تتلاحق الأخبار، مما لا يُمكن أى عقل من استيعابها!! كل يوم عدة أخبار مُفاجئة وليس مجرد خبر واحد، يُمكن أن يُشكل كل خبر منها فى حد ذاته مأساة لدولة كاملة، حتى ولو فى حجم الولايات المتحدة، بما تملكه من قوة وجبروت!! انقسامات حادة بين المصريين، على مختلف الخلفيات والمستويات، سواء تكلمنا عن السياسة أو الدين، وربما أيضاً أمور ثانوية لا تمت لكليهما بصلة، مستوحاة بالأساس من الشك المتبادل، بين أشخاص ينتمون إلى تيارات فكرية مختلفة، وربما نفس التيار!!
أحداث قمة فى التفاهة، تتحول إلى فتن طائفية، وأشياء قمة فى الخطورة، تنال استخفاف البعض الآخر. أصبح الكثيرون لا يقبلون الرأى المُخالف، وكلما قال شخص ما كلمة تتعارض مع خلفية أى شخص، يُصبح متهماً، دون دليل، سواءً كان مؤيداً للثورة أو غير مؤيد!!
إلا أننا يجب وأن نتفق معاً على أمور عدة، يجب ألا تتوه عنا فى زحام الأحداث، حتى نحفظ لمصر أمنها:
أولاً: الثورة التى حدثت، كانت ثورة مُستحقة، وجب حدوثها، لأن ما وصلنا إليه من فساد فى الفترة السابقة، كان غير مُحتمل وغير مبرر، إلا لقلة من المنتفعين. وكون أن البعض اختلف مع أسلوب الثورة، فهو أمر مشروع، إلا أن الثورة فى حد ذاتها، كانت فى صالح الجميع، للتخلص من الفساد الذى استشرى فى جسد الأمة المصرية. أما الفوضى التى أعقبت الثورة، والمُستمرة حتى يومنا هذا، فهى ليست وليدة الثوار الأول، ولكن وليدة راكبى الثورة، من صانعى البطولات الزائفة أو من المُستفيدين من إحداث الفتنة فى وسط المُجتمع المصرى من أجل تفتيته إلى جزر منعزلة ومُتناحرة.
ثانياً: يجب التخلص من أزلام النظام السابق بمُحاكمة كبار المسئولين فيه متى ُثبت تورطهم فى الفساد، وبما حواه هذا النظام من جهاز لأمن الدولة، ضل المهمة التى خُلق من أجلها بالأساس، ووجوب محاكمة الفاسد منهم. فمحاكمة كل ضابط مارس التعذيب أو مارس التجسس على حياة المواطنين وروع الآمنين، هو أمر لا يقبل النقاش، لأننا فى النهاية، لا يُمكن أن نُنشئ حياة جديدة بما تحويه من صفحة ناصعة البياض، إلا بأن نُحطم القديم ونبنى الجديد، على قاعدة سيادة القانون، ودستور جديد مُتفق عليه ما بين كافة أفراد الشعب.
ثالثا: اختفاء الأمن من شوارع مصر، مُمثلاً فى قوات الشرطة، ليس فى صالح أحد، أياً كان. ويجب وأن يقوم المسئولون الجدد، بصياغة "عقد اجتماعى" جديد، ما بين الشعب والشُرطة، حتى نستعيد بناء الثقة بين الطرفين، لصالح العباد والبلاد. فاختفاء قوات الشُرطة، ليست فى صالح أحد، ويجب على وزير الداخلية الجديد، أن يستعيد التواجد الأمنى فى شوارع القاهرة، ويُعيد هيبة جهاز الشُرطة، بأن يؤكد على الضُباط وجوب القيام بواجبهم، دون غيره، وأن يقوموا بحماية أمن الداخل المصرى، وعدم المساس بالمواطن المُلتزم بالقانون!!
رابعاً: لقد عاش المصريون طوال العقود الماضية وفقاً لمنظومة فائقة الفساد والإفساد، تم خلالها شغل المصريين بمشاكل مُصطنعة فى كثير من الأحيان، لإلهائهم عن ما هو أهم فى سبيل تحريرهم من القيود التى تُكبل جُزيئات عقولهم قبل أى شىء. ساهم فى تلك العملية من الإلهاء، المنظومة الإعلامية والتعليمية، بالتوازى، وخلقا جواً من الفتن بين الناس، فيما يجذب انتباههم، سواء على مستوى اختلاق الفتنة الطائفية أو الفضائح والمجادلات الفنية والرياضية غير الهادفة، أو عند التضحية ببعض الرؤوس القديمة من النظام، ممن كانوا يُقدمون ككباش فداء. واليوم، يجب تصحيح تلك المنظومات وإصلاحها، بما يستعيد خلق التوعية الهادفة بالفعل لكل المصريين، أياً كانت انتماتهم، ودون أدنى تمييز فيما بينهم.
خامساً: ما نحياه ليس "مرحلة انتقالية"، بقدر ما هى "مرحلة انتقامية"، حيث أى شخص، من ذوى النفوس الضعيفة، بينه وبين شخص ما ضغينة فى الماضى أو يبتغى شُهرة أو بطولة زائفة، يتهمه دون دليل واضح، وهو ما يتعدى على كل المبادئ السامية والأعراف والقيم والأديان، ولا يبنى المجتمع ولكن يهدمه. وقد أدلى الدكتور إسماعيل سراج الدين بدلوه فى هذا الصدد، بكلمات تنُم عن الحكمة فى برنامج "العاشرة مساءً"، حيث قال: "كان فيه انفلات أمنى ثم انفلات إدارى.. دلوقتى انفلات أخلاقى!!.. أقصد أن دلوقتى أى حد بيهاجم أى حد من غير إثباتات ومن غير أدلة، ويكتب كلاماً مُرسلاً أن فلان ده فاسد وفلان ده مش عارف إيه وفلان ده إيه.. وفيه تصفية حسابات كثيرة جداً بتحصل بين الناس وبعضها!! يا جماعة مفروض أن كل حاجة تيجى بالقانون، وعايزين نطهر اللى فات ده كله، بس نطهره بالقانون، لأن سيادة القانون، هى أساس بناء النظام الديمقراطى، فالشباب اللى فجر الثورة، لازم يرجع يحميها تانى فى مسارها، علشان ما تنحرفش عن هذا المسار!!".
سادساً: إن الانفلات والاحتقان الطائفى، السائد فى الشارع المصرى اليوم، لا يُمكنه أن يستمر، ويُشكل استمراره انحرافاً حاداً للثورة عن مسارها الذى رسمه الشباب منذ البداية، مما يؤدى إلى أن العملية التصحيحية الحادثة اليوم تتأثر فى ظل عدم قُدرة أصحاب الشأن القيام بواجبهم، وهو ما سيؤدى إلى عواقب وخيمة، تفوق فساد النظام السابق فى أثارها. هذا بدوره يؤدى إلى أن الجيش يُمكنه أن يتدخل لوقف ما يحدث كبديل لكل ما نطمح إليه من تغيير فى اتجاه الدولة المدنية، مما يُعيدنا إلى المُربع رقم واحد، حيث الحكم العسكرى والأحكام العُرفية.
ولذا يستوجب للحفاظ على الأمن فى مصر، التوعية للجميع بوقف الفوضى. ويستوجب هنا، على الشباب الذين قادوا الثورة فى البداية النزول إلى الشارع المصرى، وعدم ترك ثورتهم فى مهب الريح، لتوعية عموم المصريين، بالتأكيد على المطالب العامة، دون الانخراط فى الشئون الخاصة والفئوية والمُقسمة للمصريين، من أجل الاستمرار فى طريق الإصلاح، بدلاً من الرجوع إلى الخلف مرة أخرى.
يجب أن نقف معاً صفاً واحداً دفاعاً عن مُكتسبات الثورة، مؤكدين على مطالبها، فى وجه الفوضى والعنف وتصفية الحسابات الشخصية والانفلات الأمنى والإدارى والأخلاقى، والانحرافات السائدة بين الكثيرين من أجل ضرب أمن المصريين واستقرار مصر، فى مقتل!!
لقد قُتل الشُهداء فى ميدان "التحرير" بيد مجهولة. والآن جارى قتل مصر التى تُشكل أحلامهم، بيد معلومة!!
القانون وحده.. وليس القيل والقال وإثارة النعرات، هو القادر على حماية الجميع!! فلنقف معاً من أجل أمن مصر!!
ومصر أولاً
• أستاذ علوم سياسية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة