لدى قناعة كبيرة، بأن الإسلام السياسى الحقيقى بدأ يقوى بهزيمة 1967. عندما قام الشيخ محمد متولى الشعراوى رحمه الله، بالسجود شكراً فى الجزائر على الهزيمة، لأنه اعتبر نظام عبد الناصر كافراً. يومها لم يكن هذا شعور الشعراوى وحده، ولكن الكثيرين ممن كان يرى أن الإسلام يُدحر فى أرض مصر بتعذيب الإخوان الذين كانوا يعترضون باستغلال الدين. وأعتقد أنه فى تلك النقطة تحديداً، عند الهزيمة، انقسمت الرؤية الدينية إلى رؤيتين، إحداهما عامة والأخرى خاصة. مثل الأولى، الجهاز الحكومى ومثل الثانية، الشارع. إن ما حدث جراء الهزيمة، هو "خصخصة" للدين على مستوى الشارع، وضعفه على المستوى العام الحكومى المؤمم، لأنه على المستوى الحكومى، خضع أكثر للسلطة ورؤيتها!
ومع خصخصة الدين وبدء استغلاله على المستوى الشعبى، من قبل من يرفضه فى شكله الحكومى، بدأت الجماعات والحركات الدينية غير القانونية، فى استغلال الشريط الكاسيت، فى تسجيل خُطبها، حيث كانت تتناقل بين الناس فى البداية مجاناً، ولكن بعد فترة، أصبحت تلك الشرائط تُباع فى الأسواق، مما يعنى أن تلك الشرائط كان يُحظر بيعها فى البداية، ثم أُجيزت من قبل الدولة نفسها!!
وقد أدرت تلك "البضاعة" الكثير من الربح على القائمين عليها، بحيث أصبح الأمر فى النهاية، مُربحا للغاية مع عجلة النمو العالمى وليس المحلى. فالشرائط فى البداية كانت تُباع منفردة، ثم أصبحت فيما بعد تُباع مجتمعة ثم سى ديهات CD . فلقد رأى "مستغلو الدين" أن يبيعوا الشرائط كأجزاء. كأن يكون هناك جزء أول حول "ماذا تفعل لتدخل الجنة" وجزء ثانى وجزء ثالث وهكذا، مما يدر ربحاً أكبر بالتأكيد، عما لو كان هناك جزء واحد وشريط واحد مُبسط للأمر. وبالتالى، أصبح تعقيد الدين أمرا "يزيد" مبيعات الشرائط الإسلامية وبالتالى أكثر ربحية، وفقا لاعتبارات السوق "الرأسمالية" وليس وفقا للاقتصاد الإسلامى، الذى تنادى به بعض تلك الأشرطة وكل الشيوخ المروجين لها!!
ومع تطور هذه التجارة، أصبح الشيوخ الإسلاميين يُغلفون مجموعة من الشرائط بأسلوب متطور، يناقش موضوعا واحدا، ويظهر على شكل كتاب يُفتح فتجد فيه مجموعة الأشرطة، التى قد يتخطى ثمنها مئات من الجنيهات. ولا أعرف هنا، ما إذا كان هذا يتوافق مع كون الأمر يتفق مع أن الإسلام للناس كافةً أم أنه فقط لمن يملك المال، فى ظاهرة رأسمالية لم تعد بخافية عن أحد! فهل الإسلام ديناً للعالم، أم أنه يفرق بين عالمين، هما عالمى ميسورى الحال والأغنياء من ناحية والفقراء ممن لا يستطيعون شراء تلك "البضاعة" من جهة أخرى؟؟ وهذا بالطبع يحدث بينما ينادى الشيوخ فى تسجيلاتهم المٌباعة، بالمساواة بين المسلمين!!
وقد أوردت مجلة فوربس الأمريكية، مؤخراً، قائمة بأغنى أغنياء العالم العربى، فكان على رأسهم شيوخ الفضائيات من الإسلاميين. بمعنى أن الأمر أصبح مُربحاً للغاية وكأن الدين أصبح سلعة تُباع وتُشترى! وأصبح هناك، "شيخ لكل مواطن"، مثلما هو الحال بالنسبة للمُغنيين فى الفن، حيث "مُغنى لكل مواطن"! وهو بالطبع أمر دال على تفرق الدين بين الناس أو بين "القبائل"، ليصبح "أنواع وأذواق"! فهناك دين متشدد وهناك دين مُعتدل وهناك دين مُتحرر، وهناك الكثير من أنواع الدين فى المناطق الرُمادية بين كل تلك الأنواع! ومثلما نقول عن غياب "الطرب" الجميل بعد أن أصبح لدينا عدد مهول من المغنيين المؤديين للرقص أكثر من الغناء، فإن الدين المعتدل عن حق، غاب مع هذا العدد "المُريع" من هؤلاء الشيوخ، وأنا دائماً أقول، إنما شيخى الأوحد، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتحقق مما قاله عليه الصلاة والسلام، بعقلى، كما قال عليه الصلاة والسلام: "التقوى هاهنا" وأشار إلى قلبه!
لقد سمعنا كيف رفض شيوخاً وشيوخ، الظهور على قنوات الدعوة فى الكثير من الأحيان، لأنهم اعترضوا على الأجر المعروض. فالأمر ليس له أدنى علاقة بما سيقول، ولكن بالأجر مقابل ما سيقوله! أى أن المهم هو الكم وليس الكيف. ولقد رأيت أن أى شخص يتمتع بالقدرة على القراءة الجيدة لكتب التراث، ولديه قدرة تحليلية مع ما يعيشه المجتمع من تخبط دينى، يمكنه أن يقول أفضل الخطب الدينية للناس. وبالتالى الموهبة تكمن فى المقدرة على مواجهة الكاميرا وقول "ما يريد" أن يسمعه الجمهور! وأعتقد أن الناس قد سمعت تلك العبارة من قبل فيما يخص السينما وما يطلق عليه سينما نظيفة وسينما الإغراء!! أى أن هؤلاء الشيوخ، لا يقودون الشارع لما هو صحيح، ولكنهم يُقادون من قبل الشارع ويمضون وراءه لما يريده هو! أى أن الأمر ليس له أدنى علاقة بالدين ولكن بما يطلبه "المستمعون"!
ومواهب الشيوخ تتراوح بالطبع أيضاً، فشباك البيع يزيد ربح الشيوخ المتباكين، بل والشتامون والمتطاولون، على من لا يوافقهم، بحيث يمكنهم أن يلجأوا إلى السب علناً والتكفير، حتى وصل الأمر إلى تكفير "ولى الأمر" فى أزمة الحرب على غزة الماضية. هذا بينما لم يكفر الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى المنافقين، الذين كانوا معروفين لديه!! ولكن مع الاحتقان الدينى، تروج البضاعة الدينية، وكلما أصبح الشيخ "النجم" أكثر جُرأة وتطاول على النظام، كلما اتصف بالشجاعة وزاد جمهوره!! هذا رغم أن المناخ السياسى فى مصر اليوم، يسمح بذلك، حتى لمنادى الجراج، وليس الأمر مقصوراً على هذا الشيخ!
وإذا ما لاحظنا الشيوخ، فإنهم بالأساس ظاهرة صوتية، مثل أغلب زُعماء المعارضة تماماً، وآداة تنفيس للبعض ليس إلا. فقد أصبح الأمر، الهدف منه مجرد الاعتراض على الحال الحالى للأمة، دون إيجاد حلول عقلانية لما نعانيه بالفعل! فهم دائمو الشكوى والبكاء والهتاف، مُذكرين إيانا بوقت كان فيه الهتاف هو أساس العمل السياسى فى البلاد، مما أدى إلى الهزيمة!! وبالتالى، فإنهم أيضاً وضمن ما يقومون به من "تجارة" يؤججون الظروف التى تُمكن الأعداء من هزيمتنا فى مجالات أُخرى، على رأسها العلم، ويستعدون المسلمين على من يدينون بأديان أخرى تحت ظل الوطن الواحد! ولا نسمعهم إلا نادراً يناقشون العلم والعمل والسعى، كما أمرنا الله!!
لقد أصبح لهؤلاء الشيوخ مريدين أقوياء، يدينون كل من يُهاجمهم، لكشف سرهم، ويصفون كل المهاجمين بأوصاف يستنكر المجتمع معها دور العقل، بحيث تقوى شوكة الراديكالية الدينية ضد الدين ذات نفسه، ويظهر دين جديد، ليس بإسلام ولا حتى ديانة سماوية أخرى، وإنما ديانة تحض على كل ما يُحاربه المجتمع من رذائل تحض على الانتقام والعنف والقهر واستعباد الضعيف، كالمرأة والطفل، ومساواة هؤلاء الشيوخ بالرسل والقديسين، بل وفى النهاية بالله نفسه! إنهم يتطاولون على الطبيعة، بل ويتحدثون عن الجنس بأكثر مما تُظهره لقطات الفيديو كليب للمُطربين!! وإنهم يختلقون دينٍا جديدا، سيقضى علينا قبل أن يقضى علينا أعداء الدين من خارجه! فهم خير عون لأعداء الإسلام، بل ووقودهم للقضاء على إيماننا بديننا السمح الوسطى المعتدل!
لقد تحول النظام الاقتصادى للإسلاميين إلى نظام "رقصمالى" وليس "رأسمالى" أو "إسلامى"، فهم يدعون لاقتصاد إسلامى، بينما يستغلون الاقتصاد الرأسمالى وبشدة لا تُضاهى، فى إطار ما يُمكن أن يوصف بالرقص بين النُظم الاقتصادية المختلفة! لقد غابت "القيمة" تماماً عما يفعلون، فى ظل تنازل الكثيرين عن العقول لهم وغياب الفكر القويم فى طول البلاد وعرضها، وفى البلاد الأخرى المحيطة، بحيث ازدهرت تجارتهم واضمحلت مع هذا، قيم التنمية الحقة والثراء الفكرى والدينى المعتدل! إنهم "رجال أعمال" بمرتبة شيوخ، قاموا بترويج فكر جديد، سموه ديناً وخلقوا منه سلعة تُباع وتُشترى، فهل هناك من يستطيع وقف تلك المهزلة أو إيقاظ الأمة من الانزلاق خلفهم للطريق الذى يريدونا أن نسلكه؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة