذى أبعاد فلسفية وجدلية بين السلطة الدينية والدنيوية، وقمع الشهوات وكبح جموح الرغبات لدى رجال الدين.
 
«إشارات الطقوس والتحولات» نص لواحد من كبار كتاب المسرح العربي، وهو الأديب السورى سعد الله ونوس، كذلك أحد النصوص التى جرى تقديمها مرات، الأمر الذى كما يمثل تحديًا عند التفكير فى تقديمه مرة أخرى، يمثل أيضًا عاملًا مساعدًا أمام صناع العمل كفرصة للابتعاد عن أخطاء المعالجات السابقة، لكن يبدو أن هذه المرة فقد النص روحه أثناء معالجته فى عرض المخرج سامح الحضري.

النصُّ أولًا

تدور أحداث العرض فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وتحديدًا فى عهد الوالى ناشد راشد باشا فى سوريا، إذ اشتد الخلاف بين مفتى الشام وكبير الأشراف عبد الله، فحأول الأول إهانة الثاني، بإرسال قائد الدرك (الأمن)، ليضبط الثانى بصحبة إحدى الغوانى فى منزله، ومن هنا تتصاعد الأحداث ويحدث تغيير جذرى فى حياة الأبطال وفوضى فى المدينة وظهور خفايا النفوس، وإخفاء الرغبات تحت قناع الأخلاق والسلطة.
 
والأحداث الأخيرة استلهمها الكاتب مما ورد فى مذكرات المجاهد فخرى البارودي، الذى روى كيف استعر الخلاف بين مفتى الشام ونقيب الأشراف فيها أيام الوالى راشد ناشد باشا، وكيف تجأوز المفتى الخلاف الشخصى ومد يد العون للنقيب حين أوقع به قائد الدرك آنذاك، وقبض عليه وهو يقصف مع خليلة له، وهى النواة التى بنى عليها النص، واستقيت منه الأحداث والشخصيات، وأن اختلف التأويل والمغزى عما ذكره البارودي.
 
«مصائب قوما عند قوما فوائد» مقولة عربية شهيرة، تقال على الناس الذى يستغلون من يقع فيه الغير من مصائب لصالحهم، وتحقيق أهدافهم، وبهذا الاعتبار تعامل "ونوس"، مع جدلية صراع السلطة الدينية والسياسية، وشهوات الإنسان الجنسية، ليخلص الكاتب إلى أن الحقيقة والسلام لهما طريقهما المتعددة والمتباينة أيضا، لكنهما يقفان عند جوهر كل إنسان وصدق نواياه.
 
فى النص المسرحى قسم «ونوس» أحداثه إلى فصلين الأول جاء بعنوان "المكائد"، والثانى "المصائر"، فأراد من خلالها أن يظهر الشهوات المكبوتة عند الإنسان من خلال أحداث تتصارع فيها الناس كلا يتجه نحو مصيره المحتوم، من تحقيق رغبات، وإظهار انفلاتات نفسية وأخلاقية فى ظل مجتمع صاغ علاقته اعتماد على كتمان العواطف والأحاسيس، ومن ثم جاء ببشر محملين بعيوب وتشوهات نفسية جعلتهم غير أسوياء.
 
ويظهر «ونوس» تسلط رجال الدين فى عصر الدول الإسلامية خاصة فترة الاحتلال العثمانى التى تدور الأحداث فى عهدها، إذ يستغل «المفتي» الواقعة سألفة الذكر، وتتهيأ أمامه ألفرصة للتخلص من قطبى السلطة فى المدينة "الدينية" و"الأمنية" ومن ثم يصبح أمامه ألفرصة سانحة للوصول إلى قمة السلطة بتخلص من نقيب الأشراف وقائد الدرك، بضربة وأحدة معا، فهو يعلم أن وقوفه إلى جانب "النقيب" يكسبه تأييدًا وشعبية واسعة لدى الناس، كما أن إثباته خطأ ما نسبه قائد الدرك إلى النقيب فى ضبطه بوضع مخل مع إحدى الغواني، وأن الأخيرة ما هى إلا زوجة الأخير، كفيل بعزل قائد الدرك من منصبه، ومن ثم تصبح الساحة فارغة أمامه من أى منافسين على السلطة، ويبقى عامة الناس مغيبين عن كل هذا، فهم لا يعلمون أنه الذى يقف وراء كل هذه الأحداث والمصائب.
 
النص أيضا أبرز موقف الدين من الجنس، والصراع الذى يتمالك رجال الدين، فكيف يظهرون رجالا أتقياء يرتدون ثوب ألفضيلة وكأنهم ملائكة منزلة، بينما هم فى النهاية بشر يحملون شرور ونزوات دفينة ورغبات جنسية.
 
ويبدو هذا الصراع واضحا من خلال جاء على لسان "المفتي" فى المشهد التاسع "ص 119": «كيف قبلت هذا الخور والضعف! أنا الذى برعت فى مقأومة أعدائي، والمكر بحسادي، أترك وخمًا من العشق يمكر بي، ويضيعني، وما شأنك أيها الرجل بالهوى بجنونه، للهوى صبية وحمقى، أما أنت.. فهل يحق لك أن تلبس على نفسك وهمًا وهيامًا...! آه.. إنى استيقظ من غفلتى وفتوري، ولكن فى قلبى وخزة، وفى حشاشتى أنينا. لن أصغى إلى الأنين، ولن أبإلى بوخزات القلب وهذه السألفة طويناها. الليلة، طويتها. نعم.. إنى أطويها».
 
ومنح «ونوس» المرأة مساحة كبيرة داخل العمل، بوصفها كيانًا إنسانيًا له أفكاره وعواطفه التى تحكمه وتتساوى فيه مع الرجل، ليدين المجتمع الذكورى والسلطة الأبوية التى تحرم الحب على المرأة، بينما تبيحه بكافة أشكاله للرجل من خلال «الماسة» التى تقول فى المشهد الثالث عشر "ص 139": «أعرف أنى خاسرة، وأن هذه الصبوة مستحيلة فى بلد كل الناس فيها عبيد ومساجين، لكن ما زلت أرغب أن أكون بحرًا لا بركة آسنة. لا أريد أن يملكنى أحد، وليتنى لا أملك أحدًا، الكل يريد أن يضع ختمه علي، وأنا أريد أظل طليقة بلا صدري. هذا هو ألفناء. إنى أفنى فيك. وأنى أولد جيدا فى فنائي».
 
إذن جسّد سعد الله ونوس فى نصه، التحولات التى جرت فى مدينة بأكملها بعد واقعة ضبط نقيب الأشراف مع غانية، راصد كم التناقضات التى تعصف بالنفس البشرية، وحأول توضيح الصراع النفسى الذى قد يعيشه الإنسان بين رغباته الداخلية وما يفرضه عليه منصبه أو وظيفته، وأن رجال الدين بشر خاطئون، لهم مشاعر ربما تتناقض مع أقوالهم، كما حأول الوصول لفكرة أن كل إنسان لديه جوهر سامى لا يمكنه أن يلمسه إلا من خلال التجربة.
 
فيما جاء «عرض الحضري» مغايرًا فى معالجته المسرحية، ولم يصل إلى جوهر النص الذى قصده «ونوس»، لنكون أمام رؤية عشوائية وسطحية فى أطروحتها وبنيتها ألفنية، كما سيتضح.

العرض ثانيًا

فى «عرض الحضري» اختزل جوهر الصراع فى قضية كثرة الفتاوى وتضاربها التى تقود المجتمع إلى الفوضى والهلاك، ويصدرها متشددون فى ألفكر، يظهرون وكأنهم رجال للفكر الوسطي، كذلك صورت المعالجة الصراع النفسى الدائر داخل نفوس شخوص العمل فى إطار وأحد وهو علاقة زوجية، لنصبح أمام قصة انتقام امرأة من زوجها الخائن، بعد أن تطلب الطلاق، وتتحول إلى امرأة لعوب، مما دفع إلى ارتباك المُشاهد خلال العرض. 
 
اللافت فى المعالجة التى قدمت أيضًا للنص، هو وجود شخصية "الراوي" الذى استخدمها المخرج فى مشهدين، بداية العرض ونهايته، دون أن يعرف أحد ما دورها وما ألفائدة من وجودها فى العرض؟ ولم تكن ذات تأثير وظهرت كأنها مقحمة على العرض.
 
على صعيد اللغة، اعتمد المخرج على المزج بين العامية والفصحى، ورغم أن النص الأصلى استخدم بعض المفردات العامية فإنها وردت بحرفية متقنة، واقتصرت على بعض المفردات، لكنها كانت مُربكة للمشاهد خلال العرض، وتجد شخصية مثل "ورد" تتحدث نصف الجملة بالعامية ونصفها الآخر بألفصحى، فى خلط عشوائى كبير فى استخدام اللغة، ناهيك عن الأخطاء البينة فى النطق.
 
لم تكن سينوغرافيا العرض أوفر حظًا من النص، فمن المعلوم أن المخرج لا يمكن بمفرده أن يترجم النص الدرامى إلى عرض إلا إذا تكاثفت جهوده مع مجموعة من المساعدات الأساسية كالإضاءة والموسيقى، والديكور والماكياج، وهى عوامل حُسبت على الحضرى ولم تكن فى صالحه.
 
كمشاهد، سيتبين له عدم الدقة فى توزيع الإضاءة على خشبة المسرح، وستتسم المشاهد بعدم وضوح شخصياتها مع اختلاف أدوراهم، وسترى أبطال العرض بعيدين عن بؤر الضوء، فضلًا عن أخطاء التنفيذ وتأخرها عن حركة الممثلين.
 
كما أن توظيف ألوان الإضاءة كالأحمر والأزرق لم يكن لها دلالة واضحة للأحداث أو الشخصيات، فأحيانا تظهر "الماسة" داخل بؤرة الضوء الحمراء، رغم أن شخصيتها تمثل الحرية والآنطلاق، وهو ما ينطبق على دلالة اللون الأزرق، والعكس يحدث مع "المفتي" الذى يفترض أنه يمثل السلطة والحقد والقوة، فيأتى فى بؤرة زرقاء!، وظهرت الإضاءة فى مجملها وكأنها توزيع إضاءة لأحد الأفراح الشعبية، (مع الوضع فى الاعتبار تجهيزات مسرح الجمهورية الجيدة).
 
المجاميع أيضا ظهرت بشكل عشوائي، ففى مشهد الاستعراض الصوفى الذى جاء إثر إعلان المفتى فتوى إهدار دم الغواني، انتقامًا من "الماسة"، بدا كل فرد فى المجاميع تائهًا، وكأنهم لم يتدربوا من قبل، إلى درجة أن بعضهم كان ينظر لحركة الآخر حتى يقوم بأداء الحركة المطلوبة منه، وكأنه جاء لتوه ليقدم الاستعراض، فظهر الاستعراض بشكل غير منضبط المرة وغير متناسق.
 
الميزة الواضحة فى العرض، التى تستحق الإشادة هى الأداء التمثيلي، فرغم تفأوته بين أغلب أبطال العمل، فإن أداء الفنان محمود عبد المعطى والفنانة جيهان رجب لشخصيتى (المفتى والماسة) كان مميزًا، وظهرا بشكل جيد فى العرض، مع أداء صوتى مميز، زاد من قوة حضورهما وهو ما استحقا عليه جائزة لجنة التحكيم.
 
فى النهاية، جاء العرض ضعيفا مقارنة بنص مسرحى جيد، وجاءت أطروحته بعدة كل البعض عن جوهر الفكر الذى خلُص إليه «ونوس»، ربما يبرر بعض الأخطاء والارتباك فى العرض، ضعف الإمكانيات وميزانيات إنتاج عروض هيئة قصور الثقافة، ومؤسسات وزارة الثقافة عموما، والتى ظهرت فى الديكورات الثابتة لأغلب عروضها، لكنها ليست تبرير لضعف المعالجة بالتأكيد.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة