ربما كان من المفارقات اللافتة فيما أسفرت عنه الحرب العالمية الثانية من نتائج، صعود نجم الإمبراطورية الأمريكية، قطبا دوليا يحتل موقع القيادة فى المعسكر الغربى الاستعمارى، فى تزامن مع بزوغ حركات التحرر الوطنى فى مواجهة «الاستعمار القديم» الأنجلو-فرنسى، وفيها ثورة 23 يوليو 1952 فى مصر، وقد كان قدرها أن تقود وتحتضن حركات التحرر الوطنى، فيما راح دورها يزداد اتساعا وعمقا باتساع قارات أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وبما أضفى على «مصر الدور» أهمية استثنائية مضافة إلى أهمية «مصر الموقع»، ووضعها -بالتالى- فى تماس مباشرة مع القطب الأمريكى الصاعد توا من بين غبار وركام الحرب، طامحا إلى، وطامعا فى إرث «الاستعمار القديم».
وفى كتابه الموسوعى «ملفات السويس - حرب الثلاثين عاما» يرصد الأستاذ محمد حسنين هيكل ما بدا أنه «اللقاء الأول» بين النجم الأمريكى البازغ والدور المصرى الصاعد، وقد وقع «اللقاء» فى مذكرة تقدير موقف صادرة فى 18 سبتمبر 1952 عن وزارة الخارجية الأمريكية، وفى بندها الأول أن الولايات المتحدة الأمريكية «توافق على أن التأييد المادى والمعنوى للنظام الحالى فى مصر هو أحسن سياسة يمكن أن تؤدى لتحقيق أهداف الولايات المتحدة والغرب بالنسبة لمصر»، وفى تفاصيل «الأهداف الأمريكية» كان الهدف الثالث «السلام مع إسرائيل»، ثم كان أن النقطة السادسة فى مذكرة «تقدير الموقف»، التى عكف على إعدادها خبراء من وزارتى الخارجية والدفاع وهيئة الأمن القومى، قالت نصا «إننا أخذنا علما برغبة المصريين فى الحصول على سلاح أمريكى، ولكن تزويد القوات المسلحة المصرية بمثل هذا السلاح قبل الوصول إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل، سوف يثير داخليا هنا عددا من التساؤلات، ونحن نقدر تماما حساسية مناقشة مشكلة إسرائيل مع النظام الجديد «المقصود نظام ما بعد الثورة فى مصر»، لكننا نعتقد أنه لا ينبغى السماح لأحد أن يشكك حول آرائنا فى هذا الصدد. ونأمل أنه فى وقت ما سيجد النظام نفسه قادرا على تقديم تصريح علنى حول نواياه غير العدوانية تجاه إسرائيل، سواء جاء هذا التصريح بشكل عام، أو، وهو الأفضل، بشكل محدد».
وكذلك حددت واشنطن، منذ وقت مبكر، الخيط الناظم لحركتها تجاه القاهرة، ورسمت أسس وأهداف العلاقة معها، وقد أخذت إسرائيل -أمنا وحماية- مكانة متميزة فيها، فيما بدا وكأنها قد أصبحت الخيط الناظم للعلاقات المصرية الأمريكية.
وبين سطور الرسائل تؤكد العاصمة الأمريكية أن الحرب التى تخوضها مصر ضد الإرهاب لا تندرج -عند الإدارة الأمريكية- فى إطار حق مصر فى بسط سيادتها الكاملة على أراضيها، ولا تضخ فى الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب، إنما ترتبط -أولا وأخيرا- بضمان أمن إسرائيل.
وعلى مدى الأعوام الستين بقيت مسارات العلاقات المصرية الأمريكية تراوح ما بين محاولات احتواء -فى أعقاب ثورة يوليو، ثم توتر وشد وجذب- فى الستينيات، وصولا إلى قطيعة كاملة بعد حرب 1967.
ولأن حماية إسرائيل وضمان أمنها، لم يزل هو الخيط الناظم لمسارات العلاقات المصرية الأمريكية، فقد احتلت اتفاقية كامب ديفيد ثم معاهدة السلام مع إسرائيل موقع الصدارة فى المشهد الأمريكى المصرى، وكانت «المعونة الأمريكية» أقرب ما تكون إلى الثمن المدفوع ليس فقط للوصول إلى «حالة سلام» مع إسرائيل، لكن أيضا لإحكام قبضة واشنطن على القاهرة، وصولا إلى أن يصبح النظام المصرى، برعاية «المعونة الأمريكية» بمثابة «الكنز الاستراتيجى» لواشنطن وتل أبيب معا.
وبإغراء «المعونة» انصاعت مصر إلى روشتة صندوق النقد الدولى، الخاضع للهيمنة الأمريكية الأوربية، وفيها خصخصة القطاع العام وتعويم الجنيه المصرى، وتخفيض حجم العمالة فى القطاع الحكومى، وفى النتائج أهدرت الدولة ممتلكاتها وباعت القطاع العام «بتراب الفلوس»، وتراجع الاقتصاد مقتربا إلى حواف الانهيار، بينما نمت على الهوامش بؤر فساد راحت تتسع وتنتشر حتى أزكمت الأنوف، وقوضت أركان الدولة أو كادت. والحاصل أن الإغراء كان أكبر بكثير مما يمكن أن تثيره «معونة» لا تتجاوز قيمتها 1.55 مليار دولار، منها 1.3 مساعدات عسكرية، و250 مليون دولار مساعدات مدنية، وحسب الأستاذ أحمد النجار رئيس وحدة الدراسات الاقتصادية فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، فإن إجمالى المعونة يعادل تقريبا %0.5 من الناتج المحلى الإجمالى المصرى المقدر للعام 2013/2014 بنحو 2050 مليار جنيه مصرى، فى حين أنها لن تزيد عن %0.3 إذا جرت المقارنة بالناتج القومى الإجمالى الحقيقى المحسوب بالدولار وفقا لتعادل القوى الشرائية بين الدولار والجنيه والبالغ 505 مليارات دولار عام 2011.
وفى تفاصيل المعونة سوف نجد أنها تشمل معدات وقطع غيار عسكرية أمريكية، يحدد البنتاجون وحده أنواعها وكمياتها وقيمتها وحدود التصرف فيها واستخدامها، وفيها دورات تدريبية عسكرية لضباط من القوات المسلحة المصرية تجرى فى الولايات المتحدة، التى تنفرد -غالبا- بتحديد نوعية التدريب ومدته، وفيها أيضا -وفى بند المعونات المدنية- سلع ومود غذائية تحدد هيئة المعونة الأمريكية كمياتها وأنواعها وأسعارها، ثم تتولى وسائل نقل أمريكية نقل كل هذه المعدات والسلع، وتحصل على أجورها من قيمة المعونة، كما يتقاضى موظفو هيئة المعونة رواتبهم أيضا من قيمة المعونة. كان «الإغراء» أكبر وأوسع كثيرا من «الثمن المدفوع»، فكان طبيعيا أن يثير الأمر برمته بعض تساؤلات بقيت حائرة فى دهاليز الحكومة ومكاتب صانعى القرار فيها بحثا عن إجابات، بينها هل تستحق هذه «المعونة» عناء تحملها؟ وهل يمكن حقا أن ينهار الاقتصاد المصرى إذا ما قررت الولايات المتحدة الأمريكية قطعها نهائيا؟ ثم هل هى حقا «ورقة ضغط» فى يد واشنطن، أم أن العكس هو الصحيح تماما؟
كانت هناك معونات أمريكية غذائية -غالبا- فى أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضى، لكنها توقفت فى مرحلة التوتر وما أفضت إليه من شد وجذب بين العاصمتين، كما توقفت أيضا شحنات قمح مدفوعة الثمن، دون أن يؤدى ذلك إلى مجاعة.
وحيث تغيرت مصادر السلاح مرتين فى أقل من ربع قرن، الأولى عندما تخلت حكومة ثورة يوليو عن السلاح الغربى، واتجهت صوب الكتلة الشرقية، فيما عُرف وقتها بصفقة السلاح التشيكية، وقد كان سلاحا سوفيتيا فرضت اعتبارات كثيرة -فى حينه- التمويه على مصدره، وفى منتصف السبعينيات قرر الرئيس الأسبق أنور السادات الاتجاه غربا والتخلى عن السلاح السوفييتى، والاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية فى التسلح. وفى الحالتين أثبت الجندى المصرى كفاءة عالية وقدرة مبهرة فى التعامل مع السلاح «الجديد»، وبما يعنى أن الاستغناء عن المعونات العسكرية الأمريكية، والاتجاه نحو «تنويع مصادر السلاح» لن يترتب عليه أى خلل فى القدرات العسكرية المصرية أو ارتباك فى أداء المقاتل المصرى. وفى الجغرافيا تتجلى إجابات أخرى عن أسئلة المعونة الحائرة، حيث إن معاهدة السلام مع إسرائيل، والمعونة ثمنا لها، جعلت مصر أقرب ما تكون إلى رجل مبتور الساقين مطلوب منه قيادة المنطقة، والتحرر من أعباء المعونة سوف يفتح كثيرا من المنافذ للتحرر من أغلال معاهدة أعادت لنا الأرض «سيناء» واحتفظت بالسيادة عليها بين يدى إسرائيل، فكان الإرهاب الذى نعانى منه بعض الثمن المدفوع مقابل معونة لا تستحق عناء التفكير فيها. والتخلى عن المعونة لا يعنى الدخول فى صدام مع الولايات المتحدة، ليس هذا ضروريا، كما أنه ليس مطلوبا، لكنه يفتح الأبواب أمام علاقات مصالح متبادلة، تبدأ من الندية وتقف عند حدود الإضرار بمصالح طرف لحساب آخر.
فهل هذه معادلة مستحيلة؟
هانى عياد يكتب: أرباح أمريكا من المعونة أضعاف مكاسب مصر. المساعدات وسيلة ضغط.. وإلغاؤها يمنح القرار المصرى استقلاله
الخميس، 17 أكتوبر 2013 02:50 ص