رشيدة الركيك تكتب: واقع المجتمع والتصدع الأخلاقى

الأحد، 17 سبتمبر 2017 10:00 ص
رشيدة الركيك تكتب: واقع المجتمع والتصدع الأخلاقى الاغتصاب - صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أزمة القيم هى ما نعيشه اليوم فى مختلف القطاعات، حيث أدت إلى فقدان الثقة وفك الروابط وخوف الإنسان من ظله.

أزمة القيم هى التى جعلت البائع يغش فى سلعته وجعلت الغش فى الامتحانات المدرسية أمرا مشروعا، وجعلت العلاقات الإنسانية مجالا للنصب، والاحتيال، والعنف، والاغتصاب، والظلم والأنانية... ولكل تصدع خلقى داخل المجتمع.

لا شك أن القيم والأخلاق هى ما يحدد السلوك الإنسانى ويقيمه باعتبارها مرجعا من خلاله نحكم على الأفعال، إما بالاستحسان أو الاستهجان، وإن كان مرجعا خارج الذات ولكن بفعل التربية يصبح داخلها ويوجهها بشكل اجتماعى مقبول.

 الملاحظ اليوم، أن القيم أصبحت مجالا للكلام والنفاق الاجتماعي، فهى حبيسة اللغة دون أن يتخذ منها معيارا للسلوك و المواقف، فنقول دائما ما لا نفعله لنعيش مفارقات وجودية بين ما هو كائن وما ينبغى أن يكون.

الواقع الاجتماعى اليوم عند التأمل عار ومكشوف جسده بشكل مخل للأدب، واقع يندى له الجبين عند مقارنتنا بين ما كان وما نحن عليه.

اللغة اليوم استعمال بعيد عن سننها وأبجدياتها، مفاهيم جديدة ودخيلة، نجدها تارة عربية مفرنسة وتارة أخرى فرنسية معربة، كأن اللغة لم تعد تعبر عن الهوية المجتمعية أو أنها هوية أخرى، إن استعملنا التحليل السيكولوجى للغات فإنها تعبر عن شخصية ترفض الانتماء .

 لغة الشارع اليوم بكل وقاحته تدخل بيوتنا ونحن جالسون فيه، وإن كانت نوافذنا مغلقة، بل تقتحم المدارس وساحاتها ولم نعد نملك سوى التحسر على أجيال المستقبل التى من واجبنا التفكير فيها باعتبارها أمانة تلخص معنى وجودنا.

علاقاتنا الاجتماعية اليوم طغت عليها الكثير من البروتوكولات أرهقت كاهل الإنسان، أصبحت علاقات فارغة من روحها ولا تعبر فى جلها إلا عن المصالح. أعراسنا مفخرة وتباهى وتكبر أو ربما تحد، لم يعد الزواج رسالة اجتماعية نبيلة ...

تأملنا الأسر اليوم فلم تعد اللمة العائلية ما يفرح ولا نجتمع على مائدة الطعام كما كنا نناقش أو نتبادل أطراف الحديث ونختصر المسافات بيننا فنعرف بعضنا عن قرب. وللأسف فى الوقت الذى كثرت فيه وسائل الاتصال تباعدنا وتباعدت المسافات بيننا. أصبحنا دمى كراكيزية أمام العالم الإلكترونى بدعوى التقدم والحضارة ولا يمكننا أن نعيش بعيدا عن الجديد خوفا من أى نعت بالتقادم والرجعية.

 حتى العلاقات الزوجية لم يعد فيها ذلك الهمس بين الأزواج تعبيرا عن حياتهم الخاصة ودليلا على أن شيئا يجمعهما غير الجسد، كل واحد فى عالمه ارتبط بالهاتف أكثرمن ارتباطه بشريك حياته ...

 الناس اليوم تراها فى الشوارع تتكلم وتظنها فى حالة جنون والواقع أن الهاتف لم يعد يفارقنا، وكأننا لا نتكلم عندما نلتقي، نتتبع خطوات بعضنا دون كلل أو ملل. أرهقنا أنفسنا أكثر من اللازم فقل تركيزنا من كثرة التعب، أنت هنا وتفكر فيمن هناك وهنالك، لم يعد يتمتع الإنسان بأوقات الراحة بل حتى النوم لم يسلم، أقلقت مضاجعنا رنات الهاتف حتى فى حالات المرض.

 قل نوم الإنسان بعد دخوله للعالم الإلكترونى بل لم يعد سباتا. ساعاتنا البيولوجية اضطربت وصار كل إهمالنا للعمل له مايبرره . صداقات عالمية تحدّت الفروق الزمنية ولم يعد الإنسان يقوى على هذا التغيير، لقد اخترقنا العالم الافتراضى ودق معه ناقوس الخطر فى جميع المجالات، مهما قلنا عنه يكفينا أن نقول هواتف ذكية اعتمد عليها الإنسان فأصبح غبيا.

 

أما أطفالنا اليوم لم يعد يسكتهم حضور الآباء بل يكفى إحضار الهاتف ليشعر بالبهجة مستغنيا عن أية علاقات اجتماعية و حتى عن اللغة، لأنه لم يعد فى حاجة إليها، فرضت عليه لغة عصره وعالمه الإلكترونى ...

يبدو أنه سيأتى يوم نرى فيه أجيالا بكماء و انطوائية، خصوصا وأنه لم يعد الطفل يعيش طفولته ونموه النفسى الحركي، بل أهوس بدوره ولم تعد البراءة التى أحببناها فيه...

أهوسنا بكثرة النظافة و النظام حتى لم يبق فى حياتنا سوى الرتابة والملل والتخوف من مرض قد يأتى وربما لن يأتي، مع ذلك ضعفت مناعة الإنسان وضعف جسده واضطرب مزاجه، وصار الخوف اليومى من الأرق الذى قد يباغته فى أية لحظة.

انشغلنا بالموضة وآخر صيحاتها والماركات العالمية وكأن الجسد والمظهر ما يعبر عن هوية الشخص، تناسينا الجوهر وفكر الإنسان وقدراته وانجازاته فى مقابل رصيده البنكى وسيارته الفخمة وممتلكاته وعقاراته...

أفرغت حياتنا من غاياتها ألا وهى حب الحياة والتمتع بها فى بساطتها، الكل يجرى ولا أحد ينتهي، الكل يصارع القلق والخوف من المجهول ويعانى الضغوط.

طغت المادة على تفكيرنا وكأنها هى الغاية من كل تواجد. لم تعد الحياة الهادئة ما نفكر فيه وما نريد استطعامه بنوع من الرضا، نترك ما نتمتع به ونبحث عن أى شيئ لا نملكه ويقهر الإنسان ويظلم نفسه مرتين حرمانه مما يملك وحرمانه مما لا يملك وينتهى به المطاف فى سعادة مستعصية.

لم نعد نتكلم عن الصراع بين الأجيال كما كنا فى الماضي، بل أصبح الصراع مع كل شىء وأى شىء، حتى القيم تغيرت مع الزمن أو ربما اتخذت معانى غير تلك التى نعرفها، بل أضحى كل واحد يعطيها معنى خاص به، لتتخذ كل القيم الطابع الفردى البراغماتى ويتشبت به ملزما الآخرين وكأنه المرجع ولا مرجع سواه.

هكذا أخرج الإنسان من كينونته واعتبر من عالم الأشياء لتبدأ معاناته مع نفسه فى بعده الذاتى ومع غيره فى بعده العلائقى ليعيد التاريخ نفسه وتعود النزعة الإنسانية لتنادى بضرورة استرجاع القيم الإنسانية النبيلة والدعوة للحب والسلام وتنمية الإنسان من جديد واستخراج ما فيه من الخير على اعتبار طبيعته الخيرة وحبه للخير لنفسه ولغيره.

لا زلنا وسنظل اليوم نصارع كل الظواهر الاجتماعية وإذا لم نواجه الأمر ستطفو ظواهر أخرى تعلن فشل المنظومة القيمية الحالية فى إنشاء إنسان متزن صالح لنفسه وللآخرين.

لازال باب الأمل مفتوحا للدعوة من جديد للتربية قبل التعليم وللإنسان قبل الشواهد التى نجرى وراءها، ثم التعامل مع الإنسان فى كليته دون تجزيئه بحيث لا يمكن فهمه والتفاهم معه إلا فى هذا الترابط الضامن لروحه والكاشف عن مجموعة من تفاعلات نفسية اجتماعية عقلية ثقافية روحية تربوية تنسجم فى خلطة معينة تنتج إنسانا بطابع خاص متفرد خلاصة عصره وزمانه.

حقيقة التطور جعل جل المعارف الماضية موضع تساؤل: المعلومة اليوم تطرق أبوابنا من تطور علمى بشكل سريع،إلى مستجدات فى كل شىء قلبت حياة الإنسان، لم يأخذ وقتا ليدرس ويجد نفسه فيها ولم يستوعب متطلبات العصر الإلكترونى الجديد الذى يفرض إنسانا إلكترونيا يتواصل معه.

والواقع أنه لبس قناعا واعتقد أن حقيقته التى تاه عنها لم يعد يجدها. ظن نفسه ذكيا مواكبا لعصره لكنه مقلد تائه عن حقيقته.

ألم يحن الوقت لتأمل واقعنا بشكل جماعى و إيجابى للوقوف من جديد على أى ثغرة تخل بتوازننا فى حياتنا الفردية والجماعية والإنسانية باعتبار أن هناك علاقة ثلاثية لا يمكن الفصل بينها، فكل تصدع فى الفرد هو تصدع فى المجتمع وفى الإنسانية.

 وخلاصة القول، إن أزمة الإنسانية اليوم فى المنظومة القيمية وتصدعها هو ما أنتج ظواهر يصعب التعامل معها دون الدعوة من جديد لهذه القيم السامية التى أدت عبر التاريخ إلى سمو الإنسان والإنسانية وخروجه من العالم الطبيعى إلى العالم الثقافي، حينها أصبح مبتكرا ومبدعا ولكن كان عليه الحفاظ على خصوصيته فى حفاظه على بعده القيمي.

  










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة