أحسست الأسبوع الماضى أننى أحيا فى منطقتنا التى تدين الأغلبية فيها بالدين الإسلامى، مع الاحترام لكل من يدين بغير الإسلام، أقول أحسست، بأننى أجلس فى "ملقف" فتاوى! ففتوى ضد الجدار من الدكتور يوسف القرضاوى فى قطر، وفتوى مع الجدار من مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، وأصبح الجدل بين الكثيرين فى الشارع الذى أُريد تحريكه مع أو ضد، من جراء تلك الفتاوى حول تحريم الجدار أو تحليله، وفقاً لهوى كل اتجاه ليس وفقاً للدين أو الفتوى – المفترض - إنها نابعة عنه، ولكن لمنطق كل فريق ورؤية كل فرد!
والسؤال الذى يُثار فى مثل تلك الحال هو: هل يُمكن أن يصدر من الدين نفسه فتوتين: واحدة ضد الجدار والثانية مع الجدار؟ إننى الآن أتكلم عن الإسلام أيها السيدات والسادة! هل يمكن أن يجيز "الدين الواحد" شيئاً ويحرمه فى الوقت نفسه؟ كيف تتوقعون تناول هذا الأمر من قبل الخارج غير المسلم؟!، هل تتصورون أن شخصاً لم يقرأ عن الإسلام شيئاً سيحترم ديننا بتلك السلوكيات المتناحرة فى التلاعب بدين الله؟!
ولو أننا نريد فهم مدى استقلالية الفتوى المنبثقة عن كلا التيارين فإننا نجد أن الدكتور يوسف القرضاوى، هو "مُنظر جماعة الإخوان المسلمين الأول"، وهو الذى اعتبر مشروع حسن البنا فى بناء دولة دينية فى مصر هو "المشروع السنى الذى يحتاج إلى تفعيل"، ووصف الإخوان بأنهم "أفضل مجموعات الشعب المصرى بسلوكهم وأخلاقياتهم وفكرهم وأكثرهم استقامة ونقاء". وفى هذا الإطار فإن حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، هى ذراع لجماعة الإخوان المسلمين كما هو معروف.
أما مجمع البحوث الإسلامية فهو الهيئة العليا للبحوث الإسلامية، ويؤدى رسالته فى إطار الرسالة الشاملة للأزهر الشريف من خلال مجلسه ولجانه وإداراته المتعددة، أى أن المجمع يتبع الأزهر الشريف وهو أحد هيئاته الذى بدوره يتبع النظام المصرى إدارياً ومالياً.
وبالتالى لا يُمكن النظر إلى كُلا من الفتوتين على أنهما ذوى استقلالية تُذكر! أى أن كلا الطرفين أصدر الفتوى بناءً على تبعيته وليس بناءً على الحيدة المُفترضة، لأنه لا يوجد حيدة بالأساس فى المسألة! فالمسألة فى النهاية، تُعبر بالنسبة لمصر عن مصالح لا يُمكن لأى شخص فى العالم، أن يضحدها من الناحية القانونية، فيما يُستتبع على الدولة، أياً كانت تلك الدولة، من أحقية فى حماية حدودها بالطريقة التى تراها مناسبة، والمسألة بالنسبة للقرضاوى الناطق هُنا تحديداً بلسان الإخوان المسلمين، تعبيراً عن الدفاع عن موقفهم، فى التعدى على الحدود المصرية بالطريقة التى يرونها مناسبة، وهو أيضاً تعبيراً عن خط الفوضى الذى تنتهجه إيران فى المنطقة!
أى أن الفتوتين لم يكونا بدافع من الدين أساسا، ولكن بدافع من مصالح طرفى المعادلة، وهنا أُقحم السياسية فى الدينى! هنا، كان استغلال الدين واضحاً وضوح الشمس للوصول إلى دعم فكرة كل تيار، سواء أكان من المعارضين أو المؤيدين! أى أن الدين استُخدم "كأداة تبريرية" لفعل كل تيار! فهل هذا يصح؟ هل هذا يصح، أياً كان التيار محل الحديث؟ هل أضحى الدين كُرة نركلها جميعاً ثم نضعها "كعبة" لنطوف حولها فى اتجاهين متعاكسين متقاتلين معاً؟ إن كان الشيوخ يرون هذا جائز شرعاً فليفتونا! ولكنى وبعد أن وصلنا إلى التصارع الدينى حول الجدار، أخاف أن يفتى الشيوخ بجواز الإفتاء، فيما يمكنه أن يُغضض، تقاتل المنتمين إلى الدين نفسه، لأنهم باعوا الدين أساساً، بفتواهما، الأولى والثانية! وكان لهم من الأولى، أن يقصوا الدين بعيداً، عما لن يتم تناوله دينياً مهما فعلوا !!!
لقد ظهر جلياً فى أسبوعٍ واحد أننا نحيا فى ظل حرب فتاوى، كانت قائمة فيما سبق على مستويات أقل جدة، ولكنها انفجرت فى الوجوه الأسبوع الماضى، مؤكدة صدق المقولة: "لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين"! فإن كان الأمر كذلك ونحن نحيا فى دولة شبه مدنية فماذا يُمكن أن يكون عليه الأمر لو أننا نحيا فى دولة الإخوان المسلمين الدينية، لقدر الله، وعلاقاتهم سيئة بدولة فى الجوار، وهو ما كان سائداً فى كثير من عصور الخلافة الإسلامية قديماً (أى أن عداء الدويلات الإسلامية لبعضهم البعض ليس بالشىء الجديد)!! ماذا يمكن أن يحدث فى حال الدولة الدينية وحولها نطاق من دول دينية أخرى؟ بالتأكيد، ستنشب حروب فى النهاية! إن ما يجعلنا نوعاً متماسكين، أن الحكم يُستقى على المستوى الخارجى من العقل وليس بمنطق أننا نحكم "بكلمة الله"، مثلما كان فى عصور المسيحية فى أوروبا أو فى عصور انحطاط الدولة الإسلامية أيضاً !
وقد قال الدكتور عصام العريان، القيادى فى جماعة الإخوان المسلمين، المتهرئة بخلافات حول كراسى السلطة فيها، فى هذا الشأن، معارضاً فتوى الأزهر:"مجمع البحوث يتعرض لضغوط وتطويق فى كثير من الأحيان فحين تصله مذكرة من الرئاسة أو المخابرات بأن هذا يضر بأمن مصر ثم لا يتحقق فى هذه القضية فهنا يجب أن يمتنع عن الفتوى حتى يستمع للطرف الآخر فكان عليه أن يسمع لأهل غزة أنفسهم ويرى الأمور كما هى على أرض الواقع... وهو مؤسسة محترمة فكان عليه أن يتريث وألا يكون عجولا". والشئ بالشئ يُذكر، فهل استمع الدكتور القرضاوى، مُنظر الإخوان والمقيم فى إمارة قطر، للنظام المصرى؟ أشك، لأنى تابعت ما قال، سواء أكان فى الفتوى أو خارجها، وكان كلامه سُخرية من الأمن القومى المصرى، وحديث عن مجمل الفلسطينيين، وكأن الأمر بتلك البساطة، وكأنه تناسى تماماً ما حدث من تفجير لحدود مصر مع غزة من قبل حماس فى 23 يناير 2008!! كلام العريان صحيح فى أن كلا الطرفين لم يستمعا لوجهة نظر الطرف الآخر! فمُنظر الإخوان يمضى وفقا لمشيئة جماعته، متناسياً آيات الاستئذان والطائفتان الباغيتان فى القرآن، ومنظرى الأزهر لم يستمعا إلا لصوت الأمن القومى المصرى ولم يسمعا لصوت الآخر، لأن مصر دولة مستقلة لا تأبى بمن لا يستطيع، حتى لو مُنح الدولة، أن يحكُم على أساس كونه رئيس دولة، ولكن وفقاً للمنطق الثورى! الموضوع فى مجمله هو حرب للفتاوى، ورؤية الدين كعصا تخويف وسلطة، دون عبادة! الموضوع برمته ما هو إلا استغلال واضح للدين!
وردود الفعل على كلا الفتوتين أبعدتنا عن مسألة الجدار وأدخلتنا فى قضايا أخرى، وأصبح الأمر تعبيرا عن "فرش ملاية" وردح لا يمت للسياسة بصلة! الكل يحفظ مواقف للطرف الآخر، والكل يريد هزيمة الطرف الآخر بالتجريح، وأصبح الدين هو "الحصان" الذى نركبه جميعاً كى نثبت صحة مواقفنا حيال الفريق الآخر!
والمصيبة السوداء أن "بعض" من يقود كلا التيارين، هم رجال دين! أى أن "الكهنوت الإسلامى" المحرم بالأساس، هو من يقود المعركة، حول الجدار، رغم عدم علاقة الدين بهذا الأمر، وحتى إن كان للدين علاقة به كان من الأجدى ومن أجل الدين ذاته، ألا يدخل الشيوخ فى مبارزة به، مُدمرين اعتقادات الناس بقدسية النص، وعدم جواز التعدى عليه، من أجل مصالح قلة أو كثرة، فى تضاد فريقين بالأمة!
وأنا أحد المؤيدين للجدار، ليس لأنى أرى أن أهالى غزة تهدد مصر، وليس لأننى كنت فى حاجة إلى فتوى تُحلل ما أؤمن به عقلانياً حيال أمن مصر، وليس عنداً فى الطرف الآخر الذى حرم بناء الجدار! لا! لن أنزلق إلى هذا المنزلق، من أجل مصالح ضيقة. لى حجة فى تأييد الجدار، وسمعت الاتهامات بالعمالة والخيانة والقبض من النظام وما إلى ذلك من كلمات، لا يمكن أن ينطق بها إلا ضعيف، لا يملك من أمره حجة، ولى أصدقاء قريبين منى، يقفون ضد بناء الجدار، لا يخونونى ولا أخونهم، لديهم الحجة العقلية أيضاً، وفقا لمنطقهم، ولم يعيروا فتوى تحريم الجدار، اهتماماً، لأنهم يعرفون ويدركون، أن هذا ليس أمراً دينيا، تُصنع فيه طوائف وتيارات جديدة فى الإسلام!
ولدى من يؤيد بناء الجدار معى الحُجة، ولدى من يقفون ضد الجدار الحجة، والاختلاف يُدار بالحوار، وليس بضرب الدين فى بعضه، من أجل أثمان قليلة! أنا أقف ضد حروب الفتاوى وأقف ضد من يستخدم الدين لصالح أهوائه أو لصالح وظيفة تدر عليه المصلحة والبقاء فى المنصب، ولو كنت مُفتياً وأُمرت أن أفتى بفتوى فى تلك المسألة، وأنا أحترم الدين وأقدسه لاستقلت من منصبى على أقل تقدير! لا تدنسوا الدين من أجل أطماعكم، ولتبعدوا الدين عن السياسة والسياسة عن الدين، إلا لو أنكم لا تهتمون بدين الله أصلاً، لأنه وقتها، جدير بكم اللعب مع الشيطان!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة