يُلاحظ فى كل الندوات والملتقيات الثقافية، بل وفى معظم منتديات الحوار التليفزيونية تكرار مقولة إنه لا كهنوت فى الإسلام وإنه دين ليس له آباء يتحدثون بالنيابة عن جماعة المؤمنين، وهو يبث بالتالى رسالة مفادها أن شركاء الوطن عليهم دائماً اللجوء إلى الكهنة والآباء كوسطاء يرجعون إليهم فى كل تفصيلات حياتهم، ليقرروا لهم ماذا هم فاعلون فى كل أمور الدين والدنيا، حيث لديهم وحدهم سلطة الأمر والنهى، حتى بات هناك اعتقاد لدى المجتمع بمدى هامشية دور الإنسان المسيحى، وأن معتقداته وأصول ونصوص عقيدته تقلص من دوره الإنسانى والروحى والمجتمعى.
وكان هناك دائما ما يدعم ذلك التوجه من مرجعيات تاريخية ودينية مثل إحكام قبضة الكنيسة فى العصور الوسطى وادعاء آبائها امتلاكهم صكوك الغفران.. وأيضاً مرجعيات دينية صحيحة تؤكد أن الآباء من القديسين تمنحهم السماء سلطة الحل والربط بين الناس وفق تعاليم السيد المسيح ووصاياه، إلا أن ذلك لا ينفى ولا يتعارض مع أن المسيحية ورسالتها وكل آيات الكتاب المقدس تتوجه بقوة وبشكل مباشر للإنسان كفرد فى كل تعاليمها.
فى الصلاة يدعو السيد المسيح العابد أن يدخل مخدعه ويغلق بابه إذا نوى الصلاة، مما يؤكد مباشرة العلاقة بين الإنسان وخالقه.. وعندما يصلى علمه الصلاة الربانية «يا أبانا الذى فى السموات...» وهى صلاة يشير نصها (كما أتت كاملة على لسان السيد المسيح) إلى مدى هذه الصلة المرغوبة دون وسيط ودون حاجة للتواجد فى الكنيسة لإقامتها. وعندما طلب من المسيحى التصدق والعطاء للفقراء، تم التوجيه بمراعاة أن يكون فعل العطاء فى تكتم يصل إلى حد التأكيد على تعبير «لا تعرف يسارك ما تقدمه يمينك».
وعندما طلب من المؤمنين الصوم كان عليهم أن تبقى وجوههم بشوشة لا تشى بأى عناء أو كدر «متى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يقطبون أساريرهم لكى يبدوا للناس صائمين، الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم، أما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لا لكى تبدو صائماً للناس، بل لأبيك الذى فى الخفاء، وأبوك الذى يرى فى الخفية يجازيك علانية» متى 6: 16 18.
وغير ذلك كثير من التعاليم الصريحة الواضحة التى تتوجه للإنسان بشكل غاية فى الخصوصية والمباشرة ونلاحظ لغة الخطاب «أما أنت...»، «ادهن رأسك».. فلم توجه الرسالة للكهنة كوسطاء بل للإنسان المراد هدايته مباشرة. لقد تعاظم فى الفترة الأخيرة فى الكنيسة المصرية دور الآباء الأساقفة لعدة أسباب أرى من بينها:
1 - أن قطاعا كبيرا من الكهنة قد بالغ الناس طواعية فى تعظيم دورهم، من باب التبرك والإحساس الروحى برسالتهم وأبوتهم، ووقوفهم الدائم بين يدى الله يقدمون القرابين على مذابح العبادة، ونظراً أيضاً لظروف الأمية وتقلص الوعى بأحكام الدين.. ورغم أن المسيحية اشترطت ألا يقيم الكاهن صلاته، قبل أن يعود للناس ليسألهم السماح بالصلاة وطلب الغفران منهم، إلا أن المصلين وعبر كل الحقب الماضية يتعاملون مع الآباء باعتبارهم ملائكة. والحقيقة وإلى حد كبير كان غالبية الكهنة والآباء فى عصور البساطة والتلقائية وروحانية الأداء فى الخمسينيات والستينيات، وحتى السبعينيات كانوا مثالاً للطيبة والحنو والتواصل الإنسانى، حتى ظهرت فجأة نماذج الكنائس الخمس نجوم، والكنائس المنتجة للوسائط الإعلامية والكنائس التى تشتغل بالأمور العقارية والكنائس التى تشتغل بالسياحة والرحلات، وغيرها كثير من الأنشطة باعدت بين الكهنة ودورهم الرعوى بعد انشغالها بأمور تجارية.
2 - وجود قداسة البابا شنودة على رأس الكنيسة المصرية، وهو صاحب الشخصية الكاريزمية الآسرة، وتوجهه للإعلام، وتواصله وتواصل الكنيسة فى عصره مع كل الوسائط الإعلامية بصورة غير مسبوقة، مما جعل من رؤساء الكنيسة الأساقفة وبعض الكهنة نجوما تتصدر صورهم الصفحات الأولى من جرائدنا، وتتسابق إليهم كاميرات فضائيات الإثارة، قد عظم من قدرهم عند المواطن، المشاهد والقارئ، فزادت مساحة التبجيل، ثم كانت الفضائيات القبطية، فصاروا القاسم المشترك فى كل فقرات برامجها ضيوفا ومنتجين ومقدمين للبرامج!!.
3 - لأننا نعيش فى مجتمع تنتشر فيه الأمية الهجائية والثقافية والدينية، وأيضا يحوطنا من كل صوب دعاة الدجل والشعوذة والتطرف، كانت الكنيسة بالطبع هى الملاذ الآمن، وكان الأساقفة والكهنة باعتبارهم آباء اعتراف، هم النموذج الروحى النبيل غير المسموح بمناقشتهم فى أمور إدارتهم للكنيسة!.
على صعيد آخر شهدت الكنيسة فى الفترة الأخيرة مواقف وأفعالاً وإرسال خطابات إعلامية غريبة فى مناخ انفتاحى غير مسبوق.. وكان من أبرز رجال المرحلة الأنبا بيشوى أسقف البرارى، الذى أثار الجدل المجتمعى لمواقف عديدة فاجأ بها الشارع القبطى، بل والشارع المصرى، لما طرحته من علامات استفهام كنت قد تناولت بعضها فى العديد من الكتابات، وكذلك عرض لها الكثير من الكُتاب، لا مجال لإعادة سردها.
إلا أن ما نُشر مؤخرا فى جريدة روزاليوسف ولم ينفه الأسقف تحت عنوان «الأنبا بيشوى يرفع شعار الرهبنة هى الحل»، هو ما أثار دهشتى، ما حكاية هذا الرجل؟ وماذا يقصد فى النهاية من دعوته لتكريس حالة من الانزواء والاختفاء لأبناء الكنيسة فى الوقت الذى يطالب فيه الأقباط بتوسيع دوائر المشاركة والانخراط فى المجتمع، بالإضافة إلى أننى أرى الرهبنة واختيار دربها يتم طواعية باختيار شخصى، فى الخبر المنشور يحرض نيافته الفتيات المسيحيات على عدم الزواج واتخاذ الرهبنة طريقاً لهن بدلاً منه مؤكداً أن الرهبنة أفضل من الزواج ألف مرة. وهى دعوة تؤكد أن دعاة التشدد فى كل دين ومذهب، وفى كل زمان ومكان، مازالوا للأسف يرون أن المرأة أينما تحل باتت تمثل كائناً مثيراً للمشاكل للعائلة بل ولمجتمعها، وعليه فنيافته يدعونا للتخلص من حالة الخوف من فقد البنات لعفتهن، وللحفاظ على بكارتهن بإرسالهن إلى الأديرة «ويادار مادخلك شر» وهنا يحق لنا أن نسأل نيافته:
◄ماذا يتوقع نيافة المطران إذا استجابت البنات لتحريضه، وماذا سيكون حال شبابنا بعد اختفاء البنات؟!
◄لماذا إذن يطالب رعاة الكنيسة المصرية بزيادة عدد الكنائس، إذا كان من المخطط وفق دعوة نيافته ذهاب نصف المجتمع المسيحى إلى الأديرة بعيدا عن كنائس المحروسة؟
◄هل يرى نيافته أنه قد آن للأقباط الاختفاء التدريجى من على أرض المحروسة بعد الحكم برهبنة المرأة نصف المجتمع؟!
◄ألا يدرى نيافته أبعاد ما يتحدث به وأثره فى جموع الشباب، عندما يحرضهم أيضاً على كراهية الزواج، لدرجة الذهاب إلى التأكيد على أن طقس الزواج ليس فرحاً فى المسيحية، بل طريقا للندامة، مع أن من آيات الكتاب المقدس «ليكن الزواج مكرماً عند كل واحد..» عبرانيين 13: 4 وفى آية أخرى «ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا، لأن الزواج أصلح من التحرق» 1 كو 7: 9.
◄ألا يبدو الأمر غريبا حيث الزواج يعد واحدا من الأسرار المقدسة، إلا أن نيافته يصفه قائلاً: «يعنى الزواج أملة بلا خيبة»، ويسترسل الأنبا بيشوى فى تصريحاته متهما مشروع تحديد النسل بأنه سبب زيادة عدد النساء.. ولا أفهم كيف؟ ويقول إنه لا حل سوى رهبنة البنات.
بهذه المفاهيم العجيبة يبشر نيافته الناس بالنكد، بعد أن أحال زواجهم وإنجابهم ومعاشراتهم الإنسانية الفطرية إلى حالة من التعاسة، وهى الأمور التى تمثل المتع الحلال الوحيدة التى يمنحها وييسرها المولى للفقير مثل الغنى، وهى التى تسرى عنه وتنسيه أعباء وهموم الحياة فيتباهى بين أقرانه الفقراء بالزوجة الطيبة والذرية الصالحة التى يعدها من أعظم إنجازاته على الأرض.. ويا نيافة المطران الناس مش ناقصة نكد وإحالة مناطق فرحهم إلى محطات تعاسة.. حرام.
ويا نيافة المطران لقد انتقدتم ماكس ميشيل عندما أكد على الآية التى تقول «فيجب أن يكون الأسقف بلا لوم بعل امرأة واحدة صاحياً عاقلاً محتشماً مضيفاً للغرباء صالحاً للتعليم» وأكدتم بدوركم أنه لا أسقفية للمتزوج، إلا أن تصريحاتكم الأخيرة وغيرها من كلام غريب تطرحونه فى عظاتكم تجعل الناس يميلون لأهمية الرجوع لإعمال هذه الآية حتى لا يطالب الآباء المطارنة بتحريم المتع الحلال، لأسباب قد يتم تفسيرها بأنها جهل بأشياء لم يعيشوها أبعدتهم عنها حياة الأديرة.
فليعد الرهبان لحياة النسك والعبادة فى أديرتهم، ويتركوا الناس يعبدون الخالق العظيم بطريقتهم وكما علمهم السيد المسيح فى كتابه المقدس، فى كنائسهم مع كهنة ورعاة يعيشون نفس ظروفهم مع الاكتفاء باحترامهم، وألا يضعونهم فى مراتب غير مراتب البشر وحتى لا يُصدموا عندما يرون صور بعضهم فى صفحات الحوادث، مرفقة بإعلانات من الكنيسة تحذر الناس من التعامل معهم.