حين يطالب الكثيرون بتحويل النظام السياسى المصرى إلى نظام «الجمهورية البرلمانية»، يظنون أنهم بذلك يواجهون السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية فى النظام الحالى، متناسين أن هناك نظما كثيرة فى العالم، خاصة تلك التى تحولت متأخرة نحو الديمقراطية، تعرف أنظمة حكم رئاسية ديمقراطية فى أمريكا اللاتينية وأفريقيا، انتهاء بأمريكا وفرنسا وغيرها من الدول الديمقراطية.
والحقيقة أن هناك رد فعل جارفا لدى قطاع مهم من النخبة السياسية المصرية، رفض النظام الرئاسى كرد فعل على موقف قطاع آخر من هذه النخبة استسلم للصلاحيات الفرعونية للرئيس ولم يفعل إلا التسبيح بحمده فى الصباح والدعاء له فى المساء، ونفاقه باقى اليوم.
والمؤكد أن الصلاحيات التى يتمتع بها رئيس الجمهورية فى النظام السياسى المصرى مرعبة وبلا قيود، فقد نص الدستور الحالى الصادر عام 1971 على أن السلطة التنفيذية تتكون من طرفين هما: رئيس الجمهورية والحكومة، ولكن الدستور تضمن نصوصاً تقوى وتوسع من اختصاصات رئيس الجمهورية، فدور رئيس الجمهورية ليس فقط دوراً شرفياً كحكم بين السلطات، كما يقضى بذلك النظام البرلمانى، بل إن دور رئيس الجمهورية فى هذا الدستور هو الدور الأرجح والأقوى بالمقارنة بدور الحكومة، وبالرغم من هذه السلطات الواسعة فإن رئيس الجمهورية غير مسئول سياسياً أمام أى جهة، فى حين أنه من المتعارف عليه أنه لا سلطة دون مسئولية.
لقد أعطى الدستور الحالى لرئيس الجمهورية سلطة أقوى وأكثر اتساعاً لسلطات رئيس الحكومة فى دستور 1923، وذلك فيما يتعلق بالتشريع فى حال الضرورة، فالمادة (147) من الدستور الحالى أجازت لرئيس الجمهورية إصدار قرارات لها قوة القانون (لوائح الضرورة) ليس فقط فى فترة ما بين أدوار انعقاد البرلمان، بل أيضاً فى فترة حل البرلمان، بينما فى دستور 1923 كانت سلطة الحكومة فى إصدار لوائح الضرورة تقتصر فقط على فترة ما بين أدوار انعقاد البرلمان دون فترة حل البرلمان.
وقد أعطيت لرئيس الجمهورية باعتباره رئيساً للدولة مجموعة من الاختصاصات أبرزها:
1 - تعيين الممثلين السياسيين وعزلهم على الوجه المبين بالقانون، كما يعتمد ممثلى الدول الأجنبية السياسيين وهذا ما نصت عليه المادة رقم (143) من الدستور الحالى.
2 - يعلن رئيس الجمهورية الحرب بعد موافقة مجلس الشعب وهذا ما نصت عليه المادة رقم (150) من الدستور الحالى.
3 - يبرم رئيس الجمهورية المعاهدات ويبلغها إلى مجلس الشعب مشفوعة بما يناسب من البيان، ويكون لها قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها وفقاً للأوضاع المقررة، وينبغى موافقة مجلس الشعب على معاهدات الصلح والتحالف والتجارة والملاحة وجميع المعاهدات التى يترتب عليها تعديل فى أراضى الدولة أو التى تتعلق بحقوق السيادة، وهذا ما نصت عليه المادة رقم (151) من الدستور الحالى.
4 - فرق الدستور الحالى بين حق العفو عن العقوبة أو تخفيضها فجعلها من اختصاص رئيس الجمهورية، أما العفو الشامل فلا يكون إلا بقانون وهذا ما نصت عليه المادة رقم (149) من الدستور الحالى.
كما تضمنت صلاحيات رئيس الجمهورية اختصاصات أخرى مثل إصدار اللوائح التنفيذية (المادة 144) ولوائح الضبط التى تحد من الحريات العامة للأفراد (المادة 145)، وتعيين الموظفين وعزلهم (المادة 143)، ويشرف على المرافق العامة (المادة 146) وعلى الجيش باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة (المادة 150 و182)، ويستفتى الشعب (المادة 125).
لقد وضع الدستور الحالى جميع سلطات الدولة وأجهزة الحكم بين يدى رئيس الجمهورية دون أن يكون مسئولاً مسئولية سياسية أمام ممثلى الأمة، ودون أن تعطى سلطات مقابلة لمؤسسات أخرى فى الدولة، بحيث يتحقق التوازن الذى يحول دون الانفراد بالسلطة أو الانحراف بها كالصلاحيات القوية الممنوحة للكونجرس الأمريكى والمحكمة الاتحادية العليا فى مواجهة صلاحيات رئيس الجمهورية فى النظام الرئاسى الأمريكى.
والخطيئة الرئيسية فى الدستور الحالى أن السلطة والمسئولية لا يتلازمان، فالسلطة كلها فى يد رئيس الجمهورية ولا تقتسم الحكومة السلطة مع رئيس الجمهورية، ولكنها تأتمر بأمره وتنفذ كل ما يقوله على طريقة «أحلامك يافندم أوامر».
إن مصر اليوم بحاجة ملحة لقواعد دستورية جديدة لتحقيق الفصل بين السلطات كما ينبغى تعديل بعض مواد الدستور لتحقيق التوازن بين السلطة والمسئولية، وهو أمر وارد فى النظم الرئاسية الديمقراطية وليس فقط البرلمانية.
ولعلها مسألة لا تخلو من دلالة أن نجد أن الغالبية العظمى من بلدان العالم الثالث التى عرفت متأخرة النظام الديمقراطى، تبنت النظام الرئاسى وعلى رأسها بلدان أمريكا اللاتينية، وبعض بلدان أفريقيا وآسيا، كما أن النظام الرئاسى الفرنسى الذى يعرفه البعض بالنظام المختلط، لأن هناك بعض الصلاحيات لرئيس الوزراء، (تجعله أقرب لنا فى مصر)، لا يمكن اعتباره مع النظام الرئاسى الأمريكى نظاما غير ديمقراطى، أو أن إيطاليا وتركيا اللتين تتبنيان النظام البرلمانى أكثر ديمقراطية من فرنسا وأمريكا.المؤكد أن الثقافة السياسية السائدة فى مصر لم ترتح قبل ثورة يوليو لوجود رئيس وزراء منتخب ينازع «جلالة الملك» فى صلاحياته، ومالت دائما إلى الاعتماد على شخص قوى ومحل ثقة وفوق الخلافات الحزبية الضيقة، ويمثل هيبة الدولة ويدافع عنها ويضع سياساتها الخارجية، ولأن الملك لم ينل هذه الثقة فظل الناس ينتظرون «رئيساً مخلصاً»، إلى أن جاء عبد الناصر فأسس نظاما جمهوريا تحرريا كانت فيه صلاحيات رئيس الجمهورية شبه مطلقة معتمدا على شعبيته الواسعة وزعامته التاريخية.
ومع انتقالنا من عصر الزعماء إلى عهد الرؤساء (كما جرى فى معظم بلاد العالم)، فإنه حان الوقت أن تنتقل مصر من مرحلة «الرئيس المخلص» أو «الخالد» إلى «الرئيس المواطن» الذى يحكم ويمثل هيبة الدولة، ويكون قادرا على فرض هيبته على بيروقراطية عريضة للدولة المصرية تجاوزت الآن الـ7 ملايين عامل وموظف فى القطاع العام ومؤسسات الدولة المختلفة، وأصبح من الصعب أن تثق هذه البيروقراطية فى قيادة شخص آخر غير رئيس الجمهورية، ولا يمكن أن تعطى ثقتها لنموذج رئيس الوزراء الذى «يجرجره» نواب (كثير منهم محدودو الكفاءة والقدرات) أمام البرلمان والمحاكم كما تنص دساتير النظم البرلمانية، ناهيك عن أن هيبة موقع رئيس الجمهورية فى بلد مثل مصر تمثل ضماناً لاستمرار عمل أجهزة الأمن والمؤسسة العسكرية والخارجية والقضاء كمؤسسات موالية للشرعية التى يمثل ركنها الأساسى مؤسسة الرئاسة، خاصة أن أى إخلال بهذا الموقع سيضع البلاد على حافة فوضى حقيقية، وسيكون من السهل على موظفى الدولة وأجهزتها السيادية الكبرى أن«تتمرد» أو على الأقل لا تنصاع لسلطة رئيس الوزراء الذى يذهب كل يوم إلى البرلمان للمساءلة أو الاتهام أو لطلب إسقاطه وإسقاط حكومته.
إن كثيرا من المصريين يرغبون فى رؤية رئيس قوى وعادل لا يرتكن إلى ثقافة ما عرف بالمستبد العادل حتى لو استند إلى نظام قوى وعادل، إنما منتخب انتخاباً حراً مباشراً من الشعب فى انتخابات حرة وديمقراطية، ويختار رئيس وزراء ينتمى إلى حزبه أو تياره السياسى «يدير» الحكم اليومى ويواجه المشكلات المعاشة، ويبقى هو بعيداً نسبياً عن هذه النوعية من المشكلات.
إن المطلوب من الرئيس وضع السياسات العامة والتوجهات الاستراتيجية كما أنه لن يكون فوق المحاسبة، لأنه سيكون منتخباً عبر انتخابات حرة ولن يبقى فى الحكم مدى الحياة لأنه سيبقى فقط مدتين غير قابلتين للتمديد، وهو التعديل الدستورى الأهم الذى مازال الحكم يصر على رفضه.
إن إصلاحا دستوريا من هذا النوع سيحترم الثقافة السياسية السائدة، وفى نفس الوقت لا يكون أسيراً لسلبياتها، بل يطورها ويعمل على تجاوز الثغرات الموجودة فيها عن طريق نسف الوضع الفرعونى لمنصب رئيس الجمهورية الخالد الذى لا يتغير إلا بالموت، وفتح باب المنافسة على هذا المنصب الرفيع بين أفضل من فى النخبة، والحفاظ على هيبته كمرجع للأطراف المختلفة فى ظل نظام ديمقراطى. نعم تحتاج مصر إلى إصلاح تدريجى فورى، يعرف حجم التحديات المحيطة وحجم التأخر السياسى والاقتصادى والثقافى الذى عرفته البلاد على مدار ما يقرب من ثلاثين عاماً، ولكنها تحتاج أيضاً إلى الدولة المدنية وإلى نظام رئاسى ديمقراطى، قادر على أن ينقذها من خطر الجمود بسبب نظام الرئيس الخالد الذى لا يتغير إلا بالموت، أو خطر الفوضى مع رئيس حكومة لن يكون قادراً على قيادة جهاز دولة مترامى الأطراف يحتاج إلى هيبة الرئيس وصلاحياته المقيدة.
لمعلوماتك...
◄ 405 عدد النواب الذين وافقوا على تعديل المادة 76
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة