فاجأتنا الثورة جميعاً، لتحدث، مُسقطة تاريخنا الحديث، ومُحدثة تاريخاً جديداً، لنبنى فيه مصر الجديدة المتقدمة حقاً!! لم أُفاجأ بالشباب صراحةً، وقد عملت معهم طيلة السنوات الست السابقة، ورأيت منهم نوابغ، وعند سماعهم اليوم، لا أندهش مما يقولون، لأننى ومنذ اللحظة الأولى، لم أر أن أجندات مختلفة تقف وراءهم، ولكن أنهم هم من انطلقوا ونفذوا بوعى وطنى جارف، من أجل إسقاط الديكتاتورية التى استمرت على مصر 60 عاماً ولكى تُقام ديمقراطية حقيقية، تبنى مصر جديدة متقدمة!
إلا أننا ورغم سقوط التاريخ، فى عدم تنبؤه بالثورة، يجب وأن نستقى من دروسه، سواء الخاطئة أو الصائبة، حتى لا نُكرر الخاطئ منها وحتى نستفيد مما الصائب فيها!! إن لم نتعلم، ونُكرر الأخطاء، فإننا لا نستحق مصر، لأنها أغلى من أن تُعيد تاريخ من الفشل، وتُعانى هزائم وانكسارات جديدة أو مُتجددة!!
لقد كان أحد أهداف ثورة يوليو الانتقام من كان ذا سطوة ونفوذ فى العهود السابقة، فى ظل محاكم هزيلة، كونها ضباط الثورة الذين لم يكن لديهم، خلفيات قانونية، وحاسبوا الناس من العهد الملكى، بشكل سافر، فلما مضى التاريخ، وقال كلمته أضحى جلياً أمام الناس أن الكثير ممن حكم عليهم بالفساد لم يكونوا كذلك، وإنما كانوا نظيفى اليد!! فلقد بُرء الملك مثلاً من قضية الأسلحة الفاسدة فى حرب فلسطين، وكانت من ضمن الأسس التى قامت عليها الثورة!! كما تدلنا كُتب التاريخ أن السياسة الخارجية للثورة فى البدايات استقت من السابقة التى كانت أيام العصر الملكى!!
بالتأكيد كان هناك فاسدون وسيظل فى النظام القادم فاسدون أيضاً!! ولكن كيف الوسيلة للمُحاسبة؟؟! هل القرارات الشخصية هى التى نبنى عليها، أم القانون كما تقتضى الديمقراطية؟ إن أفضل النُظم بها الفساد، وسيظل!! وأفضل النظم، لا تمنع ما حدث فى 25 يناير، حتى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد حدث فيها مثل ذاك الحدث، فى أبريل / مايو 1992!!
فلقد قام القضاء الأمريكى بتبرئة 4 ضباط شرطة من البيض بمدينة لوس أنجلوس ضربوا الأسود "رودنى كينج"، ضرباً مُبرحاً، بسبب تجاوزه السرعة القانونية على موتوسيكل، وقد صور المشهد على شريط فيديو أُعيد بثه على محطات التلفزيون فنزل سكان المدينة فى شبه ثورة على النظام، وقاموا بأعمال عنف وسرقة، أدت إلى مقتل 54 أمريكياً، ونزل الجيش الأمريكى على إثرها فى المدينة، وانتشر فى مدن أخرى وصل إليها العنف أيضاً، مما أدى إلى حظر التجول!! هذا الحدث الشهير حدث فى الولايات المتحدة، صاحبة الدستور العريق، المُستلهم من مُفكرى العقد الاجتماعى، وصاحبة التجربة الديمقراطية التى كانت قد تخطت وقتها 200 عام، والتعليم المشهود له، فما بالنا بمصر وهى تدخل عصر الديمقراطية، ولا تملك مثل تلك الثقافة بعد وتخطو خطواتها الأولى فيها، بعد 60 عاماً من القمع؟؟!!
لقد بدأ البعض، يصممون قوائم سوداء، لمن وقف رافضاً الثورة من بدايتها، بينما يدعون للديمقراطية!! لقد بدأ البعض يُصدر أحكام الانتقام ضد كل من "يعتقد" بعمله مع النظام فيما سبق، وليس هو على يقين من أنه كان تابع للنظام!! لقد بدأ الكثيرون يصنفون وفقاً للمرحلة السابقة، دون أى معيار لسيادة القانون، رغم أنه ركن أساس من أركان الديمقراطية!! لقد بدأ البعض يضرب بعرض الحائط ما كان ينادى به!! وفى ظل هذا كله، أرى المنافقين الذين كانوا من وقت قريب يدافعون عن النظام، وهم يخرجون على شاشات التلفاز ويبكون من ظلم النظام السابق، آكلين على كل الموائد، ومُعلين النفاق قيمة وشعاراً للمرحلة القادمة!! وفى هذا الإطار، أسأل: هل نريد بناء دولة النفاق فيما هو قادم؟؟؟ هل تلك هى قيمة وشعار المرحلة؟؟؟
لقد وقفت فى الأزمة السابقة، مع مبادئ ومطالب الثورة، وفى الوقت نفسه، ضد الرحيل "الفورى" للرئيس، لأكون صادقاً مع نفسى ومع قُرائى، لأننى لن أكذب على أحد لنيل شىء، لأننى لم أنل شئا فى الماضى ولا أريد نيل شىء فى المستقبل، من أى شخص كان، غير خير وصلاح مصر!! لقد رأيت أن رؤيتى، كانت الأسلم، لمصر، من منظورى، ولست تابعا لأحد لكى يُملى علىّ، لأننى مستقل وسأظل كذلك!!
لقد تعرضت للتخوين والوصف بالعمالة، ولكنه شرف على جبينى أن أكون خائناً من أجل مصالح مصر وعميلاً لمصر!! ومن لا يرضى بما أقول، ليفعل ما يريد، لأننى لن أقف أو أدافع إلا عن قناعتى، مدى حييت! لقد أخفق النظام السابق فى الكثير، ولكن لديه إنجازات أيضاً، وتلك طبيعة الأشياء، حيث لكل شىء مزايا وعيوب، فإن كان هناك من يريد أن يُغير طبائع الأمور، فإنه يعمل ضد البشر وليس ضد الديكتاتورية، ويُعلى قيمة الحُكم الأُحادى، ولو باسم الديمقراطية!! فكم من دولة فى الماضى، سمت نفسها بالديمقراطية، وفى النهاية، كانت أسوأ فى نظامها من أسوأ الدول السلطوية، التى سبقتها!!
إلا أننى اليوم، أهتف بأعلى صوتى وأقول: أننى لم أستفد شيئاً من العهد السابق، وأؤمن بالديمقراطية للغاية، ولكنى لا أؤمن بالانتقام، لأنه لا يبنى ولكنه قادر على هدم مصر كلها، وإقامة مجتمع منافق، لا ديمقراطى!! فهل كان هذا من أهداف الثورة؟؟ إن كان الأمر كذلك، فإنى أسحب تأييدى للثورة التى خدعتنا باسم البناء، بعد أن نجحت، ولا يوجد من يمكن أن يتهمنى بالوصولية أو الانتهازية فى تلك الحالة، لأنه النظام السابق وببساطة، قد سقط أغلب أزلامه!!
من يريد البناء يلجأ إلى القانون وليس إلى محاكم التفتيش والانتقام!! من يريد الديمقراطية، يتحمل الاختلاف وليس فرض الاتفاق!! فماذا عسى الناس تريد لمصر المستقبلية؟؟
ملاحظة أخيرة: أرجو عدم المُتاجرة بدماء الشُهداء، ومُطالبة كل مُخالف، بأن يخرس، حين يُساءل ويناقش ويختلف حول قضايا مصر، لأننا مصريون أيضاً، ونُقدر دماء الشُهداء، ولن ننساهم مدى حيينا، ولكن أبداً: لن نُتاجر بدمائهم!!
نحيا اليوم فى عيد الحب: أحبوا بعضكم يا مصريين وابنوا مصر! حاسبوا المُخطئ، وفقاً للقانون!! لا تُقيموا محاكم تفتيش وفقاً للإشاعة!! أبنوا مصر ولا تهدموها!
ومصر أولاً
• أستاذ علوم سياسية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة