شريف حافظ

مجتمع "الهلا هلا"

الإثنين، 10 أغسطس 2009 07:18 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يُعبر المثل المصرى "من برة هلا هلا ومن جوه يعلم الله"، عن حالة نعيشها منذ زمن كبير، ولم تلغِ الثورة الألقاب إلا على الورق الرسمى، لأن اللقب، ذا أهمية أكبر بكثير من أى شىء فى ظل ثقافة الشعارات الجوفاء، المستمرة معنا حتى اليوم، رغم زوال الحاجة إليها تماماً، بعد دروس مُرة، مرت بها الأمة المصرية. ولعل وقوف كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم سنة 1957 أمام رئيس مجلس الأمة عبد اللطيف البغدادى، ورفض أعضاء المجلس طلبه بتقليل عدد الطلاب الملتحقين بالجامعة، خير دليل على ذلك. حيث قال كمال الدين حسين "قلت، سيتخرج الطلاب من الجامعة دون عمل!" وأجابوا "لا يهمنا حتى إن باعوا طعمية فى الشارع؛ إنهم يريدون الدرجة الجامعية، فى حد ذاتها".

هكذا مضت الدولة والشعب، منذ الثورة تحديداً. ولا يعنى هذا الكلام، أن الوضع كان أفضل حالاً قبلها، ولكن، ما يعنيه، أن الوضع كان أكثر تقنيناً، مما كان عليه بعدها. فما قاله كمال الدين حسين، يُعبر عن أن المحتوى والناتج، لا يهما، طالما أن الحصول على البكالوريوس أو الليسانس، مضمون فى النهاية. الموضوع بعيد كل البُعد، عن الإخلاص، ولكن ذا علاقة مُباشرة بالمظهر والعطايا الموزعة من الدولة، كى يفرح العباد، ويشعروا بالامتنان لتلك الدولة. فليست الجماعات الدينية، وحدها، من يتشدق بالمظهر. فهذا قول مُجافى للحق. إننا جميعاً، وفى ظل ثقافة "الهلا هلا"، نُبَدى المظهر، فوق كل شىء!!

والمدهش، فى ظل كل هذا، أن تخرج علينا التيارات الإسلامية - على سبيل المثال لا الحصر - ومن أجل تحقيق أغراضها فى إحراج سيد القمنى، والذى رأوا، أنهم خاسرون، لو أنهم حاولوا اختراق ما قام به من كتابات علمية؛ أقول، خرجوا علينا للتشكيك فى لقب الدكتوراه الذى حصل عليه، لأنهم أظهروا مدى عجزهم عن اختراق أعمال الرجل العلمية، وأنهم أصبحوا يتعرضون للدين ذاته بالتشكيك فى كتبه، التى لم يقرأوها. والغريب فى الأمر، أنهم يحاولون باستماتة فعل هذا، ولا يتساءلون عن كل التزييف الذى نعيشه، حولنا، وهم بذلك "يمسكون فى الهايفة"، كعادتهم!!

أعنى، أن كل شىء، المفترض أنه يُعبر عن أشياء معينة، ولكنه أساساً شىء آخر. هل كل ما نملك من جامعات، جامعات حقاً (فيما عدا "بعض" الجامعات "الأجنبية")؟ هل كل ما نملك من مدارس، مدارس حقاً؟ هل كل من نملك من أطباء، أطباء حقاً؟ هل كل من نملك من مهندسين، مهندسين حقاً؟ هل كل من نملك من فنانين وفنانات، فنانين وفنانات حقاً؟ هل كل من نملك من وزراء، وزراء حقاً؟ هل الحكومة، حكومة حقاً؟ هل الحركات الإسلامية تُعبر عن الإسلام بحق؟ هل الأحزاب، أحزاباً حقاً؟ بل هل كل من يرتدين الحجاب، متحجبات؟ وهل اللحية والسبحة والجلباب القصير والنقاب، مُعبرين عن الدين بالفعل؟ وهل "الثورات" اللى يقوم بها المسيحيون والمسلمون، على حدٍ سواء، عندما يُغير أحد العباد دينه وينتمى لدين الآخر، "ثورات" للدين بالفعل، أم عصبية عمياء مبتعدة عن أى دين؟ هل وهل وهل.. إلخ! أسئلة كثيرة، لا يجيبها أحد، وكأننا نحيا فى دولة حقيقية بها مؤسسات حقيقية والناس فيها مخلصون بحق!

والسؤال: من نحاول أن نخدع تحديداً؟ هل نحاول أن نخدع الغرب أم الشرق أم المواطنين، الذين يفهمون بأكثر مما يفهم كل المثقفين، مجتمعين، فى تلك النقطة تحديداً؟ فاسأل المواطن، وستجده يقول لك، "هى يعنى بلدنا؟ ما هى بلدهم يا عم!" وبالتبعية للمقولة السابقة "اربط الحمار مطرح ما صحبه عايز!"! هل نحاول أن نخدع "الله"، فيما يتعلق بالمظاهر الدينية؟

لم يعُد أحد يبحث عن المحتوى لأى شىء، بما فى ذلك الدين، وأصبح أهم ما يميزنا - مثل الألقاب التى تتوزع على الميكانيكية والسمكرية وعمال المحارة، راكبى المرسيدس والشيروكى - الشكل، وما قيل عن فلان أو فلانة. نحن مجتمع المظاهر والنميمة والبعد عن الاحترافية والدين! نحن مجتمع، يحكم فيه الجاهل على العالم، ويُخرج الكلام عن السياق! نحن مجتمع "الهلا هلا" وشخصنة الأمور! نحن مجتمع لا يقرأ الموضوع، ويحكم فيه على هواه، من السطور الأولى والعناوين وثقافة السمع والإشاعة! نحن مجتمع نسخر من العلماء ونبجل الراقصات وفنانات الفيديو كليب، مع الاحترام لبعضهم، ممن يقدم فناً حقيقياً! نحن مجتمع الهلس والنكتة وكله عند العرب صابون! ولا تخيل تلك التمثيليات الركيكة، التى يقدمها البعض، ممن يدعون الدين، ويملكون قصوراً من وراء "بيزنس تجارة الدين"، على أى شخص يرى ويسمع، ثم يفكر ويحلل، بقراءة لتراكمات الأحداث!

أى دين، ذاك الذى يأمر بأن يتكسب من ورائه رجل، يخرج علينا بزيه التقليدى، الشامل اللحية والجلباب القصير والسبحة، ليقول لنا فتوى حول "جواز تزغيط البطة"، فى بلد لا يجد فيه أطفال الشوارع ما يأكلونه؟ أى دين هذا، الذى يتنافس فيه رجال الدين حول أجورهم فى الفضائيات، وكأنها شبابيك عرض سينمائى، لكل بطل فيها ثمن وأجر، وفقاً لمدى البُكاء والصراخ، وعدد مرات ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بشجن زائف، أمام المشاهدين؟ أى دين هذا الذى يطلق فيها الشيخ الأحكام، دون قراءة ولكن "طيارى" على شاشة التليفزيون؟ أى دين هذا الذى يتباكى على بول الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما المسلمون يُعانون فى شتى بقاع الأرض (ولا أعرف مدى الاستفادة اليوم، من الحديث عن طهارة بول الرسول صلى الله عليه وسلم! هل هذا سيجعلنا نقضى على الجهل والفقر والمرض؟!) أى دين هذا، الذى يسب فيه الشيوخ بعضهم البعض على التلفاز، وتمتلئ لقطات اليوتيوب بتلك اللقطات؟

هل هذا هو الإسلام؟ لا وألف لا! ليس هذا الإسلام الذى قرأت عنه فى المصحف وكُتب السيرة! ليس هذا الإسلام، الذى حث على التكافل الاجتماعى بين الغنى والفقير! ليس هذا هو الإسلام، الذى حض على العمل والإتقان فيه أو الإخلاص لله! ليس هذا هو الإسلام الذى أمر بالعدل والخير والحكمة والموعظة الحسنة واحترام الآخر! ليس هذا الإسلام الذى أعلى من شأن العُلماء! ليس هذا الإسلام الذى أعرفه والذى قرأته فى كتب شيوخ أزهريين كبار، عندما كان الأزهر أزهراً، وشهد الزمان لهؤلاء العلماء واحترمهم العالم! وليست تلك المسيحية أيضاً، التى تثير الأزمة وراء الأخرى، مع العباد، ضاربة بتسامح المسيح عليه الصلاة والسلام وحكمته، عرض الحائط!

إن المسألة، فى أى قضية كُبرى فى مصر اليوم، ليست مسألة ما يُقال فى الإعلام أو ما يُعبر عنه من قبل الصائحين والمتهافتين. المسألة، أن القضايا، يتم تناولها، من أجل أشياء أُخرى غير ما تحمله فى جوهرها. ولا يوجد من يدافع بحق، عن الدين أو الإخلاص فى العمل خارجه، هناك من يقومون بالدعاية لأنفسهم فقط، ليظهروا مدى تدينهم أو مدى وطنيتهم، فالذى يقوم بضجة إعلامية فجة، وليست عقلانية منطقية تعتمد النقاش الهادئ، إنما يريد الفتنة الدينية أو زعزعة المنطق فى قلب الوطن، رغم أن "الجنازة حارة والميت كلب"!

إننا نعيش فى مجتمع مُدعى فى أغلبه، ولكى نخرج من تلك الحال، علينا أن نُخلص ونلتفت لقضايانا المهمة، فعلى من يريد العلم أن يخلص بالقراءة والفهم والتحليل بين مختلف الكتب والآراء، مُعتمداً المُناقشة والحوار وحق الاختلاف. وعلى من يريد الدين أن يقرأ مُخلصاً لله وليس لسواه، وعلى من يريد الصلاح أن يؤمن به، وعلى من يريد مصلحة الوطن أن يحبه، ولكن لا يمكن أن يستمر الحال هكذا، بالشكل بعيداً عن المضمون! ويجب أن نواجه الحق بعيداً عن التزييف، وندرك أننا "من بره هلا هلا، ومن جوه يعلم الله"، لأن الاعتراف بما نحن عليه حقاً، إنما هو بداية الخيط للصلاح والتغيير!









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة