44 رسالة بين عبدالناصر وتحية خلال حرب فلسطين 1948.. مقاتل على جبهة الحب.. خطابات رومانسية من ساحة المعركة.. حنين لأيام الخطوبة وخروجات السينما.. ومشاعر متدفقة على شاطئ البحر الميت

الأحد، 13 يناير 2019 11:00 ص
44 رسالة بين عبدالناصر وتحية خلال حرب فلسطين 1948.. مقاتل على جبهة الحب.. خطابات رومانسية من ساحة المعركة.. حنين لأيام الخطوبة وخروجات السينما.. ومشاعر متدفقة على شاطئ البحر الميت جمال عبد الناصر وتحية كاظم
إعداد - أحمد عرفة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
صلبا وشامخا عاش، وثابتا ومنتصب القامة غادر، وما زال صدى صوته يتردد فى الأرجاء، ورائحته تطوف على الأنوف، وشىء من ملامحه ينعكس على زجاج العيون، وفى أعماق المخيلة والذاكرة.
ناصر
 
بدا طوال الوقت بقامته الفارعة وهيكله العريض وتقاسيم وجهه الجادة، كأنه تمثال مصرى قديم يناطح السحاب ويسدّ عين الشمس. وربما بفضل هذه الوفرة فى الهيبة والبسطة فى الجسم، عاش المصريون فى كنفه ست عشرة سنة آمنين مطمئنين، حتى وهو ينزف مرارة وحسرة جراء الهزيمة، أو تتدفق أنفاسه وتتفلّت روحه مع دماء جنوده فى اليمن وغيرها. لم يشعر المصريون لوهلة أن جمال عبدالناصر ضعيف أو مهزوم، ولم يروه إلا أبا أو أخا كبيرا، وجدارا عريضا وسامقا تستند إليه ظهورهم، وترتاح فى ظله جباههم المتعرقة، وأياديهم الخشنة، وكان الرجل يعلم هذا جيدا، ويستقبل رسائلهم بوعى وعمق، فلم يجرح أسطورته النابتة فى الوعى الجمعى، لهذا ظل رمزا أقرب إلى فرسان الأساطير والحواديت القديمة، وغاب وجهه الإنسانى الناعم، زوجا وحبيبا وأبا وواصلا للأرحام.
 
وراء ستارة العظمة والوقار التى فردتها إطلالة «ناصر» أمام عيون محبيه، كان هناك قلب غض وأملس كأوراق الورد المبتلة بالندى، بكل ما تفرضه هذه الوداعة من رقة وحنان ومحبة صافية وخوف ناعم. لم يكن مسموحا أن تتسرب هذه الصورة للمقاتلين على الجبهات المفتوحة، والعمال والفلاحين فى مصانعهم وحقولهم، واليتامى والأرامل الذين يستمدون طاقة المواصلة من صلابته، لكن كان هذا الوجه مكشوفا وواضحا للدائرة الصغرى، تحية والأبناء والأسرة. ولحُسن الحظ سجله عبدالناصر نفسه بماء روحه وخطّ يده.
جمال عبد الناصر (6)
 
عشرات الخطابات الكاشفة لحصة ضخمة من شخصية عبدالناصر وروحه، تبادلها مع زوجته السيدة تحية كاظم، وابنتيه هدى ومنى، ووالده عبدالناصر حسين، وشقيقيه الليثى وعز العرب، وعدد من أصدقائه ورفاقه فى الجيش، خلال حرب فلسطين وفترة حصاره فى «الفالوجا»، اختصتنا بها كاملة ابنته الكبرى هدى، بالتزامن مع الاحتفال بعيد ميلاده الـ101، لتضع أمام أعيننا صورة وافية لشخصية الزعيم، وقلبه الذى شققته المحبة والشوق، وروحه التى تنساب على الأوراق كما انسابت الدماء على جبهة الحرب.
 
أهم ما توفره هذه الحزمة الضخمة من الخطابات، أنها تُعيد هندسة السياق التاريخى والحكائى المحيط بشخصية الزعيم، وتُصحح كثيرا من الأخطاء التى دارت حول سيرته، حتى على ألسنة شخصيات بارزة وفى كتابات فريق من عتاة الكُتاب وألمعهم ذكرا، فمثلا أورد الكاتب الراحل أنيس منصور فى أحد كتبه أن الوالد عبدالناصر حسين كان يقبل يد ابنه جمال، لكن الرسائل التى بحوزتنا تنسف هذه الرواية، وتكشف مدى بعيدا من احترام الابن للوالد بقدر ما تكشف مقدار المحبة التى ربطت قلبى «ناصر» وتحية، والرومانسية التى كانت تُغافل الرصاص ودانات المدافع وأجواء الحرب والحصار فى الفالوجا، وتقطر على الأوراق كلاما وأحاسيس واشتياقا ساخنا كزفير الوحدة فى ليالى الفراق الطويلة.
 
فى الرسائل يبدو جمال عبدالناصر عاديا جدا، ليس الأسطورة المستحيلة ولا البأس الذى لا يخالطه خوف، مجرد زوج يحب، وأب يخاف، وطفل يحن إلى أحضان ذويه، هكذا تتفتت السطوة ورباطة الجأش أمام اشتياق لـ«تحية»، أو وحشة يستشعرها لوجهى هدى ومنى، أو سؤال على عمه خليل حسين، الذى تربى معه فى القاهرة بعد وفاة أمه عقب ولادة شقيقه الثالث شوقى، وقتما كانت الأسرة تعيش فى الإسكندرية، ولأنه كان معتادا على تبادل الرسائل معها، كتب لها بعد موتها أيضا، قائلا: «جعلتنى آلامى وأحزانى الخاصة فى تلك الفترة أجد مضضا بالغا فى إنزال الآلام والأحزان بالغير فى مستقبل السنين».
 
وتكشف الرسائل أيضا عمق المودة بين الزعيم الراحل وأصدقائه، ومحبته لعبدالحكيم عامر الذى جاوره فى حرب فلسطين، وكان دائم الحديث عن حالته الصحية فى خطاباته للآخرين، بعد إصابته خلال المعارك، ورغم أن هذه المراسلات تنحصر فى فترة حرب فلسطين وما تلاها من حصار لكتيبة جمال عبدالناصر بـ«الفالوجا»، فإنها تمثل تكثيفا حقيقيا لشخصية عبدالناصر وروحه، ومرتكزا أساسيا لفهم نظرته لمحيطه الاجتماعى، وخريطة علاقاته الإنسانية، وإلى جانب الخطابات تأتى مذكرات قرينته تحية كاظم، التى اختصتنا بها «هدى» أيضا، لتكشف جانبا مهما من كواليس الحياة الزوجية للزعيم، وطريقة تفكير زوجته، التى لا شكّ تأثرت بأفكاره وتطلعاته ورؤاه السياسية والاجتماعية والثقافية. خاصة أنها بدأت كتابتها فى العام 1973، بعد أقل من ثلاث سنوات على وفاة «ناصر»، ومن ثمّ فإن هذه المذكرات تمثّل وثيقة حية مهمة، ومعاينة مباشرة للأحداث على مقربة من وقوعها، وشهادة عميقة الوعى من أكثر الناس اقترابا وشراكة للزعيم الراحل فيما يتجاوز نصف عمره.
 
فى هذا الملف الذى يتوزع على حلقتين شاملتين. نقترب من روح جمال عبدالناصر، كما سجلها بخطّ يده، ومن أفكاره ورؤاه وكواليس بيته، كما سجلتها قرينته وحبيبة عمره، وهو اقتراب لا يخص السياسة كما جرت العادة فى تناول أمور «ناصر»، وإنما هو محاولة لاستكشاف خريطة الحب والمودة فى قلب الزعيم.
 
 
غادر جمال عبدالناصر مصر فى مايو 1948، ضمن الوحدات والتشكيلات العسكرية المشاركة فى حرب فلسطين.. بدأ الأمر بإعلان قيام دولة إسرائيل فى 15 مايو، لتشتعل الأجواء العربية وتُجيش دول المنطقة الجيوش للقضاء على الدولة المحتلة، واستعادة أرض الفلسطينيين وحقوقهم، خرج عبدالناصر مع الخارجين، حاملا سلاحه وحلمه باستعادة الكرامة والأرض، وتاركا خلفه زوجة وابنتين.
 
 
 

رسائل ناصر وتحية فى العيد 101 لميلاد الزعيم

 
- قصة لقاء اليوزباشى بحب العمر.. وكيف تأخر زواجهما 3 سنوات بسبب شقيقة تحية؟
- ناصر لـ«تحية» من حرب فلسطين: صورتك لا تفارق خيالى.. وأذكر كل أيامنا السعيدة
- شقيقى رفض جمال وقلبى كان ميالا لليوزباشى.. وكتبت مذكراتى قبل 11 سنة من وفاته
- تحية: حكيم طلب خُطب والده من السادات وكنت مستعدة لدفع أى مبلغ مقابلها
- تفاصيل علاقة «ناصر» بالليثى وشوقى وعزالعرب.. ووصيته لزيارة زوجة عبدالمنعم رياض
- أختنق بالبكاء حتى وأنا أضحك.. ولم يهزنى طوال سنوات الرئاسة إلا زوجى الحبيب
 

عشرات الخطابات المليئة بالحب والشوق والرومانسية والعتاب.. رسالة الحب الأولى فى 12 يونيو 1948.. و45 يوما أطول فترة جفاء بين الحبيبين

 
كان عبدالناصر متزوجا من السيدة تحية كاظم منذ يونيو 1944، وخلال 4 سنوات من الحياة المشتركة رُزق الزوجان بابنتين، هدى ومنى. واقترب اليوزباشى «نقيب» من رتبة الصاغ «رائد»، وخلال حرب فلسطين شغل موقع رئيس أركان حرب الكتيبة السادسة، ضمن قوة اللواء الرابع، ورغم قوة الحشد العربى واشتعال الحماس فى صدور الضباط والجنود، بشكل كان يُبشر بأن المعركة لن تكون أكثر من نزهة سريعة، تنتهى بدحر المحتل واستعادة فلسطين، سارت الأمور على غير ما توقع الجميع، ومُنيت الجيوش العربية بهزيمة نكراء، وتطور الأمر إلى حصار اللواء الرابع، ومنه عبدالناصر وكتيبته.
 
لا يمكن التنبؤ بالحالة النفسية لـ«عبدالناصر» خلال أسابيع الحصار، لكن ما نعلمه الآن عنه، بعد خبرتنا به رئيسا وزعيما وداعية للقومية العربية، أنه كان مجروحا بالهزيمة، مُثخنا بطعنات ضياع الأرض، وبالتأكد كان مطعونا بخنجر البعد عن الزوجة الحبيبة، وعن البنتين اللتين تحبوان فى سنواتهما الأولى، هذا ما يمكن أن نتوقعه، ولم يكن باستطاعتنا تأكيده، إلا عبر رسائل عبدالناصر نفسه، وما سجلته زوجته تحية كاظم فى مذكراتها.
صور-وثائق-ورسائل-جمال-عبد-الناصر-وزوجته-2
 
صور-وثائق-ورسائل-جمال-عبد-الناصر-وزوجته-3
 
صور-وثائق-ورسائل-جمال-عبد-الناصر-وزوجته-6
 
صور-وثائق-ورسائل-جمال-عبد-الناصر-وزوجته-12
 
صور-وثائق-ورسائل-جمال-عبد-الناصر-وزوجته-21
 
صور-وثائق-ورسائل-جمال-عبد-الناصر-وزوجته-27
 
صور-وثائق-ورسائل-جمال-عبد-الناصر-وزوجته-30
 
صور-وثائق-ورسائل-جمال-عبد-الناصر-وزوجته-38
 
صور-وثائق-ورسائل-جمال-عبد-الناصر-وزوجته-39
 

منحة الأرشيف والذاكرة

 
لم يكن أى من المحيطين بـ«ناصر» والمتعاملين معه يعرف أن ثورة ستندلع بعد أقل من أربع سنوات، وأن الضابط الصغير، الذى سيعبر بالكاد من رتبة الصاغ إلى البكباشى «مقدم» سيكون وقود هذه الثورة وقائدها، وهو ما يمنح أهمية كبرى لرسائله خلال فترة الحرب، وامتنانا للظروف التى حفظتها لتكون وثيقة تاريخية مهمة، والأمر نفسه مع مذكرات تحية كاظم، التى كتبت ومزقت ما كتبته مرتين، قبل أن تستقر فى الثالثة على مشاركة ذاكرتها مع العالم، وحفظ حصة كبيرة من روح الزعيم وتفاصيله للتاريخ والأجيال اللاحقة، حتى نقرأ الآن ونحن نحتفل بالعيد 101 لميلاد جمال عبدالناصر، وثيقة تاريخية شاملة عن الزعيم وحياته وعصره ومواقفه، والأهم عن بوصلة قلبه، وكيف كان يشعر بالمحبة ويعبر عنها.
 
بحسب المعلومات المتوفرة، كانت السيدة تحية كاظم ترفض نشر مذكراتها أو ظهورها للعلن، لهذا ظلت حبيسة الأدراج عدة عقود، منذ كتبتها فى سبتمبر 1973، والتزاما برغبتها حفظت الأسرة هذه الوثائق فى خزينة أحد البنوك، حتى قررت ابنة الزعيم الكبرى، هدى عبدالناصر، استعادتها من النسيان قبل فترة، بموافقة أشقائها الثلاثة، منى وخالد وعبدالحكيم وعبدالحميد، وكشف جوانب لم تكن معلومة عن الزعيم وحياته وعلاقاته، وبفضل الأرشفة الجيدة لرسائل «ناصر»، والذاكرة الصافية لزوجته، وصلتنا المنحة كاملة.
 
اشتغلت «هدى» على أوراق والدها ورسائله، وعلى جوانب من مذكرات والدتها وحكاياتها، وأصدرت سلسلة من الكتب المتتابعة تحت عنوان «جمال عبدالناصر.. أوراق خاصة»، خرجت منها خمسة أجزاء، ويتبقى جزء سادس وأخير، وفى السنة الأولى من القرن الثانى فى تاريخ الزعيم، اختصتنا أستاذة العلوم السياسية هدى عبدالناصر بجانب كبير من مراسلات والدها، وشهادة والدتها على حياتهما الخاصة، وعلى السياق السياسى والاجتماعى لمصر فى حقبة من أكثر فتراتها ازدهارا وثراء، لنقرأ معكم اليوم حكاية «ناصر» بعيدًا عن الإغراق فى السياسة، والتورط فى الصراعات والعناوين الكبرى، قراءة من مساحة إنسانية صافية ورائقة، يحضر فيها الحب بطلا، وتتقدم المشاعر على سواها من الاعتبارات، متجاوزة حدود الوقت والجغرافيا، حتى لو كانت هذه الحدود حصارا عسكريا خانقا فى أرض محتلة، كما كان الوضع فى «الفالوجة» قبل أكثر من 60 سنة.
 
 

عبدالناصر وتحية

 
كان مخططا أن تحصل «اليوم السابع» على حوار من الدكتورة هدى عبدالناصر، أستاذ العلوم السياسية وابنة الزعيم الراحل، احتفالا بالعيد 101 لميلاد الزعيم الذى يوافق الخامس عشر من الشهر الجارى.. تواصلنا معها فاعتذرت لأسباب خاصة، وبدلا من الحوار أمدتنا بكثير من الوثائق والخطابات الأصلية، بخطى والديها، واختصتنا بكثير من المعلومات والتفاصيل التى توفر معايشة كاملة لحقبة لم نعشها، ولم تعشها هدى، وبالتأكيد لا يعرفها أغلب القراء.
 
أبرز ما لفت انتباهنا للوهلة الأولى من كومة الوثائق الضخمة، حزمة رسائل قديمة بخط منمق، تبدو كأنها مصفوفة بآلة كاتبة أو ماكينة طباعة كلاسيكية. بدا لاحقا من مطالعتها أنها رسائل الزوج جمال عبدالناصر حسين، والزوجة تحية محمد كاظم، المتبادلة بينهما فى واحدة من أكثر فترات مصر والمنطقة العربية شحنا وسخونة، وأكثر فترات علاقتهما خوفا وهلعا، وتحديدا بين أواخر مايو 1948 ومارس 1949. الفترة التى شهدت حرب فلسطين، وتخللها حصار كتيبة «ناصر».
 
تبدو الرسائل رسمية نوعا ما، إذا قرأناها على خلفية ما وصلت إليه لغة الخطاب وطريقة الحوار فى الوقت الراهن، لكنها لا تخلو من أجواء حميمية تختلف تماما عن شخصية عبدالناصر المعروفة لمحبيه ومتابعى تاريخه، الرسائل موجزة نوعا ما، بعبارات مُكثفة وجُمل أنيقة، لكنها تختزن بين سطورها طاقة فياضة من مشاعر الحب والاشتياق والقلق، وأحيانا تتفجر هذه الطاقة المكتومة لتعبر عن نفسها صراحة، بكلمات وعبارات غاية فى الرومانسية، لكنها فى رومانسيتها تُخلص لأجواء الحرب وإيقاع الرصاص والقنابل، وتحافظ على وقارها كأنها لقاء حبيبين فى ساحة معركة، ولا تتجاهل محنة الوطن وهموم الأصدقاء، محبة بديعة فى صفائها، رائقة فى اختراق القلب، وصادقة جدا فى وطنيتها.
 
كان «جمال» متيمًا بـ«تحية».. ربما لا يعرف كثيرون حدود العلاقة، خاصة أنه حافظ طوال سنوات رئاسته لمصر على أن تبقى حياته الشخصية بعيدة عن العيون، وبالكاد يعرف الناس ملامح زوجته، أو يتذكرون صورة لها معه، لكن ما حاول «ناصر» إخفاءه وهو يتصدر ساحة السياسة والسلطة فى مصر، أظهرته الرسائل التى خطّها بيده وهو يقف خلف خطوط النار، ويقضى يومه فى الحرب وليله فى الحب وتذكر الأحبة، وهكذا إذا تصفحت قائمة رسائله إلى الزوجة والحبيب وأم الأبناء، ستكتشف حدود العلاقة، وكأنك وضعت يدك فى قلب «عبدالناصر»، وأخرجت ما فيه من ورد وقبلات.
 
يحمل الخطاب الأول تاريخ 12 يونيو 1948. وفيه يعبر عبدالناصر عن اشتياقه لزوجته، ويقص عليها أبرز ما رآه وحققه فى حرب فلسطين، متمنيا أن تحل الهدنة سريعا كى يتمكن من اقتناص إجازة خاطفة للقائها، وبقدر هذا الاشتياق كانت «تحية» تتقلب على فراش القلق، بدا هذا واضحا من ردها السريع بعد أقل من 4 أيام على تسلم خطابه، وفى رسالتها عبرت عن اشتياقها وافتقادها له، ثم طمأنته على ابنتيهما، هدى ومنى «لم يُنجبا وقتها إلا هما»، وحكت له جانبا مما تفعله البنتان، كأنها تستدعيه من فلسطين لتضعه داخل سيناريو حياتهن اليومية.
 
بعد يوم واحد من تسلمه رسالتها، يكتب «عبدالناصر» إلى زوجته، مفتتحا رسالته بالتعبير عن اشتياقه، وافتقاده لها وللبنتين «سلامى الزائد وأشواقى وقبلاتى لك»، ثم يتحدث عن الأموال التى يرسلها إليها، ويدعوها لأن تعطى بعض المال لشقيقيه الليثى وعزالعرب «كانا يدرسان وقتها». وفى اليوم نفسه يكتب رسالة أخرى، يعتذر فيها عن عدم وصول المبلغ المتفق عليه، بسبب خطأ حدث خلال كتابة الخطاب وإرساله. ويشرح الخطأ بأنه كتب اسمها على الخطاب «تحية كوتر» بدلا من تحية كاظم، شارحا طريقة حل هذه المشكلة.
 
لم يبرر عبدالناصر فى الرسالة خطأه فى اسم زوجته، وعلى الجانب الآخر تفهمت «تحية» الأمر، فالمعركة حامية الوطيس، والإيقاع متسارع وضاغط على الأذهان والأرواح. تسلمت رسالته وكتبت له سريعا، تشكره على اهتمامه البالغ بها وبانتيهما، وتدعوه للعودة سريعا إلى مصر، إذ لم تتمكن من زيارة زوجة زميله عبدالمنعم رياض «أصبح رئيس أركان الجيش لاحقا واستُشهد فى 1969» حسب طلبه منها، وتريد أن تذهب معه للقائها قريبا. وبعد يومين يرد «ناصر» برسالة كاشفة عن حجم رومانسيته، متمثلا بيت عنترة الشهير «ولقد ذكرتك والرماح نواهل منّى/ وبيض الهند تقطر من دمى» متحدثا عن أن صورتها لا تفارق وعيه ولا خياله، رغم أجواء الحرب المستعرة. متابعا: «فى هذا الوقت، فى شهر يونيو بالذات، الشهر الذى ارتبطنا فيه.. أذكر السنين التى قضيناها معًا، وأجدها كلها أياما سعيدة، وأشعر أنك كنت السبب فى هذه السعادة»، مختتما بوعد أن يزور مصر قريبا، خاصة أن النصر فى فلسطين يقترب، وانتهاء الحرب أصبح مسألة وقت فقط.
 
 

القلوب لا تصوم

 
مرت خمسة أيام على خطاب عبدالناصر المؤرخ بـ25 يونيو، لتكتب «تحية» فى 30 من الشهر نفسه رسالة رومانسية، ترد على غزل الصاغ المقاتل الذى يُرسل أشواقه من ساحة الحرب. وتعبر تحية فى رسالتها عن حبها العميق له، واشتياقها لرؤيته وسماع صوته، مؤكدة أن كل أيامها معه سعادة ومحبة، وتطمئنه على حالها وحال ابنتيهما، وأن الأموال التى يرسلها كافية ولا تحتاج للمزيد.. وصلت الرسالة ولم ينتظر «ناصر» إلا يوما واحدا قبل أن يرد بخطاب عاطفى آخر، مبشرا زوجته بأنه سيتواصل معها هاتفيا خلال أيام، ليسمع صوتها ويطمئن عليها، داعيا إياها لعدم القلق، وطالبا منها أن تبلغ والده بموعد الاتصال حتى يكون موجودا ويسمع صوته. وفى الوقت نفسه كانت تحية تكتب خطابا آخر، بعد أقل من يوم على خطابها السابق، بالرومانسية والمحبة نفسيهما، وإلى جانب تعبيرها عن الحب والاشتياق والفقد، تحدثت عن «هدى ومنى».
 
5 أيام اضطرت «تحية» لانتظارها حتى تسمع صوت زوجها فى الهاتف، لكنه تأخر فى الاتصال، وكان طبيعيا أن يتسبب الأمر فى قلق كبير لها، وسط أجواء الحرب الدائرة فى فلسطين، فكتبت خطابا بتاريخ 5 يوليو تعبر فيه عن قلقها من انقطاع الرسائل، وعدم اتصاله هاتفيا، وعن اشتياق بنتيه لسماع صوته، خاصة هدى، مختتمة بالقول: «كلمنى كتير بالتليفون، واكتب لى كتير يا حبيبى.. رمضان قرب، كل عام وأنت بخير».
 
مرت الأيام وجرى الاتصال الهاتفى، بعده كتب «ناصر» رسالة لزوجته، معبرا عن سعادته الغامرة بسماع صوتها، وأنه حريص دائما على أن يظل صوتها قريبا، لأنه يشتاق إليها، متابعا: «كانت مفاجأة سارة لما طلبت منزل السيد بك يوسف بالتليفون، حتى يبلغك أننى بخير.. لقد كانت مفاجأة سارة عندما سمعتك تردين علىّ». ثم يؤكد استعداده لإرسال أى مبلغ مالى تطلبه لتغطية احتياجاتها فى غيابه.
 
بعد ثلاثة أيام تكتب «تحية» فى أول أيام رمضان، بتاريخ 8 يوليو، مهنئة زوجها بحلول الشهر الكريم: «اليوم أول رمضان، كل عام وأنت بخير.. إنه رمضان غريب علىّ، أين البهجة والمرح؟ أين الحياة؟ كلها تعبر عن جمالى حبيبى، فأنت حياتى وكل شىء لى فى الوجود». لم تخل الرسالة من تعبير عن الشوق والافتقاد، وعبارات حب عذبة تؤكد أن القلوب لا تصوم، حتى لو حل شهر الصيام. خاصة أن رمضان فى هذا العام يختلف عن سوابقه، لأن زوجها الحبيب ليس إلى جانبها كما اعتادت، وتتمنى أن يجمعهما القدر فى عيد الفطر المبارك.
 
صامت تحية ساعات قليلة بعد رسالتها الأخيرة، ثم كتبت فى ثانى أيام رمضان معبرة عن رغبتها فى رؤية زوجها، وتمنيها أن يقترب موعد اللقاء. وبعد أربعة أيام أخرى كتبت تحكى عن موقف مع ابنتهما هدى: «قلت له راح تعملى إيه فى اليهود؟ فقالت راح أضربهم وأضربك أنت». وفى الرسالة نفسها أكدت له أنها أرسلت النقود المطلوبة إلى شقيقيه الليثى وشوقى، وتطلب منه فى ختام رسالتها أن يكتب إليها كثيرا، ثم تشكره وتدعو له: «أشكرك يا حبيبى لتقديرك شعورى.. أدعو الله أن يحفظك، ويعيدك لنا سالما منتصرا بإذن الله».
جمال عبد الناصر (1)
 

فاطر على الحب والحرب

 
بعد يومين من تسلمه آخر رسالة، كتب عبدالناصر لزوجته فى 15 يوليو، بادئا بالتعبير عن المحبة والاشتياق كعادته، ثم حاول تلطيف أجواء البُعد بشىء من المزاح. فأخبرها أنه يفطر فى رمضان بسبب ظروف الحرب الدائرة على أراضى فلسطين، وعندما يعود إليها فى مصر سيقضى صيامه، لكنه سيختار أيام الشتاء حتى يفطر فى الخامسة مساء، ثم يشرح لها أسباب عدم اتصاله بها أو كتابته لها فى الأيام الأخيرة.
 
فى اليوم التالى مباشرة ردت «تحية» برسالة رومانسية، تتحدث فيها عن معاناتها النفسية والشعورية خلال انقطاع رسائله وأيام عدم التواصل بينهما، وتشدد على وجوب أن يداوم على مراسلتها بكثرة وسرعة، لأنها لا تستطيع الصبر على غيابه، وفى الرسالة تؤكد أنها نفذت طلبه بزيارة زوجة صديقه وزميله فى الحرب عبدالحكيم عامر.
 
انقطع «عبدالناصر» مشغولا فى الحرب وأجوائها عدة أيام، ثم عاد إلى فسحته المحببة مع الرومانسية والتعبير عن عواطفه تجاه زوجته، فكتب فى 23 يوليو مؤكدا لها أنه يجلس على شاطئ البحر متذكرا مواقفهما معا، واللحظات الرومانسية الجميلة التى كانت تجمعهما، وأنه بخير ولا ينقصه إلى لقاؤها وابنتيهما فى القريب العاجل، ثم يبشرها بأنه سيترقى لرتبة صاغ «رائد» خلال أيام.
 
فى رسالتها التالية شرحت «تحية» آخر مستجدات الأسرة وأحوال البنتين، وطمأنته على شقيقيه الليثى وشوقى، اللذين يزورانها بشكل دورى، ثم عبرت عن اشتياقها له وانتظارها لاتصاله. بعدها حصل «ناصر» على إجازة سريعة رأى فيها زوجته وابنتيه ووالده وشقيقيه، ثم عاد إلى ساحة المعركة، وبعد أسبوعين تقريبا من آخر رسائله كتب فى 10 أغسطس معبرا عن سعادته واطمئنانه بعدما رآها هى وابنتيهما. وفى رسالتها التالية أشارت «تحية» إلى خطابه الذى وصلها يوم 13 أغسطس، متأخرا عن موعد كتابته ثلاثة أيام كاملة، وعبرت عن افتقادها الشديد له، وأن «البيت مظلم من غيره» ولا تستطيع الحياة بشكل طبيعى فى غيابه.
 

لوعة الحبيب المنتظر

 
فى خطاباتها المتتابعة كانت «تحية» حريصة على إرسال صور هدى ومنى ضمن الرسائل، تخفيفا لوطأة البُعد والاشتياق، وهو ما انعكس على معنوياته وشعوره النفسى، فكتب لها شاكرا إرسالها صور البنتين والمفاجأة الجميلة التى مثلها هذا الأمر له، ثم يغازلها بعبارات الحب والقبلات.
 
انقطعت الرسائل أسبوعا، ثم عادت برسالة من «ناصر» تتضمن مفاجأة، إذ قال إنه رغم أجواء الحرب لم ينس أن يشترى الهدايا لها ولابنتيهما، وأنه حرص على زيارة القدس فى 22 أغسطس لهذا الغرض، وبعد 5 أيام أخرى كتب مستكملا مفاجأته، إذ أخبرها بموعد إجازته المقبلة، وانتظاره الملتهب لهذا الموعد، طالبا منها الاستعداد للقاء بطريقة خاصة، وأنه يشتاق لرؤيتها تتنقل فى المنزل كما اعتاد عليها، ثم اختتم رسالته بالسؤال عن شقيقيه الليثى وشوقى.
 
بعد رسالتيه المتتاليتين تبدلت الأوضاع، فبعدما كانت «تحية» تشكو نُدرة رسائل زوجها وانقطاعه عنها أياما طويلة، أصبح الزوج الملتاع هو من يشكو القلق وانعدام الوصل، فكتب فى 31 أغسطس، بعد 4 أيام من آخر خطاباته، شاكيا عدم استقباله أى رسائل من «تحية»، وأن القلق بات يساوره بقوة، ويشك أن مكروها حدث لها أو لواحدة من البنتين، وتضمن الخطاب عتابا من الحبيب للمحبوب، مذكرا لها بأنها كانت ترسل له خطابا كل يومين، لكنها توقفت عن هذا وتركته للقلق، ثم ختم رسالته بإعلانه عن هديته لـ«هدى» التى اشتراها من القدس، وهى «بستيليا وشوكولاتة».
 
لم يتغير الوضع، ظل جمال فى حيرته وواصلت تحية غيابها، فكتب بعد 3 أيام مؤكدا أنه لا يستطيع تحمل هذا القلق، بالضبط كما لا يمكن أن تمر عليه عدة أيام دون أن يكتب لها معبرا عن حبه وشوقه للقاء. وبعد يوم واحد تكتب الزوجة مبررة انقطاع رسائلها بأنها كتبت له بالفعل، وأرسلت ما كتبته، ولا تعلم ما إذا كانت هذه الرسائل وصلته أم ضاعت فى طريقها إليه، واختتمت الرسالة بتأكيد سعادتها الغامرة بقرب عودته إلى مصر، وانتظارها بشوق لرؤيته والائتناس به.
جمال عبد الناصر (7)
 

الشوق يكبر بعد اللقاء

 
حصل «ناصر» على إجازته المقررة فى موعدها، والتقى زوجته وابنتيه وباقى أفراد أسرته، ثم عاد إلى فلسطين وأرض المعركة فى الأسبوع الأخير من سبتمبر، ورغم اللقاء فإن شوقه لم يخمد، وكأن الشوق يكبر باللقاء، فكتب بعد عودته بساعات، بتاريخ 25 سبتمبر، ليطمئن على زوجته وابنتيه، ويخبرها بموعد إجازته المقبلة 25 أكتوبر. ثم أوصاها باصطحاب «هدى ومنى» إلى حديقتى الحيوان والأسماك، حتى يخرجا من الحالة النفسية السيئة المسيطرة عليهما بسبب غيابه عنهما، ولم ينس أن يُطمئنها على صحته، وعلى مجريات الحرب والأوضاع فى فلسطين.
 
بعد ثلاثة أيام ترد «تحية»، مؤكدة أن الشوق يكبر باللقاء فعلا، إذ عبرت أن أساها لفراقه وانتهاء الإجازة سريعا، وشوقها لإجازته المقبلة، إذ إن البيت أصبح مظلما بعدما غادره، ولم تنس أن تطمئنه على «هدى ومنى» اللتين يلعبان ويمرحان، مختتمة الرسالة بنكهة رومانسية: «لك قبلاتى الزائدة، وقبلات هدى ومنى.. اكتب لى جوابات كثيرة يا جمالى».
 
فى مطلع أكتوبر كانت قد وصلت فترة الغياب إلى 6 أيام، فزاد قلق «تحية» على زوجها، لتكتب له فى 1 أكتوبر معبرة عن قلقها بسبب عدم اتصاله، ورغم هذا ظل «جمال» غائبا، وظل الخوف يتمدد فى صدرها، لتكتب له مرة أخرى متسائلة عن حاله، ومعبرة عن شوقها لسماع صوته، وأن درجة قلقها تزداد كلما طال الانتظار، وتتمنى أن يتصل بها قريبا، ثم نخبره بأنها نفذت رغبته واصطحبت البنتين إلى حديقتى الحيوان والأسماك، هذا القلق دفع عبدالناصر إلى تجاوز الآثار الضاغطة لحصار «الفالوجة»، والكتابة لها فى 6 أكتوبر، مبررا أسباب انقطاع رسائله، ومؤكدا لها أنه بخير، ثم حدد لها موعدا للاتصال بها هاتفيا.
 
لم تكد «تحية» تتهلل مع تسلم رسالة «ناصر» ومطالعتها موعده المحدد للاتصال الهاتفى، حتى باغتها بخبر سيئ فى اليوم التالى، إذ كتب معتذرا عن الاتصال فى الموعد، بسبب ظروف قاسية ألمّت بكتيبته، إلى درجة لن تمكنه من الذهاب إلى الأماكن التى تتوفر فيها الهواتف، وحتى تصل إليها الصورة كاملة استعرض لها جانبا من الأوضاع وما يعانيه فى ساحة المعركة، واختتم رسالته بالتعبير عن محبته واشتياقه لها وللبنتين.
 
الأوضاع التى شكا منها «ناصر» كانت سببا فى تجفيف كثير من خطوط اتصال الكتيبة السادسة، التى يرأس أركانها، وربما بسبب الحصار وضغوطها كانت مسارات التواصل تتعطل، ولم تصل رسالته لـ«تحية» فى موعدها الطبيعى، فكتبت له فى 8 أكتوبر خطابا تعبر فيه عنه قلقها بسبب عدم اتصاله حتى الآن، وتؤكد أنها لا تعرف سبب التأخر، والأمر يشغلها ويسبب لها قلقا كبيرا، طالبة منه أن يرسل لها خطابا ليطمئنها عليه، حتى يهدأ قلبها تماما ولا تشعر بالقلق.
 
ساعات فقط بعد إرسال خطابها، ووصلتها رسالة منه، فكتبت له فى 8 أكتوبر مؤكدة استلام خطابه، وتكشف «تحية» ارتياحها للاطمئنان عليه، وأن رسالته ستكون سببا لأن تذهب للنوم مسرورة وهادئة، لأن قلبها اطمأن إلى أنه بخير ولم يُصب بأى سوء، وبلمسة رومانسية قالت له إنها اشترت ساعة خلال الآونة الأخيرة، كى لا يستغرب كثيرا من ذكرها المتكرر للوقت.
 
بعد 4 أيام يعاود جمال الكتابة، بتاريخ 12 أكتوبر، معبرا عن سعادته الغامرة بنجاح شقيقيه الليثى وعز العرب فى الامتحانات.
وفى اليوم التالى تكتب «تحية» رسالة جديدة، تخبره فيها بوصول هديته التى أرسلها إليها مع أحد أصدقائه، كما تحكى له عن ابنتيهما وما تفعلانه بجانبها خلال كتابتها لسطور الرسالة، وبقدر من الدلال والاشتياق قالت إن حديثه المتباعد لها فى الهاتف لا يكفى للاطمئنان وتهدئة شوقها، وإن عليه أن يكتب لها كثيرا ودائما.
6417-1
 

عيدية الحبيب البعيد

 
رغم تعدد الرسائل وتكرارها وتقارب مواعيدها على مدى أكثر من خمسة شهور، كانت رسالة عبدالناصر لـ«تحية» فى أول أيام عيد الفطر، الأكثر أسى وإثارة وصدقا وشفافية، وإيلاما للقلب أيضا.
 
يعتذر «ناصر» فى خطابه عن عدم استطاعته الوفاء بوعده السابق بأن يعود إليها فى عيد الفطر المبارك، بسبب تطورات الأوضاع وتعقد الظروف فى جبهة الحرب، مؤكدا لها أنه كان حريصا جدا على أن يقضى هذا العيد معها، فى منزلهما وبين ابنتيهما، لهذا فإنه يشعر بالحزن ويعتصره الأسى لأن العيد يمر وهما بعيدان، ويؤكد الحبيب البعيد أنه يقضى هذه الأيام فى تذكر كل الأعياد السابقة التى مرت عليه بصحبة حبيبته.
 
أيام قليلة من رسالته المشحونة بالحزن والأسى، قبل أن يكتب «ناصر» رسالة أخرى مثيرة للألم، فرغم احتمال الوحدة فى العيد ومواصلة حساب الأيام انتظارا للإجازة التى كانت مقررة فى 25 أكتوبر، يفاجئ الزوج زوجته فى رسالة بتاريخ 17 أكتوبر، قبل أسبوع واحد تقريبا من موعد الإجازة، بأنه لن يكون معها فى الموعد، وأن الإجازة تأجلت قليلا بسبب ظروف المعركة وتطورات الحرب فى الأراضى الفلسطينية. وحتى يعوضها عن قدر من هذه الخسارة، حدد لها فى الرسالة موعدا لمهاتفتها وسماع صوتها هى والبنتين.
 
أجرى «ناصر» اتصاله وسمع زوجته وطمأنها عليه، ثم دخلا فترة قطيعة باردة بشكل مفاجئ. انقضى قرابة شهر منذ آخر تواصل بينهما، قبل أن يكتب لها فى 11 نوفمبر معتذرا عن طول الغياب، وعدم قدرته على الكتابة أو الاتصال، بسبب تعقيدات الحرب وما تشهدته من تطورات متسارعة وقاسية، بل إن الأمر يأخذ بُعدا أكثر إيلاما وهو يخبرها بأنه قد لا يتمكن من كتابة رسائل جديدة أو الاتصال بها مجددا خلال الفترة المقبلة، بسبب استمرار التطورات الحربية وتنامى الظروف الصعبة، وفى الرسالة نفسها يُرسل مبلغا كبيرا، وكأنه يتحسب للمفاجآت التى قد تمنعه عن أسرته فترة أطول من الشهر الأخير.
 
رغم التطورات ودخول الحصار مرحلة خانقة، ناور «ناصر» ظروفه المحيطة وكتب لزوجته بعد 6 أيام، طمأنها على صحته واستقرار الأوضاع نسبيا، واعتذر عن القلق الذى حملته رسالته السابقة. على الجانب المقابل لم ترد «تحية» على هذه الرسائل، أو ربما ردّت وضاعت رسائلها فى زحام المعركة وإحكام خناق الحصار على الكتيبة السادسة. هذه القطيعة دفعت «ناصر» للكتابة مرة أخرى فى 21 نوفمبر، سائلا عن أحوال زوجته وابنتيه، ومؤكدا أنه بخير ولا شىء يدعو للقلق بشأنه، وأنه يتابع أخبار الأسرة بشكل كبير من خلال الأصدقاء، وأوصى بعضهم بالاتصال بهم والاطمئنان عليهم بشكل دورى.
 
لم تستطع خطابات عبدالناصر على مدى الأسابيع الأخيرة تبديد القطيعة، ظلت رسائل «تحية» غائبة، وظل القلق متمددا فى قلبه، فكتب لها فى 23 نوفمبر رسالة جديدة، معاتبا لها على الغياب والتوقف عن الكتابة له، قائلا بلهجة حزينة ومتأسية فى رسالته: «لم أستلم منك خطابات منذ خمسة وأربعين يوما، ولكن عبدالحكيم يطمئننى عليكم باستمرار».
جمال عبد الناصر (4)
 

مذكرات تحية كاظم

 
ضمن باقة الوثائق التى اختصتنا بها هدى عبدالناصر، نسخة من مذكرات والدتها السيدة تحية كاظم، بدأت كتابتها فى سبتمبر 1973، بعد ثلاث سنوات تقريبا من وفاة الزعيم جمال عبدالناصر.
 
فى هذه المذكرات تكشف قرينة الرئيس الراحل جوانب عديدة من الحياة المشتركة، وكواليس الأسرة، ورؤى عبدالناصر وأفكاره، وتستعيد ذكرياتها مع الزوج والحبيب، ولحظات الألم والفرح، وفترات الغياب والشوق. مستعرضة كثيرا من تفاصيل ست وعشرين سنة وثلاثة أشهر عاشتها مع «ناصر»، من زواجهما فى يونيو 1944 حتى رحيله فى سبتمبر 1970. بدءا من انطباعاته عن الاحتلال والأحزاب وعلاقة السياسيين بالملك والإنجليز، مرورا بحرب فلسطين وحصار «الفالوجا»، وصولا إلى توليه الرئاسة وما مرّ به من مواقف مفصلية، فى حرب اليمن، ونكسة يونيو 1967، وأحداث أيلول الأسود بين الفلسطينيين والأردنيين، حتى محطة الرحيل فى خريف 1970.
 
رأى جمال عبدالناصر الفتاة المصرية من أصول إيرانية بالصدفة، فمال قلبه نحوها، وقرر التقدم لخطبتها. وتحكى «تحية» فى مذكراتها ردّ فعلها عندما علمت بالخبر، وموقف أخيها الرافض لهذا الزواج، ثم تراجعه عن رفضه لاحقا، وطبيعة اللقاءات والنزهات التى جمعتها بخطيبها الضابط الشاب، ورسائله لها قبل الزواج وبعده. ورغم أن هذه المذكرات يتجاوز عمرها 45 سنة، فإنها ظلت حبيسة الأدراج ولم تُنشر بعد كتابتها، وحتى الآن لا يعلم كثيرون من الناس شيئا عنها، وبفضل ما توفره من تفاصيل وكواليس ومعلومات ومشاعر ومواقف ورؤى، خاصة معرفة «ناصر» بتدوين تحية لبعض المواقف والتفاصيل من حياتهما، وعدم اعتراضه على الأمر، وهى المادة التى شكلت هيكل المذكرات لاحقا. وفى عيد الميلاد الـ101 للزعيم الراحل، تُمثل أوراق تحية كاظم صيغة جديدة للاحتفال، باستعراض وجه لا يعرفه كثيرون عن عبدالناصر.
عبد-الناصر-وزوجته-ديكوبيه
 
لا شكّ فى أن مشاعر تحية كاظم كانت مرتبكة ومختلطة، وهى تجلس إلى مكتب عبدالناصر بعد ثلاث سنوات من رحيله، لتسجل ذكرياتهما وجوانب من قصة الحب والحياة المشتركة، وتتحدث عن الحبيب والزوج ووالد الأبناء بضمير الغائب. وبدا هذا واضحا فيما سجلته فى صدر المذكرات: «ستكون الذكرى الثالثة لرحيل القائد الخالد جمال عبدالناصر.. زوجى الحبيب. لم تمر علىّ دقائق إلا وأنا حزينة، وهو أمام عينىّ فى كل لحظة عشتها معه.. صوته، صورته المشرقة، إنسانيته، كفاحه، جهاده، كلامه، أقواله وخطبه. أى مع الذكريات أبكيه بالدموع، أو أختنق بالبكاء، وحتى إذا ضحكت فإن شعورى بالاختناق بالبكاء يظل مستمرا».
 
وتُورد «تحية» توثيقا لحياتها الحافلة مع الزوج الراحل، وشعورها خلال أكثر من ربع القرن قضياها معا. قائلة: «عشت مع جمال عبدالناصر ثمانى سنوات قبل الثورة، وثمانى عشرة سنة بعد 23 يوليو 1952.. لقد تزوجنا فى 29 يونيو سنة 1944، أى عشت معه ستا وعشرين سنة وثلاثة أشهر، وبالنسبة لى الآن أعيش مرحلة ما بعد رحيله، فقد عشت معه مرحلتين، قبل الثورة وبعدها، والمرحلة الثالثة أعيشها بعد رحيله، ولم يرها.. آه، ما أصعبها، يا لها من مرحلة قاسية من كل الوجوه، فراقه وافتقادى له، فإننى لم أفتقد أى شىء إلا هو، ولم يهزنى طوال الثمانى عشرة سنة إلا أنه زوجى الحبيب، لا رئاسة الجمهورية ولا حرم رئيس الجمهورية».
 
هذه الحياة العادية جدا، كأية زوجة وأم، لم تمنع تحية من إجلال «ناصر» والاحتفاظ له بتقدير يُطاول تقدير الشعب، بل إنها لم تستطع تجاوز أثره فيها وفى المجتمع، فكانت تناديه بـ«الرئيس»، وتفسر هذا الأمر بالقول: «لقد اعتدت أن أقول الرئيس، لأننى أشعر أنى لا أستطيع أن أقول غير الرئيس، وسأظل أقولها»، ثم تتحدث عن سنواتها الطويلة التى كانت مليئة بالمفاجآت قبل رحيل الرئيس، مفاجآت وأحداث، لكنها بالنسبة لها لم تكن صعبة أو ضاغطة. فى كل سطر يتبدّى كيف كانت سعيدة، بل تقول بوضوح: «كنت سعيدة مرحة، وفى أصعب المآزق التى شاهدتها كنت أحيانا أضحك من المصيبة التى ربما تحل بى، لكنها مرت كلها على خير والحمد له».
جمال عبد الناصر (3)
 

11 سنة بعلم ناصر

 
بدأت تحية كاظم كتابة مذكراتها الكاملة عن حياتها مع عبدالناصر بعد وفاته، لكنه كان يعلم بالأمر. لم ير «ناصر» مذكرات زوجته مُجمّعة، لكنه رأى كثيرا من تفاصيلها منثورة ومتفرقة طوال 11 سنة قبل وفاته. وتحكى «تحية» أنها فكرت فى الكتابة عن حياتهما للمرة الأولى فى حياته، وبحسب روايتها لأول تدوين للمذكرات: «كان فى سوريا أيام الوحدة، وتحديدا وقت عيد الوحدة فى 1959، وقت عيد الوحدة، وأمضيت ما يقرب من ثلاث سنوات أكتب باستمرار عن الماضى والحاضر، وفى يوم قلت لماذا أكتب؟ وكان الرئيس يعلم بما أكتب ويرحب به، ثم غيرت رأيى وقلت فى نفسى لا أريد أن أكتب شيئا، وتخلصت مما كتبت، وأخبرت الرئيس، فتأسف وقال لى :لما فعلت ذلك؟ فقلت له إنى سعيدة كما أنا ولا أريد أن أكتب شيئا، وربما تكلمت عن حقائق تحرج بعض الناس، وتكون متصلة بأمور كنت أراها تدور أمامى، فقال لى: افعلى ما يريحك. فكتبت عمّا أذكره من مواقف ومفاجآت مما كان يحصل فى بيتنا، وما كنت أسمعه وأشاهده بعينى، وما كان يقوله لى الرئيس».
 
وتؤكد قرينة الزعيم الراحل أنه كان يدعمها فى كتابة مذكراتها، ثم تذكر الأسباب التى دفعتها للكتابة من الأساس، قالت: «فى العام الماضى قررت أن أكتب، وأنا أعلم جيدا أن الرئيس كان آسفا، لأننى لم أستمر فى الكتابة، وتخلصت مما كتبت، فأنا أعيش الآن وكأنه موجود إلى جانبى، لا أتصرف أو أفعل شيئا كان لا يحبه، ولو كنت أعلم أنه لا يريدنى أن أكتب شيئا ما فعلت، بدأت أكتب وأعيش مع ذكرياتى، لكن لم أتحمل، فكنت أنفعل وتنهمر الدموع، ولم تعد صحتى تتحمل، فوضعت القلم وقلت سأتوقف عن الكتابة، وأبقى حتى أرقد بجانبه، وتخلصت مما كتبت مرة ثانية، لكننى وجدت أن لى رغبة فى الكتابة فى ذكراه الثالثة، فلأتحمل كل ما يحصل لى، بما أننى أتكلم الآن عن المرحلة الثالثة، أى بعد رحيل الرئيس، فلأتحدث».
 
تبدأ تحية كاظم استعراض سياق معيشتها بعد الترمل، فتقول: «أعيش فى منشية البكرى، بيت الرئيس جمال عبدالناصر، مع أصغر أبنائى، عبدالحكيم الطالب فى كلية الهندسة جامعة القاهرة، ويبلغ من العمر الآن ثمانى عشرة سنة وثمانية شهور، وهو الذى طلب منى أن أكتب، وألحّ، فإنه متشوّق لمعرفة كل شىء عن والده العظيم، وكان حكيم قد طلب من المسؤولين شرائط خطب والده ليسمعها، لأنه لم تكن عنده فرصة لسماع كل أقوال القائد الخالد بصوته، إذ كان طفلا، وبعضها قبل أن يُولد.. إنه هو الذى يسعى بنفسه للحصول عليها، فقد طلب أولا من رئيس الوزراء، وهو صديق لابنه، فوعده، وطلب من رئيس الجمهورية، وقابله بنفسه، ووعده أيضا، وسألنى أن أشترى الشرائط لتسجلها الإذاعة، فقلت له إنى على استعداد أن أدفع أى ثمن، وأخيرا قابلت وزير الثقافة صدفة، فسألته عن الشرائط، فقال لى: لم يطلب منى أحد، ووعدنى بأن ينظر فى الأمر.. وأرجو أن تصل الشرائط لابنى عبدالحكيم قريبا».
جمال عبد الناصر (5)
 
النقطة الأبرز فى المذكرات على امتدادها، عندما حكت تحية كاظم كواليس تقدم جمال عبدالناصر لطلب يديها، وموقف أسرتها من الطلب، وموقفها هى شخصيا. وفيما يبدو أنه استدعاء مشحون بالحنين، تقص الحكاية: «أتكلم الآن عن ذكريات من حياتى مع جمال عبدالناصر، وكيف عرفنى وتزوجنى.. كانت عائلتى على صداقة قديمة مع عائلته، وكان يحضر مع عمه وزوجته التى كانت صديقة لوالدتى، ويقابل شقيقى الثانى، وأحيانا كان يرانى ويُسلّم علىّ. وعندما أراد الزواج أرسل عمه وزوجته ليخطبانى، وكان وقتها برتبة يوزباشى، فقال أخى الذى كان ولى أمرى بعد وفاة أبى، إن شقيقتى التى تكبرنى لم تتزوج بعد، ولا يصح أن أسبقها. وكان هذا رأى جمال أيضا، فقال إنه لا يريد الزواج الآن، ولا يتعجل الأمر إلا بعد زواج شقيقتى، وبعد حوالى سنة تزوجت شقيقتى، لكن أخى لم يوافق على الزواج».
 
تقاليد العائلة المتبعة لدى «تحية» كانت تحرمها من حقوقها فى اختيار شريك حياتها، هكذا تحكى بنفسها مشاعرها وقتما رفض شقيقها العريس الشاب، المشاعر التى توزعت بين القهر والرغبة فى التمرد، وهو ما تكشفه كواليسها الواردة فى المذكرات: «كانت تقاليد العائلة أن لى الحق فى رفض من لا أريده، ولكن ليس لى الحق فى أن أتزوج من أريد. وكنت فى قرارة نفسى أريد الزواج باليوزباشى جمال عبدالناصر، وبعد شهور قليلة توفيت والدتى، فأصبحت وحيدة مع أخى، يدير ما تركه أبى الذى كان على جانب من الثراء، وكان شقيقى الثانى فى الخارج» رغم الرفض كانت هناك مساحة للتفاهم، فشقيقها حصل على تعليم جيد بتخرجه فى كلية التجارة، ويملك قدرا جيدا من الثقافة والوعى، ورغم محافظته فى المنزل فإنه كانت له حياة خاصة واسعة خارجه، وربما بفضل هذه الحياة الخاصة تغير موقفه لاحقا بشكل ناعم. تتذكر تحية: «مكثت مع أخى بضعة شهور، وحيدة، تزورنى شقيقاتى بين وقت وآخر، وفى يوم زارتنى شقيقتى وقالت إن عم اليوزباشى جمال عبدالناصر وزوجته زارا بيتها وسألا عنى، وقالا إن جمال يريد الزواج من تحية، وطلبا إبلاغ أخى، وأبلغناه ورحب، قائلا: إننا أصدقاء قدماء وأكثر من أقارب، وحدد ميعادا لمقابلتهم يوم 14 يناير 1944».
 
تستعيد «تحية» تفاصيل اللقاء الأول: «قابلت جمال مع أخى، وتم تحديد الخطوبة ولبس الدبل والمهر وكل مقدمات الزواج بعد أسبوع، وطبعا كان الحديث بعدما جلست فى الصالون فترة وخرجت. وفى 21 يناير 1944 أقام أخى حفل عشاء، ودعونا أقاربنا، وحضر والد جمال وعمه وزوجته، وألبسنى الدبلة، وقال لى إنه كتب التاريخ عليها 14 يناير، وكان يقصد أول يوم أتى لزيارتنا. وقال لى إنه عندما زارنا لم يحضر لرؤيتى والنظر فى هل أعجبه أم لا، كما كانت العادة فى ذلك الوقت» وكأنه التصريح الأول من عبدالناصر بالحب من أول نظرة، والقرار النهائى الذى لا رجعة فيه.
 
اشترط شقيق «تحية» أن يكون عقد القران فى يوم الزفاف، بعد الانتهاء من التجهيزات وإعداد منزل الزوجية. ولأن الخطوبة والزواج كان يفصل بينهما ستة أشهر تقريبا، كان على المحب الشاب أن يختلس الوقت لوصال المحبوبة، وهنا تدخل الأخ مرة أخرى واضعا نظاما صارما للقاء، تقول عنه تحية: «قال أخى إنه يحضر مرة فى الأسبوع، بحضور شقيقتى الكبرى أو حضوره هو شخصيا. ولأن وجوده فى المنزل كان قليلا، فإن شقيقتى كانت تحضر فى كل مرة قبل وصول جمال، الذى قبل كل ما أملاه عليه أخى، لكنه أبدى رغبته فى الخروج معى، بصحبة شقيقتى وزوجها طبعا، فلم يمانع أخى».
 
كان جمال رومانسيا من طراز مثقف. لم يكن يخرج مع «تحية» لاختصار الوقت فى التنزه أو إمساك يدها على كورنيش النيل، وإنما كان يصحبها فى رحلات تثقيف وإمتاع أسبوعية قصيرة، بين دور السينما ومسرح الريحانى. ولأن الحبيبة الشابة كانت حبيسة البيت تقريبا، وفرضت عليها التقاليد المحافظة قيودا لا حصر لها، فإن هذا العالم كان مدهشا بالنسبة لها، وتختصر هذه الدهشة بالقول: «كل شىء كان جديدا بالنسبة لى. لا وقت يضيع هباء، وفى السينما أو المسرح نجلس فى اللوج أو البنوار، ونتناول العشاء فى البيت بعد الرجوع، وبعد خمسة أشهر ونصف تم زفافى لليوزباشى».
 

 

 
 
 






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة