بعد أن أسند الكاتب الصحفى حلمى النمنم، وزير الثقافة، ترميم مقبرة الزعيم المصرى عمر مكرم، إلى جهاز التنسيق الحضارى، وذلك فى إطار اهتمام الوزارة بالعظماء وتأكيدا على دورهم التاريخى، تسرد "اليوم السابع" سيرة المناضل الذى تفوق سيرته المسجد الشهير القابع فى منطقة وسط البلد، والذى تشيَّع منه جنازات صفوة المجتمع، وكذلك تفوق التمثال الذى طاف حوله ثوار 25 يناير و30 يونيو ولفوه بعلم مصر واستلهموا من شموخه حماستهم.
إنه الزعيم عمر مكرم، أحد صُناع التاريخ الذين لا تنتهى سيرتهم بموتهم، ولا تطوى صفحاتهم من سجلات الشعوب، فيبقون فى الذاكرة والوجدان، وفى كل مرة تستحضر سطوراً منها تنكشف الأسرار، وتندهش، وتنبهر كأنما هى المرة الأولى، هو الذى قال، ردا على عمر بك مستشار خورشيد باشا، عندما عنفه على موقفه وردد له قوله تعالى: "أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ": "أولوا الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وهذا رجل ظالم حتى السلطان والخليفة إذا سار فى الناس بالجور فإنهم يعزلونه و يخلعونه".
لم يكن عمر مكرم زعيما شعبيا عاديا، مثل باقى الزعماء، بل كما قال الرافعى: "كان للشعب زعماء عديدون يجتمعون ويتشاورون ويشتركون فى تدبير الأمور، ولكل منهم نصيبه ومنزلته، ولكن من الإنصاف أن يعرف للسيد عمر مكرم فضله فى هذه الحركة فقد كان بلا جدال روحها وعمادهـا".
مولده ومكانته بين الناس "1750م/1822م":
ولد الزعيم الشعبى عمر مكرم حسين السيوطى عام 1750م بأسيوط فى أسرة من الأشراف والأشراف هم من ينسبون لآل البيت النبوى، ثم انتقل إلى "القاهرة" للدراسة فى الأزهر الشريف، وانتهى من دراسته وأصبح نقيبًا لأشراف مصر فى زمنه، عام "1208هـ - 1793م"، ومن ثم كانت لهم مكانة عالية بين الناس عامة، وعند الأمراء والحكام خاصة، وكانت الأسر العريقة من الأشراف تحافظ على مكانتها حيث كانت العادة أن يختار من بينهم نقيب الأشراف، الذى كان ذا كلمة مسموعة وشفاعة مقبولة عند الحكام لقضاء حوائج الناس وتخفيف الظلم عنهم.
نضاله ضد استبداد الحكام والحملة الفرنسية:
عندما جاء عام 1209 هـ1795م كان الشعب المصرى قد ضاق ذرعا بما يفرض عليه من ضرائب وجبايات تجمع بالقوة، فلم يكن له بدا إلا أن يستنجد بالزعماء والعلماء الذين كان لهم مكانتهم عند الحكام فاستجاب العلماء لمطالب الشعب وكان على رأسهم عمر مكرم الذى تقدم وقاد هذه الحركة الشعبية ضد كل من "إبراهيم بك" و"مراد بك" ذلك فى عام 1795م، ثم طالب مكرم برفع هذه الجبايات والضرائب عن كاهل الفقراء الذين لا طاقة لهم بها وإقامة العدل فى حكم الشعب والاحتكام إلى الشريعة الإسلامية وتطبيقها.
كانت قيادة مكرم لهذه الحركة الشعبية تعد بداية توغله واحتكاكه الذى سيكون مطلقا فى السياسة، فهو الذى وحد الجماهير للقتال مع الجيش ضد الفرنسيين عندما اقتربوا من القاهرة عام 1798م، ولما كان دوره بارزا، حاول الفرنسيون استمالته بعد سقوط القاهرة فى أيديهم، بعرض عضوية الديوان الأول ولكن مكرم رفض وترك مصر ثم عاد إلى القاهرة وتظاهر بالاعتزال فى بيته، ولكنه فى الحقيقة كان يجتمع بعلماء الأزهر وزعماء الشعب للتحضير لثورة ضد الاحتلال الفرنسى، وبالفعل اندلعت ثورة القاهرة الثانية فى عام 1800م، فاضطر عمر مكرم، للهروب خارج مصر خوفا من الوقوع فى قبضة الفرنسيين الذين صادروا أملاكه، وبقى خارج مصر حتى رحيل الحملة الفرنسية فى عام 1801م.
لم تنته مواقف السيد عمر مكرم عند هذا الحد، بل ظهر أيضا دوره المنتظر ضد الاحتلال الأجنبى بحملة فريزر عندما قاد حملته الشعبية ونجح فى هزيمة الحملة فى حماد ورشيد مما حمل فريزر للجلاء عن مصر ويصف الجبرتى هذه الوقعة قائلا: "نبه السيد عمر مكرم على الناس وأمرهم بحمل السلاح والتأهب لجهاد الإنجليز، حتى مجاورى الأزهر أمرهم بترك حضور الدروس، وكذلك أمر المشايخ بترك إلقاء الدروس".
ويشير أيضا عبد الرحمن الرافعى على ما حدث من مكرم تجاه فريزر قائلا: "إذا تأملت دعوة الجهاد التى بثها السيد عمر مكرم والروح التى نفخها فى طبقات الشعب، فأنك لترى هذا الموقف مماثلا لموقفه عندما دعا الشعب على التطوع لقتال الفرنسيين قبل معركة الأهرام، ثم تأمل دعوته الأزهريين إلى المشاركة فى القتال تجد أنه لا ينظر إليهم كرجال علم ودين فحسب بل رجال جهاد وقتال ودفاع عن الزمان، فعلمهم فى ذلك العصر كان أعم وأعظم من عملهم اليوم".
دوره فى خلع خورشيد وتولية محمد على:
بعد أن نجحت ثورة عمر مكرم هو وعلماء الأزهر ضد خورشد باشا وعزله فيما يعرف بثورة الشرع عين محمد على بدلا منه تلبية لمطالب الشعب رغم أن الخلافة العثمانية أعلنت رفضها لتولية محمد على ثم نزلت عن ذلك لإرادة الثورة، لكنهم اشترطوا عليه أن يقيم العدل ويطبق الشريعة ويرد المظالم وألا يفعل أمرًا إلا بمشورة العلماء، وإلا عزلوه، وبعد موافقته على مطالبهم صدرت فتاوى شرعية منهم والباب العالى أعلن فيها عزل خورشد وتولية محمد على وبذلك نجحت الثورة الشعبيـة، وهنا وصلت مكانت عمر مكرم إلى الذروة وقد وصفها الجبرتى بقوله: "ارتفع شأن السيد عمر، وزاد أمره بمباشرة الوقائع، وولاية محمد على باشا، وصار بيده الحل والعقد، والأمر والنهي، والمرجع فى الأمور الكلية والجزئية فكان يجلس إلى جانب محمد على فى المناسبات والاجتماعات، ويحتل مركز الصدارة فى المجتمع المصري، حتى إن الجماهير كانت تفرح لفرحه، وتحزن لحزنه".
ومن هنا شعر محمد على بخطورة عمر مكرم فأمر بنفيه من القاهرة إلى دمياط بعد علمه بأن الشعب أصبح فى قبضة السيد مكرم وأنه يستطيع الثورة عليه فى أى وقت، ولا سيما عندما يفرض ضرائبه التى سيتبرم منها الشعب، على كل حال مكث مكرم فى منفاه عشر سنوات، ثم عاد إلى القاهرة فوجد محمد على أن حب الشعب له لم يتغير فخاف من انتفاضة شعبية ضده فعاد فنفاه مرة أخرى.
رحل عنا هذا المناضل العظيم عام 1822م، تاركا لنا سيرة لا يشوبها شائب فى وطنيتها ومؤازرتها للشعب فى مواقفه الصعبة، كما أكد لنا أنه من الممكن أن تغير شخصية بمفردها فى تاريخ الشعوب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة