كانت إسرائيل، وما تزال، واقفة على الباب. مُسلّحة بكامل عتادها ونواياها، وتتحيّن الفُرَص لخَرق الأقفال أو نُقب الجدران. والمُؤكَّد أنها تعرف ما تريده دائمًا؛ إنما لا تتوافر لها الظروف الموضوعية طوال الوقت، أو تغيب عنها الوصفة المثالية للتوصُّل إلى أهدافها من أيسر السُّبل وأسلمها.
لهذا؛ كانت تتحرك ببطء واحتيال، وتتباطأ اضطرارًا على الأرض، فيما تشتعل أطماعها نارًا فى الصدور. هكذا كان الوضع إلى ما قبل الوقوف على عتبة الطوفان، وأن يمنحها يحيى السنوار ورجالُه هديتهم المجانية بمكرمة عظيمة، ويوسّعوا لها نافذة جانبية تحملهم إلى ما قصّرت فيه الطرق الاعتيادية، وما كان ضربا من الخيال قبل أقل من سنتين فقط.
يعرف الفلسطينيون جميعا أنهم فى مواجهة غير متكافئة، وكل الذين اختبروا الدولة العبرية لا شكوك لديهم فى نواياها. فرض الصراع شروطه على الضحايا، وأقساها أن يكونوا عرضة للجنون الدائم، ومُطالبين بالتعقل أيضا.
والموازنة بين الضدين إنما تقتضى المراوغة لأجل النجاة وإبقاء القضية عند منسوب آمن، والنضال بكل صوره الخشنة والناعمة لكى لا يعتاد المظلوم على مظلمته ويرتاح لها، أو تتكلس الخرائط وتضمر السردية.
والمهمة إن بدت صعبة أو مستحيلة؛ فإن الانسداد والاستحالة لا يبرران أبدا الانقلاب على المعادلة المختلة، طالما لا يملك المنقلب مقدرة التصحيح، ولا ضمانة لديه باجتناب التردى وعدم التعرض لمزيد من الاختلالات.
يعود جانب من المشكلة إلى انعدام الخبرة السابقة، وعدم امتلاك تجربة قريبة للقياس عليها. لقد نُكبت فلسطين مع فاتحة مسار التحرر فى المنطقة؛ إنما على غير مثال من أى احتلال عرفته البيئة العربية سابقا، أكان مع الرجل العثمانى المريض أم الأوروبيين الهابطين على تركته القديمة.
وقد تصوّر الباقون فى عُهدة الانتداب البريطانى أن الغلاف المحيط تحرك بعيدا، وتركهم يرزحون تحت القيود التى عرفوها وعانوا منها معا.
فيما كان الواقع يتشكّل على صورة مغايرة تماما، باستدعاء ديموغرافى ليكون شريكا أو بديلا، وضمن صيغة إحلالية لا تسعى إلى الهيمنة ومص الدماء فحسب، بل إلى إن تكون عنوانا زمنيا جديدا للمكان وذاكرته الغائرة فى التاريخ، أى أن حضوره لا يتحقق إلا بغياب الآخر أو تغييبه، ما يعنى أنها منازعة فى الوجود لا الحدود.
لكن الفخ أن التسليم برؤية العدو يقود إلى استنزاف مرهق وممتد، ولن ينتهى لصالح الضعيف قطعا، فيما الالتجاء إلى الحدود الدنيا من الحقوق المتاحة سيُغرى الطامعين بالمزيد، وعليهم التوفيق بين المستحيلين بما يصون ولا يُبدد، ويطيل الأمد بلا تعجل؛ لربما تتحسن الظروف وتعتدل التوازنات.
تعقد الواقع بما يتخطّى طاقة الخيال وقدرته على الاستشراف والنظر فى البدائل الممكنة. استهلك الرعيل الأول عقدين فى بناء تصوُّر مقاوم، ومثلهما من التخبط والصراعات الجزئية مع الجوار القريب، وحين صفت التجربة بدخول منظمة التحرير فى طور النضج، حالت كاريزما عرفات دون إشراك القوى الوطنية كلها فى منافع الخبرات المكتسبة، أو احتواء النافر منها، وتذويب الخطابات كلها فى سردية وطنية واحدة.
وكان من نتاج ذلك؛ أن وجدت التيارات الأصولية موطئ قدم لمنازعة القيادة، وإبقاء الصراع مربوطا إلى ماضيه وإرثه العتيق، ثم تعميم رؤيتها المغلقة على الفضاء العام بعد رحيل النجم الأوحد.
ومن جديد، تجلّت أزمة التوقيت وفوارق السرعات؛ فكما تحرك العرب وتركوا فلسطين خلفهم، تحركت القيادة العائدة من الشتات وخلّفت بعض الأجنحة الراديكالية من اليسار واليمين، وكلاهما كان يقرأ من كتاب لا ينتمى للحاضر المعيش، ويستضىء بصراعات وتجارب تحررية تجاوزتها وقائع المأساة الفلسطينية.
وليس أدل على ذلك من أن حماس ما تزال متمسكة بسردية الوقفية الإسلامية، وبعض أطيافها يعتبرون فلسطين قاعدة للخلافة العثمانية الضائعة، أو منطلقا لأستاذية العالم على الطريقة الإخوانية وشعارات حسن البنا.
وأيضا ما يَحتجُّ به البعض على كارثة الطوفان وتداعياتها، من أن النضالات الوطنية مكلفة بطبعها، ولا تتعمّد الأوطان إلا بالدم والتضحيات الغالية، مستشهدين فى أوضح مثال يسوقونه بالثورة الجزائرية التى انتفضت على نحو 130 سنة من الاحتلال الاستيطانى.
ولأجل استقامة المقال، يتجاوزون بالضرورة، ومنطق التدليس والتسوية، حقيقةَ أن النسخة الفرنسية فى بلد المليون شهيد كانت فرعا على أصل، ولم تكن وطنا بديلا، أو وحيدا كما فى حالة الكيان الصهيونى الذى بدأ مصطنعا وملفقا، لكنه آل فى النهاية إلى وضعية الدولة المستقرة، ولا مصلحة من إنكار تلك الحقيقة؛ لأنها لا تغير واقع إسرائيل، بقدر ما تُضلل المشتبكين معها والساعين للإفلات من أجندتها الدموية المتوحشة.
وعلى ما فات؛ فالطوفان كان مجرد عرض عن المرض، وليس العلة التى تعانيها فلسطين فى المرحلة الحالية من صراعها الوجودى الطويل. ولا جدال فى أنه كان نتاجا للاحتلال وقيوده الثقيلة وحصاراته الخناقة؛ لكنه استجاب للأزمة بأردأ الطرق وأكثرها سوءا، وبما يُعمّق المأساة بدلا من تفكيكها أو البحث عن حلول عملية لتخفيف أعبائها أو احتواء آثارها الجانبية والتعايش معها.
ما يسمح بالقول إن حماس/ التركيبة والذهنية لا الحركة فقط، كانت مكونا أصيلا بين عناصر المشكلة الراهنة، ليس لأنها اختزلت الحق وانفردت به فحسب، ولا لأنها سيئة كالمحتل الغاشم؛ إنما لكونها تمثّلت به، واستعارت صورته فى مجالها القريب، وسَعَتْ إلى منافسته فى التناطح الصفرى الضار بالقضية، وفى إعادة إنتاج سلسلة القهر وتشظية القضية وإضعافها من الداخل، ولا معنى هنا لحُسن النية أو فسادها؛ طالما النتيجة واحدة فى الحالين.
أزمة الذهنية الأصولية أنها تتعبد بالوسائل أكثر من الغايات. يشغلها المظهر عن الجوهر، وتركز على صفاء العقيدة من منظور دينى وحركى، لا من منطلق وطنى موسع وإجماعى. والانغلاق على الذات يعزلها عن حركة الواقع والتاريخ، ويورطها فى التفكير الرغائبى والافتتان بالذات على حساب الوطن والقضية.
ومن هنا؛ كان الاستقلال بغزة مقدما على التوافق ووصل المنقطع من الجغرافيا وبين القوى السياسية، وفى سبيل تثبيت سلطتها لا مانع من التنكيل بالمعارضين وتطويحهم من أعالى البنايات أو سحلهم وراء السيارات فى شوارع القطاع.
لا مانع أيضا من التوافقات الناعمة مع الاحتلال، والانتفاع بحقائب الدولارات التى يمررها أو تصاريح العمل الممنوحة للحماسيين وغيرهم.
أما الصورة الفاقعة فكانت فى حربين سابقتين على حركة الجهاد الإسلامى، نأت فيهما حماس بنفسها عن المواجهة، وعملت تحت سقف الترتيبات الأمنية التى تجنّبها الأعباء ما تجنّبت الانخراط بإرادتها.
أى أنها قسّمت البلاد والعباد كما فعل العدو، واستباحت مثله دماء الأبرياء، ولجأت إلى الحياد فى أزمنة الحرب إسقاطا لفرض الأخوة ونصرة المظلوم، وكان صعبا عليها التوفيق بين خطابها القيمى وسلوكها البراجماتى، ثم لاحقا أن تطلب من الآخرين أداء ما امتنعت عنه، أو الامتناع عما ذهبت إليه بقرار قصدى وإرادة خالصة.
وسواء عرفت أم جهلت وتجاهلت؛ فقد كانت عونا للاحتلال من زوايا عدة: أولها التضامن مع اليمين القومى والصهيونى المتطرف ضد مسار أوسلو، ثم اجتراح فتنة الانقسام وشق الصف، والشراكة المباشرة فى إضعاف السلطة الوطنية وتطويق المنظمة ورام الله بالدعايات، فيما يُطوقها العدو بالاستيطان والمُجنزرات.
وكلها شواهد تقطع بأن فلسطين ليست قضية واحدة فى وعى التنظيم، وغزة مجرد ثغرة لإبقاء الأيديولوجيا ولو تفسخ نسيج الوطن.
وهو ما يمكن الوقوع عليه فى تصريح القيادى محمود الزهار بأن المسألة كلها ليست أكثر من «المسواك فى الفم»، وكمال معناه فى حديث خالد مشعل عن أن النكبة الدائرة فى غزة مجرد «خسائر تكتيكية»، أو غيرهما ممن قالوا إن المساعدات رزق المجاهدين، أو القتال اختيار حتى آخر طفل، أو أن الإنفاق لحماية عناصر القسام أما المدنيون فحمايتهم على كاهل المجتمع الدولى.
وبإيجاز شديد؛ فالعدوان الحالى على غزة يقدّم صورة فجّة عن نوايا الصهاينة ومخططاته، لكنه ليس رأس الأزمة ولا ذروة سنام الصراع. إسرائيل غول لا صنعة له إلا القتل والافتراس، وقد توحَّشت غرائزها مع إحلال اليمين المتطرف بديلا عن اليسار الذى كان أقل تطرفا.
جانب من الصعود يعود لطبيعة الكيان نفسه، وبعضه يُرَد إلى التغذية الراجعة من تيارات الأصولية الحماسية ورديفاتها. وأقصى جدل ممكن هنا أن يُثار سؤال الدجاجة أم البيضة؛ إنما فى النهاية سنجد أننا نقف فى القلب من دائرة مُغلقة، ومحيطها موصول ببعضه ضمن لعبة تخادُم عفوية أو مقصودة، يصب أحد طرفيها فى خزّان الآخر، ثم ينزح منه لاحقا.
نتنياهو وتيَّاره عنوان على الجانب الأكبر من الأزمة، ويقابله السنوار وهنية سابقًا، ثم الحيّة ودائرته لاحقا، ولا أُفق للحل حتى الآن، إنما لا هامش لافتراض أى بديل من دون كسر الحلقة الصلبة بينهما، وباعتبار أن اللعب فى الجناح البعيد من المعادلة ليس فى متناول الفلسطينيين وحدود قدرتهم، فالأوفق والأوجب أن يُعاد تكييف الجناح القريب.
كانت الأوضاع معقدة؛ وصارت أكثر تعقيدا. وبدلا من سؤال السياسة والقوة، صرنا إزاء امتحان الوجود والعدم. وشرط الاستنقاذ اليوم بات مركبا أشد التركيب: انتشال القطاع أولا، ووصله عضويا مع الضفة الغربية، وتمكين إدارة سياسية قادرة على احتواء التداعيات، ثم إعادة استنهاض المشروع النضالى بما يحفظ الحق فى المقاومة، ولا يُبدد المتاح جريا وراء المستحيل.
لا يمكن أن تعيش فلسطين وتُواصل رحلتها نحو التجسُّد من دون الثلاثية الشرطية: إقليم وشعب وحكومة، أى لا عَيشَ مع الإبادة الجماعية، أو بدون مرافق ومُؤسَّسات، ولا بمعزلٍ عن حقِّها فى اختبار وتجربة كل السبل الكفيلة بالدفاع عن نفسها.
وما فعلته حماس ليس كارثيا لجهة إخراج نفسها من المشهد فحسب؛ بل لأنها ستفرض ترتيباتٍ شديدة القسوة والضيق على البيئة الفلسطينية من بعدها: الأسوأ فيها النزف المتواصل والتقويض طويل المدى، وأقلها وطأة العودة لما قبل أوسلو والمنظمة ووسائل المقاومة الخشنة.
فكأن الحماسيون من حيث أرادوا تفعيل التراكم وصرفَ رصيده كاملاً؛ تسبَّبوا فى تبديده دفعةً واحدة، وإعادة المسار التحرُّرى عقودًا للوراء، وربما إلى نقطة الصفر أو دونها للأسف.
وفيما كان السنوار يتقصّد تسييل الخرائط قسرا، وإشراك الجميع فى معركة غير محسوبة تماما، وعلى توقيت الحركة أو حلفائها فى الممانعة؛ فقد تسبب فى إهدار حصيلة العقود الماضية لدى الفصائل فى غزة وخارجها، وفتح مسار عريض وثب منه الصهاينة على المحور الإيرانى وامتداداته، وكسروا الهلال الشيعى من خاصرته الشامية، ولم يعد لحكام غزة ظهير وراء النهر والبحر، أو فرصة للاحتفاظ ببقايا قواهم المتداعية فى القطاع.
وبافتراض أنهم كانوا واعين لفروق القوة الفعلية، ويعرفون أن الولايات المتحدة لن تخذل حليفتها مثلما خُذلوا من الممانعين؛ فإن الغرض الوحيد المتخيل من مقامرة الطوفان أن يتورط الجميع، وأن تصير دول الاعتدال فى حزام الممانعة جبرا، بما يعنى أن تتكبد تكاليف المواجهة المباشرة مع الاحتلال، أو تتحمل أعباء الدعاية والمزايدات العاطفية وتنوء بأثقال ما جنته حماس على حاضنتها وفلسطين.
والمفارقة أن القوى التى أُريد توريطها، تضطلع اليوم وحدها بمهمة الإنقاذ وحراسة الوديعة الفلسطينية. لا أحد تضرر ماديا ومعنويا كما تضررت مصر، فخُصِمَ من اقتصادها وأمنِها ومصالحها الحيوية، وشُنَّتْ عليها حروبٌ دعائية بالغة الوقاحة، لكنها ما تزال المُدافِعَ الوحيد عن بقاء الغزِّيين على أرضهم، وتُوصِدُ الأبواب التى سمح الطوفانُ لنتنياهو بأن يتسرّب إليها، وترسمُ خطوطها الحُمر بالدبلوماسية ورسائل الردع.
ومُؤخّرًا دخلت دولة الإمارات على الخطِّ بقوّة، عندما أعلنت أن الحديث عن ضم الضفة الغربية وغور الأردن خط أحمر، ويهدد اتفاقات إبراهيم ومسار الإدماج الإقليمى، ما كان سببا أو واحدا من أسباب كبح زعيم الليكود، وسحب خطة الضم من طاولة الكابينت مؤقتا على الأقل.
وذلك فضلاً عن احتضان السردية وتسويقها، والجهود المُكثّفة لإعادة إحياء «حل الدولتين»، منذ وضعته القاهرة على طاولة قمّتها للسلام بعد أسبوعين من الطوفان، مرورًا بموجة الاعترافات المُتلاحقة، وإلى المؤتمر المُرتقب داخل الأُمَم المتحدة بالتزامن مع جمعيتها العامة أواخر الشهر الجارى.
الموجة عالية/ موجة الطوفان وارتداداته طبعًا، ويزيد من اندفاعاتها ما تُوفّره واشنطن من غطاء سياسى وحربى، ثمّ دخولها الفج على خط الإزاحة الديموغرافية وتبييض جغرافيا غزة من ساكنيها.
تبدّل الصاخبون من الصمود والتصدّى، إلى المُمانعة والشيعية المُسلّحة، وكانوا ينزلقون فى واقع الأمر من سيئ إلى أسوأ. لم يكُن التعقُّل تفريطًا أو خذلانًا للقضايا الكبرى؛ بل استشعارًا للتوازنات ومحاولة للإفلات من الكمائن سابقة الإعداد، ومن اقتراحات أردأ كانت تتوالى على الطاولة، كلّما فوّت الجالسون خيارًا أقل من طموحاتهم الطوباوية.
لا خدمة تقدّمها لعدوٍّ أقوى وأشرس؛ أكبر من الذهاب إليه مواجهة معه بقانونه، وعلى الطريقة التى يُحبّ، ولا جهاد أصعب من مجاهدة النفس، وأن تردّها عن الضلال والخيارات المقيتة والمُميتة؛ كلّما أغراها شيطان الشعبوية والخطابة المُتأجّجة بالقفز فى النار.
دول الاعتدال لا تحارب ضد عدوٍّ غذّاه السنوار ورُعاتُه بطاقةٍ استثنائية فى المكان والزمان غير المُناسِبَين فحسب؛ بل ضد رواسب الأُصولية المتعالية على ما تسبَّبت فيه، والرافضة للاعتراف بالخطأ والبحث فى تصويبه.
وبقدر الوضاعة فى نسبة الاستفاقة الضميرية عالميًّا لنزوة حماس لا لدماء الضحايا، فليس أوقح من أن يتلاقَى خطاب الإخوان مع حكومة نتنياهو، أو أن تظلَّ الراياتُ الفصائليّةُ ومصالحُها مرفوعةً فوق تلال الردم والأشلاء، وبعد التيقُّن التام من أنها كانت ذريعةً وخنجرًا فى الخاصرة.
عندما قال نتنياهو مُؤخّرًا إنه مُستعِدّ لفتح معبر رفح فورًا للراغبين فى المغادرة؛ لكنه يعرف أن مصر ستُغلقه فى اللحظة نفسها. كان يعترف صراحةً بأنه صاحب قرار الإغلاق من الجهة الفلسطينية، وبأن البوابة المصرية مشرعة طوال الوقت؛ لأنه لا معنى لإغلاق المُغلَق أصلاً كما تزعُم دعايات الإخوان ومن يقفون خلفهم.
تلفظ غزة أنفاسها الأخيرة، وثمة فريقٌ يرى حفَّارى القبور وسُرَّاق الأرض واقِفِين بالمناجل و«ماكيتّات» الريفييرا المُبتغاة؛ إنما لا ينزلون عن أوهام التلويح بعلامة النصر، ولو لم يجدوا شِبرًا يقفون عليه أو يُلوّحون منه.
غزّة أكبر من حماس؛ لكنها ليست فلسطين. لا معنى للدولة إن بقى شطرٌ منها تحت موت عميم، ولا دولة أصلاً إن عُزِل عن الشطر الآخر؛ ولو كان سليمًا مُعافَى، فما بالك أنه فى أسوأ حال، وبينه والفناء فوّهة دبّابة تضخُّ لهبًا، أو فتحةُ نفقٍ ترفل فى النكبة وتُكابر.
لا نكاية ولا غرام بالاتهامات؛ إنما بحث فى الوقائع ودفعٌ للذرائع.. أخذت الحركة الطاهرة النقية غير المُستتبَعة أو المُؤَدلَجة فرصتها كاملةً؛ فما أقامت سنغافورة على الساحل، ولا أعادتها تحت جناح الضفة يخوضان حربًا واحدة، ولا قاومت بحقٍّ أو أحجمت بعقلٍ، وأورثت الواقعين قهرًا تحت سُلطتها ما لم يُسعدهم لحظةً، وسيُشقيهم عقودًا.
كانت لُعبةً وانتهت بخسارة واضحة، وعلى أصحابها الخروج منها بأقل التكاليف المُمكنة، وهى تنحصر الآن فى عدم إبقاء القطاع يومًا إضافيًّا تحت المأساة الراهنة، وتوحيد القوى الذابلة فى رأس واحد له من الصفة والمشروعية ما يُساعده على البروز من بين الأنقاض، دون أن تقصفه سكاكين الصهاينة.
نتنياهو يخسر داخليًّا، وأمام القوى العربية الوازنة، وفى ساحات العالم المفتوحة عن آخرها، ويربحُ فقط فى مواجهة حماس، وواجبها أن تكون عليه لا معه، وأن تُعين مُحاصريه بدلاً من إعانته عليهم أو مشاركته فى كَسر الحصار.
مَظلمةُ الغزِّيين تكفى وتفيض، وحرارة البيئة الدولية ليست أبديَّةَ الصلاحية، وسواء أخطأت البندقية أم أصابت؛ فأنفع ما تُقدّمه اليومَ لفلسطين وأهلها أن تترُكَ المجال لتفاعُلات السياسة والقانون، وحبَّذا لو أَعْفَتهم من قيود الماضى، وتركت القضية تتنفَّس غبار الزمن الذى غُيِّبَت عنه طويلاً.
الحقوق عادلة راسخة، معروفة لغاصبيها قبل أصحابها. والمُؤكَّد أنها ستُعيد اختراعَ نفسها فى صيغةً أمضى، وستتوصَّل إلى مقاومتها الفاعلة؛ إنما من منظورٍ وطنىٍّ لا يستحلب الأوهام ولا يُخاصم العصر، بكلِّ سوءاته الخفيّة والمُعلنة، وعلى اتّساع غاباته التى كانت مُوحِشَةً وازدادت وحشةً، وما ازددنا فيها بخرائط الأُصوليَّةِ إلَّا ضياعًا وتضييعًا.