علياء عبد الصبور يكتب : اللحم

الثلاثاء، 28 أغسطس 2018 12:00 م
علياء عبد الصبور يكتب : اللحم لحوم- ارشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كان يوما قاسيا

أيقظوني في الصباح وزينوني .. زينة زادتني عمرا فوق عمري  .

ألبسوني فستانا أبيض اللون واسعا لم أكن أراني فيه .. نظرت الى نفسى في المرآة فلم اعرفني .. رأيت فتاة تكبرني عشرة أعوام أو يزيد .. فتاة صامتة ولكن رأسها مزدحم بالكلام .. دارت في رأسي تساؤلات عدة .. لماذا كل هذا ؟ .. لماذا الناس حولي فرحون ؟ ولماذا أنا خائفة ؟

تذكرت حوار أبي معي الشهر الماضي .. عندما أخبرني أن هناك من تقدم لخطبتي .. وأنه وافق .. وأنني سأصبح زوجة لرجل تتمناه جميع الفتيات حولنا .. لم اكترث كثيرا يومها لكلامه فقد كان رأسي مشغولا بما هو أهم .. فقد أخبرتني أمي أنها اليوم ستطهو لنا لحما أحضره الزائر الذي أتانا اليوم .. والذي تفحصني بشكل غريب عندما رأني .. مشتاقة أنا لمذاق اللحم الذى اعدته لنا أمي منذ ثلاثة أشهر .. طعمه كان شهي .. أحببته كثيرا وظل طعمه عالقا بفمي .. وها أنا على مشارف تذوقه مرة أخرى  .

بعد أن انتهينا من طعامنا .. أخبرني أبي أن خطيبي هو من أحضر كل هذا  لأجلي .. كان أبي فرحا .. وكنت متوجسة خيفة .. شعور بالخوف أتاني لا أعلم مصدره .. ولكنه سيطر علي لدرجة جعلتني اشعر برغبة في قيء ما تناولته للتو  ..

جرت الأيام وأتى اليوم .. يوم عرسي

وجدت نفسي أجلس بجانب نفس الرجل .. رجل يكبرني بحوالي ثلاثين عاما .. أنا في الخامسة عشر وهو في الخامسة والأربعين تقريبا .. بطنه كبير كأنه ابتلع خروفا للتو .. جسمه ضخم .. قامته طويله لا أكاد أصل إلى منتصفها ... جلسنا هكذا لساعة أو يزيد .. ثم أتى رجلا يرتدى جلبابا .. أطلق عليه الحاضرون مأذونا .. وبعد أن تمتم ببعض الكلمات .. أطلقت النسوة من حولي الزغاريد .. وبعد نصف ساعة أخذني من يدعى الآن زوجي إلى سيارته ومعي أمي .. تبعنا بعض أقاربنا الى حيث أخذتنا السيارة .. حيث ذهبنا الى شقة كبيرة .. أخبرتني أمي أنها شقتي .. وهنا ودعتني أمي وتركتني خلفها لا أدري ماذا علي أن أفعل .. اكتفت بتقبيلي وباخباري أن علي أن أطيع زوجي وألا أفعل ما يغضبه .. ظلت عيني تحدق بها إلى أن أغلق زوجي الباب ثم ألتفت إلي .. وابتسامة مخيفة تعلو وجهه.

دنا مني وأحاطني بذراعه قائلا " مبروك ياعروسة ".. انتفضت وارتعش جسدي .. فابتسم قائلا : "لا تخجلي أنا الآن زوجك" .. لم أرد .. فقط ابتعدت بجسدي عنه .. ضحك ضحكة عالية ارعبتى .. ثم نظر إلي قائلا:" اذهبي لتبدلي ملابسك وعودي لنتناول الطعام " .. دخلت الغرفة وجلست خائفة لا أدري ما سر خوفي هذا المبالغ فيه .. وبعد ما يقرب من ربع ساعة سمعته يطرق باب الغرفة .. وكنت ما زلت جالسة لم احرك ساكنا .. ناداني بصوته الأجش .. هيا لنأكل .. أجبته " حاضر ".. قمت وبدلت فستان عرسي بجلباب أنيق لا أدري من الذي أختاره .. خرجت من الغرفة .. وجدت ما لذ وطاب من الطعام على المائدة ووجدته جالسا في انتظاري .. لم أستطع أن أضع لقمة واحدة في فمي .. لا أدري هل كنت خجلة أم كنت خائفة أم كنت قد بدأت مرحلة زهدي في الحياة وفقد رغبتي في متعها .. أكل هو بنهم وبصوت مسموع ومقزز .. ثم سألني "ألن تأكلي ؟" .. قلت له " لست جائعة " .. وبعد أن أنهى طعامه سحبني من يدى قائلا هيا لنستريح .. قمت معه وأنا اتصبب عرقا .. واستيقظت في اليوم التالي لأجده ممدا بجانبي وجسدي منهك وروحي ممزقة .. نمت بعد أن شعرت بتحطمي تماما .. لا أدري ماذا حدث ولا لماذا حدث .. كل ما ادريه أنني من الآن قد صرت جسدا بلا روح  .

مرت ثلاثة أعوام وأنا في بيته .. صرت الأن في الثامنة عشر من عمري ولكن شعوري شعور عجوز في الثمانين .

لا أدري كيف مضت الثلاثة أعوام الماضية .. كانت معظم أيامي تمر بنفس سيناريو اليوم الأول .. أنام باكية هربا من ألم نهاية اليوم معه .. واستيقظ باكية .. والذى زاد عن اليوم الأول .. هو قسوته في التعامل معي .. لم يكن يعاملني باللين .. كان يسبني كثيرا ويضربني إذا ما استدعي الأمر ضربي .. كنت ما زلت صغيرة .. ولا استطيع أن ألبي كل ما يطلبه بالطريقة التي يريدها .. لذا كان دائم الإهانة لي .

خلال الثلاث سنوات صرت أما .. لطفلة جميلة تشبهني كثيرا .. كنت أحاول أن احتمي ببراءتها من قسوة الدنيا ومن سخطي علي كل ما فيها .. ولكن على الرغم من كل محاولاتي لم استطيع أن أفعل .. ظلت روحي محطمة وقلبي معذب  .

 ذهبت لأبي عدة مرات باكية .. أخبرته أنني أريد أن أعود إليهم وأنني لا ارغب في الاستمرار مع هذا الرجل .. شكوت له ولأمي غلظته معي وذله لي ..  ردهم في كل مرة كان واحدا : لديك زوج تتمناه الكثيرات غيرك .. حافظي علي زوجك ولبي رغباته .. كل الرجال هكذا .. يكفي أنه يعطيكي كل ما تريدين وأن بيتك لا ينقصه شيء .. يكفي أنه تكفل بمصاريف أخوتك .. عودي إلى بيتك وقبلي يد زوجك وربي ابنتك .

كنت أعود في كل مرة حانقة على أبي وأمي وعندما أهدأ اعذرهما .. فقد ذاقا الحرمان كثيرا وزوجي كريم معهما .. يكفي أن بيتنا لم يعد يخلو من اللحم .. اللحم الذي لم أعد اشتهيه والذى كان يوما كل ما أشتهى .

كنت أذهب إليهما باكية وأعود لزوجي والدمع متحجرا في عيني .. ولا أجد أمامي حلا سوى أن استسلم وأكمل يومي .. لأنام باكية هربا من ألم نهاية اليوم معه.

ذات مساء طلب مني أن أعد له الطعام وكنت متعبة جدا لا تستطيع قدماي حملي من شدة الألم .. أخبرته أنني متعبة .. لم يناقشني فقط سبني بأبشع الالفاظ وقذفني بزجاجة كانت في يده .. أصابتني الزجاجة في رأسي وعندما رأى الدم يسيل مني قال بصوت مخيف : "هذه ذكرى لكي تقولي لا مرة أخري "

وذات صباح ايقظني بسحبي من شعري قائلا : " ابنتك تبكي وأيقظتني من نومي وأنت ما زلت نائمة .. اخرجي بها من هنا والا قتلتكما " .. لم استوعب ما حدث فقط أخذتها وخرجت وكلي خوف عليها .. لولاها لتمنيت أن ينفذ تهديده ويقتلني لأستريح  .

مرت أيام كثيرة في ذل وإهانة وضرب وقد فاض الكيل  .

اليوم قررت أن اهرب الي حيث لا يستطيع أبي ولا زوجي أن يجداني .. أخذت ابنتي وعزمت على الرحيل بلا عودة .. انتظرت حتى وقت خروج زوجي وأخذت ابنتي ومشيت ..  تركت منزله خلفي .. لا أعلم أين ستأخذني قدماي .. وقفت في منتصف شارعنا أفكر الي أين أذهب ولمن .. وجدت نفسي ضائعة .. لا أدري ماذا أفعل ولا ماذا سأفعل .. جبنت وعدت إلى منزلي باكية .. ولكنني اتخذت قرارا ولن يثنيني العالم كله لو اجتمع عن تنفيذه .. سأنفصل عن زوجي هذا .. سأستعين على هذا بصديقة قديمة لي .. سأطلب من والدها مساعدتي .. فوالدها محام وخدوم .. سأنجو بما تبقى من حياتي .. الأمل ضعيف أن استطيع ولكنني سأحاول .. إن لم يكن من أجلي فمن أجل ابنتي .. فقد كبرت بما فيه الكفاية حتى لم يعد كل ما يشغلني هو أن أكل لحما ... فما أبشع اللحم إن أنت بعت نفسك او ولدك لمن سيشتريه .

نسيت أن أخبركم أنني لست الزوجة الأولى في حياة زوجي .. أنا الزوجة  السادسة .. ولكني زوجته الوحيدة الآن .. فقد تزوجني بعد ثلاثة أشهر من انفصال زوجته الأخيرة عنه .. وكانت أول زوجاته قد توفيت بعد زواجه منها بستة أشهر .. أعتقد أنها ماتت قهرا من معاملته .. أما الخمس الأخريات فقد انفصلن عنه .. ثلاث بإرادته فقد كان قد زهد فيهن فطلقهن .. واثنان رغما عنه بمعاونة اهلهما .. فقد كان لهما سند .

الأهل سند مهم في حياة الفتاة .. مهما حاولنا إنكار ذلك لنبدو مستقلات فإنها تظل الحقيقة .. فتاة بلا أهل يساندونها ضعيفة مهما بدت للناس قوية ... وقد كنت بلا سند رغم وجود أهل .

حاولت أن أنتقي وقتا مناسبا كي أتحدث إلى زوجي علني استطيع الحصول على حريتي دون اللجوء إلى المحاكم ودون فضائح  .. ولكنني جبنت .. لذا عزمت على التواصل مع صديقتي وطلب مساعدة والدها ... انتظرت حتى خرج زوجي ذاهبا لعمله واتصلت بها .. وكان لحسن حظي أنني ما زلت أحتفظ برقمها .. رحبت بي كثيرا عند اتصالي بها وكأنني لم انقطع عنها منذ سنوات .. قصصت عليها ما مر بي خلال الثلاث سنوات الماضية .. أخبرتها عن كل ما أعانيه .. شكوت لها كأني اشتكى لأم حنون أو لأخت شقيقة .. جاءني صوتها باكيا آسفا متعاطفا .. أخبرتني أنها ستخبر والدها بكل ما أخبرتها به وأنه بالتأكيد سيجد لي حلا للخلاص مما أنا فيه .. وفي اليوم التالي اتصلت بي وأخبرتني أن والدها يرغب في محادثتي وأعطته الهاتف .. بعد أن رحب بي أخذ يسألني بعض الأسئلة ثم طلب مني عنوان منزل أبي وأخبرني أنه سيذهب لمقابلته ليتحدث معه بشأني .. أعطيته العنوان وكلي أمل أن يصل معه لحل يريحني .. ذهب لأبي في اليوم التالي وأخبره أنه والد صديقتي وأنه محامي .. وجد أبي على علم بكل ما يحدث لي .. فأخذ يقنعه بأن انفصالي عن زوجي سيكون في مصلحتي فأنا ما زلت صغيرة وما يحدث قد يجعلني أفقد صوابي وألجأ لأفعال غير سليمة كأن أنهي حياتي أو أضر بطفلتي أو نحو ذلك .. ولأول مرة تدب الشفقة في قلب أبي نحوي .. أخبر أبي أنه سوف يجد لي عملا بعد طلاقي أستطيع أن انفق على نفسي منه .. وأخبره كذلك أنه سيجد له هو أيضا عملا بأجر جيد وثابت شهريا .. فقد كنت اضطررت لأخباره أن من أهم أسباب تمسك أبي باستمراري في الزواج خوفه من أن أعود مسئولة منه أنا وأبنتي وكذلك لأن زوجي يساعدهم ماديا .. فاطمأن أبي ووافق علي فكرة الانفصال رغم حزنه  .

وبعد محاولات عديدة من أبي لإقناع زوجي بأن يطلقني والتي باءت كلها بالفشل والرفض .. لم أجد أمامي سوى أن أرفع الأمر للقضاء بمعرفة والد صديقتي .. والذي أقام لي الدعوى دون أن يتقاضى مليما واحدا.

كان يوم الحكم في الدعوى بمثابة العيد بالنسبة لي .. طلقني القاضي للضرر .

عندما سمعت الحكم لم أستطع أن أتمالك نفسي من السعادة .. سعدت كما لم أسعد منذ أن ولدتني أمي .. وددت يومها لو قبلت القاضي وقبلت والد صديقتي وقبلت كل من حولي .. ولكنني اكتفيت بتقبيل أبنتي وبحمد الله حمدا كثيرا طيبا يليق بجلال وجهه وبكرمه .

منذ اليوم أنا حرة .. منذ اليوم أنا فتاة جديدة ستحيا وتسعد .. كان ابتلاءا قاسيا ولكنه قد مر .. رحل بلا عودة .. منذ اللحظة سأقف على قدماي من جديد .. سأعمل واجتهد لأجل أبنتي  .. حتى لا أضطر يوما أن أبيعها لمن سيشتري اللحم .










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة