جلس إلى جوارى على مقهى شعبى قبيل بدء مباراة مصر وموزمبيق التى انتهت بفوز المنتخب الوطنى بهدفين نظيفين، لم أتعود على النزول مبكرا من مسكنى لأشاهد مباراة فى كرة القدم وأنتظرها قبل أن تبدأ بنصف ساعة، رغم ما أعانيه من إصابات فى كاحلى الأيمن"المتجبس" ويدى الشمال"المكسورة" التى تحتاج لعملية جراحية في"الزورقية"، لكن شيطانى ألح على بشدة فتجاوبت معه ضاربا بنصائح الطبيب عرض الحائط .
نظر إلى هذا الشاب (دون الخامسة والعشرين من عمره) ونحن نشاهد الاستوديو التحليلى لقناة الجزيرة الرياضية قبيل المباراة، ثم خاطبنى قائلا:" إن شاء الله مصر هتكسب وهناخد البطولة علشان ولاد الـ(..........دول) بيكرهونا"، التفتُّ إليه ثم بادرته:"يا أخى كلنا عرب وبعدين دول قلة والناس كلها بتحترمنا وبتحبنا"، ضحك ساخرا ثم حاصرنى :"مين اللى قال لك؟..انت سمعت طارق دياب قال إيه لنادر السيد"، أجبته:" أيوه، بس طارق دياب مش هو كل الشعب العربى( لاحظ-وللأمانة- أننى هنا أجيب الشاب درءا للمفاسد وليس اقتناعا منى بأجوبتى فهو معه كل الحق وستعرف لماذا بعد أن تسمع حكايته).
عدلت كرسى وقربته منه، ثم سألته: انت اسمك إيه؟، قال: محمد رجب، دبلوم صنايع، وبشتغل فى مطعم(.....) بشارع "جامعة الدول".
سرد لى محمد واقعتين حدثتا معه، الأولى فى المطعم الذى يعمل به، فقد كان زميله فى العمل يمازحه عندما قال له"انت عملتهم"-يقصد البقشيش- صادف حديثهما وجود "مواطن خليجى"، ثم دار هذا الحوار القصير بين محمد والمواطن الخليجى:
الخليجي: "انت عملتهم؟ انتو عندكم فلوس؟!
محمد:طبعا مصر كلها فلوس
الخليجي: كام يعني.. 100 ألف..مليون؟
محمد(متهكما): انت شايف التاكسيات الخردة اللى ماشية قدامك دي، لو بعناها، فلوسها تشترى بلدكم!
الخليجي(رافعا صوته): انت مش محترم..وهنا تدخل "متر المطعم" منحازا للزبون"اللى على حق طبعا"، ثم اعتذر للخليجى، وقال لمحمد:"انت موقوف عن العمل!".
الموقف الثانى الذى حكاه هذا الشاب"الشهم"، حدث أيضا فى شارع جامعة الدول العربية، عندما وجد أربعة من الشباب الخليجى يتشاجرون مع شاب مصرى اعترض على قيادتهم للسيارة بسرعة جنونية كادت أن تفتك به وهو يعبر إلى الناحية المقابلة من الشارع، ثم تطاولوا عليه وأهانوه و"شتموا مصر أيضا!"، وهنا تدخل مجموعة من الشباب المصري(عيال سيس حسب وصف محمد) وأخذوا المصرى جانبا وقالوا له "عيب يا كابتن دول ضيوفنا برضه!"
لكن محمد رجب الذى أحس بإهانته وإهانة كل مصري، لم يهدأ إلا بعد أن أوقف "الخليجيين" قبيل انصرافهم، ولطم أحدهم على وجهه، ثم توجه الشاب المصرى إلى محمد بعد أن انفض الأمر ليشكره، قائلا له بابتسامة سبقها ألم وأسي:" أنا بشكرك بجد ومش عارف أقول لك إيه..عارف يا كابتن، العيال دول لو كانوا مشوا من غير ما ترجعلى كرامتى كان ممكن يجرى لى حاجة".
هاتين واقعتين من أحداث متشابهة تتواصل يوميا، ودون خجل من الأشقاء، ولا تفرق بين مواطنا مصريا يعيش فى بلدانهم وبين آخر يعيش فى وطنه ووسط أهله و"ناسه"؛ تجاوز الأشقاء المدى، يعوضون غيظ قلوبهم بالأنفة والاستعلاء على كل من يحمل جنسية هذا الوطن، ليس لشئ سوى لأنهم يملكون الدينار والدرهم اللذان نبحث نحن عنهما.
أنا لا ألوم الأشقاء من المشرق إلى المغرب العربي، أنا ألوم ثقافة ورثناها كابرا عن كابر على مدار 30 عاما، حصدناها ذلا، ندفن رؤوسنا مثل النعام، ونشاهد أفلاما هزلية أبطالها دائما مصريون ينتحرون فى نهايتها، حتى الأصوات التى ترتفع منددة بتعذيب طبيب أو إعدام مهندس أو إهانة عمال وطردهم ما تلبث حتى تنخفض خوفا من"التيار العالى" والتقاء مصالح وبيزنس الكبار مع"النفطيين" على أنقاضنا جميعا.
قل ما شئت عن بعض الذين يسيئون إلينا شرقا وغربا، وتحدث دهرا عن المنتفعين والمتاجرين فى شارعى "الهرم" و"جامعة الدول"، و"غرز" الإسكندرية، وتحدث كذلك عن غطرستنا التى يشعر بها هؤلاء فى التعامل معهم، نحن لا زلنا نتشبث بـ7 آلاف سنة حضارة وبالأهرامات التى لم تعد من عجائب الدنيا السبعة، وبالأزهر الذى انزوى فانهار على سوقه، وبالعلماء الذين هرعوا إلى أوروبا وأمريكا يفكرون لهما وينفعونهما، بينما نحن هنا نعانى من ظلام مزمن وتتلقفنا أيادى المتطرفين والبائسين، وتتحكم فينا حفنة من رجال"البيزنس" تحول المشاريع القومية إلى منتجعات سياحية، وتعقد الصفقات، وتوجه الأدوات والأشخاص بأموالها لمصالحها الشخصية، ثم تتصارع على الغانيات و"الغازيات"، وكل لبيب بالإشارة يفهم!
لا يجب أن تمر هذه الوقائع هكذا، ولا أرى مؤمنا بكرامة هذا الوطن ومواطنيه يرضى أن يهان بين عشيرته وأهله، كفانا تواطؤا وخنوعا، لا نريد رواجا سياحيا ولا انتعاشا اقتصاديا من الأشقاء إن كانت "سُررهم" التى ستُفكُّ وتنفق فى مصر تستهدف التعالى والتحقير، نحن نمتلك طاقات وكوادر بشرية وثروات مادية تحت الأرض وفوقها وبحرين ونهر وأعظم وأهم قناة ملاحية فى العالم، نحن نمتلك ما يجعلنا نتصدق على هؤلاء مثلما كنا نتصدق، نحن نمتلك ما يجعل هؤلاء يتعاملون معنا وهم صاغرون.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة